سراب البراغماتية الفلسطينية
بدأت في الآونة الأخيرة وللأسف الشديد تتنامى وتتسع وتنتشر ظاهرة الكتابة حول البرغماتية الفلسطينية وضروة التمسك بها والسير على خطاها وهداها ، بل إن هناك من بات يدعو ويروج لها لتصبح سلوكا ، ونهجا وحيدا في إدارة شؤون هذه القضية و مستجداتها التي يمكن أن تطرأ عليها بين الحين والآخر ،
هذا ولقد وجَدت هذه الكتابات في عملية التصويت الأخيرة التي جرت في الجمعية العامة للأمم المتحدة بمنح فلسطين صفة العضو المراقب فرصة ثمينة وتربة خصبة ، ولذلك راحت تتعاطى مع الحدث على أنه الإنجاز التاريخي الذي لم يكن ليحلم به أبناء هذا الشعب الصابروالمنكوب .
هذه الكتابات وأصحابها لا يتحرجون أبدا من تقديم عملية التسوية السياسية وبكل ما فيها من إتفاقيات مشبوهة ، ومفاوضات عبثية ، وسلام فارغ ، وأمم متحدة منحازة للجاني ، ودولتان هزليتان ، وتنسيق أمني ذليل ، ومنع انتفاضة ، وفساد ، على أنها السبل الوحيدة القادرة على إيجاد الحل لهذا الصراع المحتدم منذ أكثر من ستة عقود
وقد يذهب بهم خيالهم للقول بأن الفلسطينيين قد ارتكبوا خطأً إستراتيجياً عندما رفضوا قرار التقسيم الذي صدر في عام 1947 ، ومن هنا فقد تصبح كل تجربة الثورة الفلسطينية ومنظمتها وفصائلها في نظرهم محط علامة إستفهام وتعجب .
في نظر هؤلاء قد يصبح كل هذا المشوار الطويل من النضال الوطني وما رافقه من تضحيات ، ومجازر ، وجرائم ، حالة عبثية لم يكن لها ما يستدعيها ما دامت المؤتمرات ، والإتفاقيات ، ولقاءات الموائد المستديرة بين الطرفين الفلسطيني والصهيوني كافية وتفي بالغرض ، و كفيلة بالوصول إلى الحل وبغض النظر عن طبيعته وخسائره وما قد يرافقه من تنازل وبيوعات
فلماذا كان يستشهد هذا الفلسطيني إذاً ؟ ولماذا حمل السلاح وقاتل وتخطى الحدود المصطنعة وهو يحلم بالعودة إلى أرض الوطن ؟ وما هو الفارق يا ترى بين سردين الأمم المتحدة ودقيقها الذي قدمته للنازحين في مخيمات الشتات والشقاء بعد نكبة الإغتصاب وبين هذه الدولة الغيرعضو التي تأتي اليوم لتقديمها لهذا الشعب ؟!
هذه هي فحوى وجوهر هذه البراغماتية التي يريدون تمريرها ، إنها دعوة صريحة وواضحة بالإستسلام التام لهذا العدو وبالإنصياع الذليل لكل شروطه ، وعليه ، فإن من يتحدث عن فلسطين التاريخية من البحر للنهر ، ومن يتحدث عن إدامة الصراع والمقاومة ورصاصها الطاهر هو في حكم الخارج عن هذه الواقعية التي برعوا في تفصيلها حسب قناعاتهم ووجهة نظرهم
هم في نهاية المطاف يطالبوننا بتقديم الورود لعدونا مقابل كل جريمة يرتكبها بحق الحجر والشجر والبشر لكى نحافظ على هذه الواقعية التي لا عيون تستطيع رؤيتها سوى عيونهم ، ولا تستطيع سوى عقولهم فهمها وإستيعابها ، ولذلك فالخارج عن ذلك عندهم متهم بالتطرف والرؤية الضيقة حتى يدين بالولاء لواقعيتهم ويستسلم لطرحها الإنهزامي .
وهذه الفئة وللأسف لم تعد حكراً على جزء معروف ومكشوف في الوسط الفلسطيني لأنها تمددت حتى أصبح لها سند ورديف عربي ، وإسلامي ، فالبعض من العرب الفاقدين لعروبتهم لم يعد يعنيهم سوى التصالح مع هذا العدو وإقامة علاقات التطبيع معه وعلى أكثر من صعيد ، وكذلك هو الحال عند بعض الذين يختبئون وراء عباءة الدين والذين يخشون حتى من مجرد إطلاق فتوى تبيح الجهاد والقتال ضد الصهاينة على أرض فلسطين
وهم يعلمون أن شيئا كهذا وإن حصل فسوف يزلزل الأرض تحت أقدام الصهاينة ، لكنهم و للأسف الشديد يتمنعون عن إطلاق العنان له ، لأن في ذلك ما يضر بمصالحهم وإمتيازاتهم ، هؤلاء وللأسف حتى صوتهم لا يصل إلى مستوى التأييد للصراع الفلسطيني ولذلك تراهم صامتين بل ويلوذون بالفرار والهرب في كثير من الأحيان .
ولأن البراغماتية ليست لهؤلاء وحدهم ، وليست حكرا عليهم من دون الآخرين ، فسوف تبقى لنا واقعيتنا وكما نريد نحن لها أن تكون ، هكذا نراها في عيون الأمهات والآباء وصغارنا الذين لا يعرفون طعم النسيان ، و من هذه الواقعية رضعنا حليب النضال النقي الصافي
و من الوفاء لدماء الشهداء وعذابات الضحايا أخذنا العهد على أنفسنا أن لا نخون أبدا ما قدموه رخيصا لترابها الغالي ، من البنادق الحرة التي ولدت من فوهاتها هويتنا ، من الإصرارعلى الوجود الذي لن نسمح له بأن يتحول إلى نزاع على حدود نتقاسمها مع قردة وخنازير الصهاينة ، من شمالها إلى جنوبها ، ومن شرقها إلى غربها ، هي لنا ، وإلينا ستعود ، ولن نفرط بحبة واحدة من ترابها رغما عن كل هذه البراغماتية التي يدعوننا إليها .
فلسطين الوطن الواحد الذي لن ينشطر إلى دولتان مهما حاولوا ، فلسطين الشعب الذي يؤمن بالعيش المشترك مع كل شعوب العالم في حب وأخوة وسلام ، ولكن تحت علم دولته المستقلة الكاملة ، وتحت راية الكيان الفلسطيني الذي لن يقبل التجزئة
ومهما طال أو قصر الزمن ، فهذا البحر سيظل لي ، كما نصت كلمات درويش التي تفيض بأجمل لغة واقعية وصادقة ، لكنه ذنبكم يا سادة ، فأنتم لا تفهمون على معانيها ، ولذلك فلكم طريق العبث والسراب ، ولنا طريق الحق والإيمان بالتحرير القادم لا محالة .