البخيت : وصفي التل رمز وطني ترك بصمات واضحة في تاريخ بلدنا

جراءة نيوز - اخبار الاردن :

أقيم في منتدى «الدستور» مساء أمس السبت، منتدى خطابي وشعري بمناسبة الذكرى الحادية والاربعين لاستشهاد المرحوم وصفي التل رئيس الوزراء الاسبق الذي اغتيل في القاهرة يوم 28 تشرين الثاني 1971 اثناء مشاركته في اجتماع مجلس الدفاع العربي المشترك.

واستهلت الندوة باستعراض نبذة عن حياة الشهيد التل عبر فيلم وثائقي أعدته «الدستور» بهذه المناسبة وتناول محطات مهمة في تاريخ الشهيد ودوره الوطني والقومي في الدفاع عن عروبة فلسطين والتصدي للمشاريع الصهيونية.

وتحدث رئيس الوزراء الاسبق د. معروف البخيت في الندوة التي ادارها الزميل د. مهند مبيضين، عن تجربة الشهيد وصفي التل وفكره العسكري، مؤكدا أن تجربة الشهيد، الذي وضع فكره ومواقفه في سياق وطني، لو تم الاخذ بها في حينها لتغير الكثير ولما وصلت الامة لما هي عليه الآن.

وأشار البخيت الى تمحور كتابات الشهيد التل حول القضية الفلسطينية وتصديه للمشروع الصهيوني استعدادا لمعركة المصير وتحرير فلسطين انطلاقا من علم وصفي وثقافته ومعارفه العسكرية الواسعة، مبينا أن الشهيد التل تمتع بمهارات عقلية مكنته من القدرة على التحليل الاستراتيجي اضافة لخبرته ومعرفته بأمور الميدان والتعبئة الصغرى وسعة اطلاعه على شؤون علم الحرب بشكل شامل.

وجزم العين البخيت بعدم وجود أي مسؤول سياسي أردني رفيع بحث ودرس وحلل وكتب ونشر حول قضايانا الوطنية أكثر مما فعل الشهيد وصفي التل، إضافة الى تمحور جل كتاباته حول القضية الفلسطينية من موقعه كصاحب مشروع قاتل وناضل وجادل واستشهد من أجله، معتبرا أن ثقافة ومعارف الشهيد وصفي التل العسكرية جاءت حصيلة تدريبه العسكري واهتمامه الشخصي وقدراته الذهنية وتوفر دافعية ذاتية لديه.

الشاعر حيدر محمود قرأ قصائد مهداة الى روح الشهيد التل منها قصيدة بعنوان «يا دار وصفي» و«أَبكي على أمّةٍ».

وتاليا كلمة الدكتور البخيت:



وصفي التل مقاتلاً عسكرياً ومفكراً استراتيجياً

- ان الحديث عن رمز وطني أردني، بحجم وصفي التل، وبالاساس حول شخصيته وتاريخه القتالي وفكره العسكري، يطول، ويتطلب قدراً كبيراً من الدقة والتبصر والحكمة، والحديث عن هذا الجانب من نضال وفكر وصفي، هو حديث يمس تاريخنا الوطني وتلك الجهود الاردنية والمواقف التاريخية للاردن: قيادة هاشمية ونخباً ومواطنين في الدفاع الشجاع البطولي عن عروبة فلسطين، قتالاً باسلاً، وصدقاً ووضوحاً فكرياً. وهو جانب مهم وموثق، لولا أنه، وبكل اسف، كان عرضة للاجحاف من قبل البعض، أو التجاهل من قبل آخرين.. وفي محطات عديدة، لأسباب سياسية أو دعائية آنية، ومواقف التطرف الكاذب، وخداع النفس، والتضليل، وتبرير العجز.

- انني ادرك تمام الادراك، صعوبة الحديث عن الجانب العسكري في شخصية وصفي، بعيدا عن فكره وآرائه ومواقفه السياسية، لأن الصفات العسكرية في شخصية وصفي وفكره كانت حاكمة وطاغية وأثرت في كل تفاصيل حياته، وكما سيتبين لاحقاً.

- ومع الاخذ بهذا التحوط، يبقى القصد هذا، اتاحة الفرصة امام الاجيال الشابة والقادمة، للاطلاع على تجربة وصفي الوطنية، ووضع فكر الشهيد ومواقفه في السياق الوطني الاردني، وهكذا، لا بد من الوقوف على الآراء والافكار التي قدمها الاردنيون في القضايا المصيرية للامة، التي لو تم الاخذ بها في حينها لتغير الكثير، ولما وصلت الامة الى ما هي عليه الآن.

- وقبل الدخول في صلب الموضوع، لا بد من تسجيل جملة من الملاحظات:

أولاً: لا اعلم عن اي مسؤول سياسي اردني رفيع، بحث ودرس وحلل وكتب وحاضر ونشر حول قضايانا الوطنية اكثر مما فعل وصفي التل.

ثانيا: تمحورت كل كتاباته حول القضية الفلسطينية، تحليلا لفشلنا وعجزنا عن الدفاع عنها والوقوف بوجه المشروع الصهيوني، واقتراحاً لمشروعات عربية استعداداً لمعركة المصير وتحرير فلسطين، يكون الاردن فيها رأس الحربة ومفتاح الصدام، فهو إذن، بهذا المعنى: صاحب مشروع، قاتل وناضل وجادل واستشهد من اجله.

ثالثا: ان علم وصفي التل وثقافته ومعارفه العسكرية الواسعة والعميقة، لم تأت من تدريبه العسكري او خدمته في الجيش البريطاني وجيش الانقاذ، فحسب، وانما يقيناً، هي حصيلة اهتمام شخصي وقدرات ذهنية، وتوفر دافعية ذاتية قوية لديه.

رابعا: تمتع وصفي بمهارات عقلية مكنته من القدرة على التحليل الاستراتيجي، اضافة لخبرته ومعرفته بأمور الميدان والتعبئة الصغرى، وسعة اطلاعه على شؤون علم الحرب بشكل شامل. لقد كان مهتماً بالفكر العسكري وبالتاريخ العسكري، وبشكل خاص الحروب الاوروبية.

تشكيل شخصية وصفي التل

- لقد كان لظروف نشأة ودراسة وصفي، تأثير بالغ وملحوظ في تكوين صفاته العسكرية والقيادية، ولد عام 1919 في بلدة عربكير في شمال العراق، وعاش حتى عام 1924 في منزل جده لأمه الكردي ابراهيم بابان. فاذا سلمنا بأن شخصية الانسان تتشكل في السنوات الاربع او الخمس الاولى من حياته، فهذا يفسر وجود بعض الخصائص الكردية لديه من مثل الصلابة والعناد التي تميز بها طيلة حياته. يضاف الى ذلك، اذا ما صحت الرواية بأن جد وصفي قام بحسبه ذات يوم مع أفعى وطلب اليه ان يقتلها، فان هذه الحادثة تدل على سمات شخصية الجد من جدية وصلابة، وشخصية وصفي الذي نجح في التحدي. هذا، وعندما عاد وصفي الى اربد لم يكن يعرف العربية، ولكنه بارادته القوية تأقلم بسرعة مع زملائه خاصة عندما التحق بمدرسة اربد.

- ظهرت عليه في تلك الفترة صفات الاستقلال والعناد وحب الابتكار، اثناء دراسته، في الطفولة والشباب، كانت هناك جملة من الحوادث والمواقف، اظهرت الميول العسكرية والقيادية لديه.

الحياة العسكرية

- كان وصفي يؤمن، وربما بتأثير من مبادىء القوميين العرب، بأن من الواجب ان يتم تأهيل قادة عسكريين يتولون مسؤولية القيادة في المواجهة المصيرية، وهذا التأهيل لن يتم الا من خلال الالتحاق بالجيوش النظامية، ويبدو انها كانت امنية لديه ان يصبح ضابطاً ويكتسب خبرة ميدانية.

- في صيف عام 1942، حدث تحول في حياة وصفي، اثر حادثة تتعلق بوالده، قضى وصفي فترة في سجن المحطة الى جانب والده، وانهت بذلك عمله في سلك التعليم، بعد ذلك، تقدم وصفي بطلب للالتحاق بالجيش العربي، الذي كان يمر في مرحلة توسع وتطوير، الا ان طلبه رفض بداعي سياسة عدم قبول الجامعيين في الجيش.

- في ذلك الوقت، فتح الجيش البريطاني باب التطوع، فلم يجد وصفي مجالاً الا الالتحاق بالجيش البريطاني مع اكثر من عشرة آلاف عربي، اغلبهم فلسطينيون. هذا وكانت قيادات حركة القوميين العرب تشجع وتحث على الالتحاق بالجيش البريطاني بهدف التدرب على حمل السلاح، واكتساب الخبرة القتالية استعداداً للمعركة المقبلة، واسوة بما كان يفعل اليهود.

- التحق وصفي بفرع الكلية العسكرية البريطانية في صرفند في فلسطين، في اواخر عام 1942. وشارك في دورة المرشحين لمدة خمسة اشهر تخرج بعدها برتبة ملازم ثان. قال السيد فؤاد طهبوب، احد زملائه في الكلية: «كان وصفي من القلة القليلة، من الفئة المختارة الذي ادرك ضرورة التدرب على حمل السلاح، ومن الفئة الشجاعة ايضا». وقد وصفه بأنه كان يعمل بجد وحماس على استيعاب الدروس النظرية والعملية، حيث كان التدريب شاقاً، والواقع، لقد تميز الجيش البريطاني، دوماً، بالتدريب القاسي العنيف، والتقيد الدقيق بالاعراف والتقاليد الصارمة، مع الالتزام بمنهجية تفكير تعتمد العقل المنظم.

- مع نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، بدأت بريطانيا بتسريح معظم قواتها، فخرج وصفي من الخدمة بعد ثلاث سنوات وصل فيها الى رتبة «كابتن» نقيب. لقد استفاد من هذه الخبرة العملية، ورسخت لديه منظومة القيم العسكرية الصارمة من انضباط التزام واحترام الوقت وطريقة التفكير المتسلسلة الواضحة، ويقيناً، ان هذه التجربة تركت آثاراً عميقة واضحة في اسلوب تفكيره وعمله.

- ما بين عامي 1945- 1947، عمل في المكتب العربي في القدس والمعني بشرح القضية الفلسطينية، وبادارة موسى العلمي، اعجب العلمي بذكاء وحماس وصفي وتم تعيينه في مكتب لندن. واللافت للنظر في هذه الفترة، ان وصفي بادر بتقديم مذكرة الى العلمي شرح فيها اسلوب مواجهة القوات الصهيونية واقترح انشاء قوة عسكرية فلسطينية، تتألف من وحدات مقاتلة صغيرة لمواجهة التنظيمات العسكرية اليهودية.

- في تشرين الثاني 1947، اتخذت هيئة الامم قرارها بتقسيم فلسطين، عند ذلك، قررت جامعة الدول العربية تشكيل لجنة عسكرية مقرها دمشق، والتي بادرت الى دعوة المتطوعين القادرين على حمل السلاح للالتحاق بجيش الانقاذ، كانت هذه هي الفرصة التي انتظرها وصفي واستعد لها، فكان في طليعة من لبوا النداء ليلتحق بجيش الانقاذ.

الخبرة القتالية

- بدأ وصفي عمله باشغاله موقع ركن عمليات تحت قيادة اللواء اسماعيل صفوت، رئيس اللجنة العسكرية، ولاحظ وصفي منذ البداية، جهل القيادات المسؤولة عن التخطيط في جيش الانقاذ بالمعلومات عن العدو وقواته. ولهذا كان اللواء صفوت شأنه شأن العديد من كبار العسكريين والسياسييين في ذلك الوقت يميل الى الاستهانة بالقوات اليهودية. وبدأ وصفي يشرح لهم عن امكانيات اليهود العسكرية وتشكيلاتهم ذات التدريب الجيد. اثر ذلك, بادر كعادته، وقدم تقريراً مفصلاً، شاملاً تقدير موقف للطرفين، ومقترحاً خطة عمليات للجيوش العربية، واوصى ان يتبناها اللواء صفوت وان يعرضها على القادة العرب.

- كانت الملامح العامة للخطة تقوم على ان تتقدم القوات السورية واللبنانية وكذلك جيش الانقاذ من الشمال، على ان تقود التقدم قوة مدرعة عراقية لاحتلال مدينة حيفا، وان يقوم الجيش المصري، بنفس الوقت، بالتقدم على المحور الساحلي لاحتلال مدينة يافا، اما القوات الاردنية والعراقية، فتعمل على احتلال مرتفعات القدس واجتيازها وصولا الى البحر. ويتضح في الخطة امران: الاول ان الهدف من احتلال يافا وحيفا هو حرمان القوات اليهودية من استخدام الموانىء الرئيسية. اما الامر الثاني: فهو ادراك وصفي لاهمية مرتفعات القدس استراتيجيا، اذ أن من يسيطر عليها يسيطر على الساحل الفلسطيني غرباً. ولكن، ولسوء الحظ، لم يعرض اللواء صفوت الخطة على اي قائد عربي، بذريعة انهم لو اطلعوا عليها لاحجموا عن ارسال قواتهم للجبهة!

- وعلى كل الاحوال، بدأ جيش الانقاذ عملياته، قبيل دخول القوات العربية في 15 ايار 1948، في مناطق وسط فلسطين. فشل جيش الانقاذ، وانهزم في اولى معاركه وهي معركة الزراعة، وبعد ذلك في معركة (مشمار هاعيميك). في نفس الوقت، لم تهتم قيادة جيش الانقاذ بمعارك القدس التي كان يخوضها عناصر من جيش الانقاذ مع متطوعي الهيئة العربية العليا، كما انها ارتكبت اخطاء عسكرية فادحة في معركة حيفا أدت الى سقوطها، واجمالا فشل جيش الانقاذ في كل المعارك والمواقع، مما ادى الى سقوط مدن فلسطين الرئيسية، يافا وحيفا وعكا وطبريا وبيسان، ومعظم مدينة القدس، في ايدي القوات اليهودية، قبل دخول الجيوش العربية، مما ادى الى صدور قرار انسحاب جيش الانقاذ من فلسطين وعودته الى دمشق لاعادة التنظيم.

- اثر دخول الجيوش العربية الى فلسطين، ظهرت الحاجة للاستعانة بجيش الانقاذ لدعم الجيشين السوري واللبناني، في هذه المرحلة، كان قد تم تعيين وصفي التل قائدا لفوج اليرموك الرابع. وشارك فوج وصفي في الهجوم الناجح لاعادة احتلال المالكية، باقتحام مكشوف جريء ومفاجىء، وبشكل صاعق، ادى الى هزيمة العدو وانسحابه بشكل غير منظم، ومع ان المعركة كانت مثالية، الا ان قيادة جيش الانقاذ لم تقم باستثمار الفوز ومطاردة فلول العدو.

- بعد ذلك، قاد وصفي فوجه في معركة الشجرة. وقاتل وفوجه ببسالة وشجاعة نادرة؛ حيث اصيب بشظية بقيت آثارها في رجله. لكن الاصابة، لم تمنع وصفي من الاستمرار بالمشاركة في المعارك اللاحقة. اندفع بعد ذلك الى ترشيحا وسخنين مواجها القوات اليهودية في سلسلة من المعارك. وعن شجاعة وصفي في هذه المعارك، قال أحد رفاقه: «لم اعرف احدا فاق وصفي بشجاعته وجرأته وحكمته في القتال».

- وعندما صدر قرار جيش الانقاذ في 29/10/1948، بانسحاب قواته الى جنوب لبنان، بداعي الخوف من تطويقها من قبل العدو، رفض وصفي الاوامر، وناقش وتساءل كيف ينسحب وقواته لا تزال صامدة، وتتمتع بمعنويات عالية، ولم يتمكن العدو من التقدم خطوة واحدة! يضاف الى ذلك وجود قوات في حالة اشتباك مع العدو وليس من السهل انسحابها قبل ان تقطع التماس مع العدو. لقد ارسل للقيادة رسميا موضحا عدم ضرورة الانسحاب ومؤكدا استعداده للقيام بهجمات معاكسة، ومع اصرار القيادة على الانسحاب، كان فوج وصفي آخر من انسحب من الجليل الى لبنان.

- فيما بعد، انتقل فوج وصفي الى الجولان، وكان وصفي قد اصبح في هذا الوقت برتبة مقدم. في تلك الفترة، قام الضابط حسني الزعيم بانقلاب عسكري في سوريا في 30/3/1949. وعندما وصلت الى وصفي انباء المحادثات التي كان يجريها حسني الزعيم لفرض الهدنة، غضب وعرض على ضباط الفوج فكرة انتقال الفوج الى منطقة نابلس لاستئناف القتال. وافق الضباط وبدأ الفوج بالاستعداد لتنفيذ الفكرة، علمت القيادة السورية بالامر، فاستدعت وصفي وامرت بسجنه في سجن المزة، وبعد فترة تم ترحيله للاردن.

العودة الى الاردن

- عاد وصفي وابتدأ حياته مرة ثانية بالوظيفة العامة، وخلال الاثنتي عشرة سنة التالية، تقلد وصفي مسؤوليات عديدة وفي مواقع مختلفة سياسية واعلامية ودبلوماسية، وصولا الى تشكيله الحكومة لاول مرة عام 1962.

- حين عاد الى الاردن، كانت هزيمة 1948 قد تركت اثرا بالغا في نفسه، ومع ان الهزيمة عامة لكن وصفي المقاتل المحترف اعتبرها مأساة شخصية. لقد كتب في عام 1950 عدة مقالات في مجلة الهدف الاسبوعية التي كانت تصدر في القدس عن قصة جيش الانقاذ؛ اعتبر وصفي ان جيش الانقاذ في تشكيله وقتاله وهزيمته، برهان واضح على خطأ اجتهاد الجامعة العربية في السياسة والحرب وفي تقديرها للموقف في فلسطين.. مؤكدا ان اي دراسة لهذا الجيش تظهر بوضوح خطوط الهزيمة التي رسمها العرب لانفسهم في فلسطين. وبين انه من الظلم ان نتهم نحن عرب فلسطين بالضعف، واننا نتحمل قسماً من مسؤولية الهزيمة، وسنوجه التهمة نحن لانفسنا وبصورتها الصحيحة.

- وعلى مدار 13 عددا نشر وصفي بحثا عن جيش الانقاذ، اتسم بالصراحة والصدق مع النفس، استعرض في بحثه طريقة تشكيل جيش الانقاذ والعقبات التي واجهت التشكيل، واسلوب التجنيد والتدريب، وتشيكل القيادة، مستعرضا بالتفصيل المعارك التي خاضتها تشكيلات الجيش، واقفا على اسباب الهزايم في معظم مجرياتها.

- توصل التل الى القناعة بأن هزيمة جيش الانقاذ سببها عدم استخدام امكانياتها المتوفرة، وان عدم استعمالها عن عمد او اهمال امر أشد ألماً من الهزيمة نفسها. ومع هذا، فهو يعتقد انه عندما نسخر كل امكانياتنا ونضعها بوعي وتصميم في المعركة، وعندما نعمل بجد ومسؤولية ونفشل، فلا مجال للوم النفس.

- لقد فند وصفي كل اعذار المسؤولين عن فشل جيش الانقاذ، التي تركزت في نقص الضباط والقادة وقلة الجنود المدربين وكذلك قلة السلاح. وبين ان الضباط اصحاب الخبرة موجودون ولكن لم يتم جمعهم، ولم يتم بذل جهد حقيقي لتدريب المتوفر منهم. اكد على انه كان هناك في فلسطين 28 الف مجند سابق في الجيش البريطاني او قوة حدود شرق الاردن، لم تعمل قيادة جيش الانقاذ على استدعائهم او جمعهم. اما بخصوص قلة السلاح، فاوضح وصفي ان هذا عذر لا يستند الى الواقع، لأن تجار الاسلحة تقدموا الى كل الدول العربية بعروض لتأمين الاسلحة. ولكن الجامعة العربية تلكأت وترددت في اتمام الشراء. ووصف قصة شراء الاسلحة بالمؤلمة والطويلة، وبأنها كانت سلسلة لا نهاية لها من الاخطاء والحماقات والسرقات، مؤكدا بأن السلاح كان متوفرا، ولا يحتاج سوى جهود مخلصة مصممة على شرائه، وخلص وفي الى القول: «لو ان عدواً لنا كلفناه باعداد خطة لهزيمتنا، لما استطاع ان يبدع في وضعها مثل ما ابدعنا نحن في سوق انفسنا لهزيمة مخزية مخجلة».

- على انه عاد ونشر سلسلة من المقالات عن اسباب فشل الجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948 في صحيفة «الرأي» التي اصدرها القوميون العرب في عمان عام 1953، وفي صحيفة «الحياة» اللبنانية في عام 1955.

- ويمكن اجمال رأي وصفي بأسباب هزيمة 48 بالنقاط الرئيسية التالية:

1- جهل العرب الخرافي بالمعلومات عن العدو وامكانياته، وهي الاساس في تقدير الموقف في الحرب. لقد بلغت اللامبالاة الى حد ان جيشين عربيين اشتركا في الحرب، ولم يكونا يمتلكان خرائط عسكرية لفلسطين!.

2- ضعف القدرة على حشد القوى البشرية وتدريبها بسبب تعدد الجهات المسؤولة وتنافرها وعدم التنسيق بينها، مع وجود الحساسيات والتكتلات العائلية والحزبية المتنازعة.

3- اتخاذ القرارات في الجيوش العربية بشكل منفرد وبدون تنسيق او حتى اعلام القيادة الموحدة التي ارادها السياسيون صورية.

4- سوء الخطة الحربية العامة، بسبب الاختلافات والحساسيات، بحيث تم تعديلها بشكل جذري اكثر من 20 مرة، والواقع ان الخطة كانت نتيجة منطقية لسوء تقدير الموقف، ولضعف الاستعداد، اضافة لاهمالها لمبادىء اساسية في الحرب مثل تركيز الجهد واخذ زمام المبادرة.

5- مع ان السلاح كان متوفرا لو صدقت النية في الحصول عليه، الا ان السلاح الذي امتلكه العرب في 15 ايار 1948، كان كافيا لو تم استخدامه بأصول وحزم.

- وبالنهاية، خلص وصفي الى ان الهزيمة في فلسطين كانت عسكرية بالمقام الاول. ذلك ان العرب ارادوا فرض ارادتهم بقوة السلاح وفشلوا، وعلل سبب الهزيمة بعدم حشد القوى المتوفرة وما يمكن دفعه للمعركة بالزمان والمكان المحددين، فالحرب كما يراها صدام شامل بين ارادتين، مركزا على اهمية الطاقة العقلية والابداعية للقوى المقاتلة، وترجمتها هي السرعة المناورة، وهما ما لم يتوفرا عند الجانب العربي.

- من جانب آخر، ارتأى وصفي ان التجزئة، وهي ما زالت، ركن الهزيمة الاول وعنوان الضعف، اما طريق الثأر للهزيمة فواضح، فهو مجمع اولويات وبديهيات، اولها الوحدة، وثانيها الاستعداد. وطريق العلاج يبدأ بالوحدة ثم بالتدريب والاستعداد على الاسس نفسها والطريق نفسها التي سلكها العدو.

فكر وصفي الاستراتيجي

- بداية، من يستعرض ابحاث وكتابات ومحاضرات وندوات وصفي التل، خلال مسيرته العسكرية والمدنية، وخاصة في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وامثلة ذلك: (قصة جيش الانقاذ و1950، اسباب الفشل في الحرب الفلسطينية 1953، اسباب هزيمة العرب العسكرية في فلسطين 1955، مخطط فلسطين 1963، سبل النهوض القومي 19658، دور الخلق والعقل في معركة التحرير 1966، الوجود الاسرائيلي 1969، حرب حزيران 1969، النضال والذاكرة السياسية 1969، حقائق المعركة 1970، خطة عمل 1971)، يجد ان هذا الجهد الكبير تركز بصورة كلية على القضية الفلسطينية، وكيفية الاستعداد للوقوف بوجه المشروع الصهيوني وتحرير فلسطين، ولا بد ان يصل الى استنتاج، لا بل قناعة، بأن وصفي التل كان مشغولاً ومسكوناً بهم وهاجس القضية الفلسطينية الى درجة «الهوس».

فلسفة القوة

لقد آمن وصفي بفكرة القوة والارادة، وهذه الفلسفة لها جذور في فكره القومي، فحركة القوميين العرب قامت في جانب منها على فكرة ان القيادة الواعية هي التي يجب ان تقود الناس وتعمل على توعيتهم وحشدهم لتحقيق اهداف الامة. وعليه، فهي تؤمن بأهمية التنظيم والانضباط. ولعل تجربته العسكرية القاسية تركت في نفسه آثارا عميقة، ورسخت في نفسه اهمية القوة، وجعلته يقول: الصراع تنازع وبقاء والغلبة للقوي الاصلاح. من جانب آخر، يستدل من الكتب التي اقتناها، على ان معظم قراءاته كانت في السياسة والفلسفة والتاريخ العسكري، والتي بدورها عززت قناعته بضرورة فرض الاصلاح على المجتمع. وهذه القناعة بضرورة حشد القوة وتحضير الامة، كانت الدافع الذي جعله يبادر دوماً بوضع الافكار والخطط وتقديمها لاصحاب القرار والتبشير بها بدون كلل.. وهي التي دفعته لتأييد دخول الاردن في حلف بغداد، على سبيل المثال، حين وقف ضد تيار الدعاية وحملة التضليل الواسعة ضد الحلف، وجادل بجرأة وبوضوح، باهمية الحلف للاردن، وان انضمامنا له سيعمل على تقوية الاردن عسكرياً، والمنطق كان: ان دخلنا في معركة التحرير، نشارك ونحن اقوياء، وان لم تأت المعركة، فنكون قد كسبنا اسلحة جديدة وجيشاً قوياً. والخلاصة، ان فكرة القوة، واهمية حشد قوى الامة، كانت واضحة لديه وتكررت في كتابات وآراء التل. ولعل اوضح دليل، هو انه اول من اطلق تعبير «مجتمع قرطاجنة»، أي مجتمعها حين حاصرها الرومان، بقصد حشد كل قوى المجتمع لصالح المعركة.

حتمية الصدام

ادرك وصفي مبكراً، بأن المشروع الصهيوني ليس مشروعاً استعمارياً تقليديا، بل هو مشروع احلالي، يهدف تغيير الاوضاع القائمة جغرافيا وبشريا وجذريا وابديا، والهيمنة على المنطقة بالاستغلال السياسي والاقتصادي. ولذا، آمن بأن الصدام مع هذا المشروع قادم لا محالة، وان الاعتقاد بأننا يمكن تحاشي صدام مصيري مع الصهيونية هو وهم. ليس هذا فحسب، بل دعا علنا وبجرأة الى ازالة الخرافات والاوهام من تخطيطنا وتحديدا: (1) خرافة الحلول السلمية بشتى اشكالها وصورها (2) خرافة احتواء اسرائيل (3) خرافة الاعتماد على الضغوط الدولية والرأي العام العالمي (4) اوهام انسحاب اسرائيل من بعض الاراضي التي احتلتها دون ثمن غال تكسبه، او دون اكراه شديد لا يكون بمحض ارادته. وبالتالي، فقد آمن دوما بأن الحل الوحيد الصحيح، هو ان نبدأ فوراً بجعل المعركة عنوان وجود وقناعة، وحياة، وقياس حياة، تستحوذ كعنوان وكقناعة على وجودنا كله. على انه في محاضرة القاها وصفي عام 1969 في نادي الاردن في عمان عن حرب حزيران 1967، قال في اشارة عن المفاوضات مع اسرائيل: انه في حال انسحبت اسرائيل من الاراضي التي احتلتها في حرب 1967، فمفاوضات الصلح يجب ان ترتكز على اساس تنفيذ قرار التقسيم الذي اتخذته الامم المتحدة عام 1947.

ويلاحظ انها كانت المرة الوحيدة التي يشير فيها الى مفاوضات، وربما يعود السبب في هذا الطرح الى انه لم يرغب في ان يبدو عدميا او متشددا وانه لا يقبل قيام اسرائيل من الانسحاب من الضفة الغربية وغزة. ومع ذلك فان اشتراطه بأن يكون هدف المفاوضات هو: العودة لقرار التقسيم حتما لن يكون مقبولا لاسرائيل، ولذا لا بد من الاستعداد للمعركة. وباعتقادي، انه بالرغم من الاشارة اليتيمة للمفاوضات، فان وصفي لم يغير قناعاته ابدا حتى لحظة استشهاده. والدليل على ذلك استمراره بالحديث عن المعركة والعمل على التخطيط لها حتى آخر لحظة في حياته.

عنصر الزمن

لقد ترسخت القناعة لدى التل بان عنصر الزمن ليس في صالح العرب، وهو الزمن المتعلق بالمعركة التي يواجهها العرب مع المشروع الصهيوني. كان يرى بأن العدو يتحرك باستراتيجيته العظمى على مبدأ القفزات، يحتل ثم يناور حتى يكسب اطول وقت ممكن لتثبيت احتلاله وهضم هذا الاحتلال، ثم ينطلق للقفزة التالية. اما العرب، فانهم حين يلقون السلاح بعد اي قفزة ناجحة للعدو، ويبتعدون عن الطريق الصحيح، يتحولون الى دوامة الشكوك والمرارة والضياع والتنافر والاسترخاء.

يضاف الى ذلك، حين يتوقف العرب عن الصدام يتحول الزمن ضدهم، بتشعب الاجتهادات والمسارات الجانبية، وتبدأ عملية استنزاف ذاتي، فتعطي بذلك العدو الوقت اللازم للاستعداد لقفزته التالية. وقد ابدع وصفي في ايجازه لفكرته عن الزمن حين قال: ان الشخص الذي يكرر خطأه، يكون الزمن ضده، والشخص الذي يسير على الطريق الصحيح يكون الزمن معه. وهكذا، دعا الى نبذ وهم ان الزمن يعمل لمصلحتنا كعرب.

إعمال العقل

لقد اعتمد التل طوال حياته العسكرية والمدنية على تقدير الموقف، كعملية عقلية تؤسس لاتخاذ القرار. وتقدير الموقف هو تعبير عسكري بالاساس. ويعني، اتباع سلسلة من الاجراءات لدراسة معضلة معينة، تبدأ بجمع المعلومات اللازمة ثم تطوير وتحليل الحلول الممكنة لها، وصولاً الى اختيار افضل الحلول للمعضلة. كان يعتقد بأنه طالما ان المعركة مع اسرائيل مصيرية، فلا بد وان يكون تقديرها والاعداد لها في مستوى عال من الفكر والموضوعية، يتناسب مع خطورتها. لذا، يجب ان يجري تقييم للمعطيات تقييما علميا محضاً، بعيد النظر، لا تؤثر فيه العواطف والانفعالات والاعتبارات المؤقتة قصيرة النظر. لقد عزا وصفي اسباب هزائمنا العسكرية الى ضعف تقدير الموقف، بتجاهل الحقائق وتغليب العواطف والاهواء، ولقناعاته هذه، ركز التل على دور الخلق والعقل في معركة التحرير، وربما بسبب هذا النهج العقلي وصف البعض الشهيد التل بأنه «امتلك عقلاً بارداً وقلباً دافئا».

المبادرة والمناورة

اكد وصفي اهمية اخذ زمام المبادرة، من خلال مواجهة حقائق المعركة وحشد الجهد وتركيزه باتجاه معين. ولذا اعتبر ان من اهم اسباب هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948، هو فقدانها لزمام المبادرة مباشرة بعد دخول فلسطين، حين لجأت الى وضعيات دفاعية ساكنة، بانتظار الهجمات المعادية، تاركة للعدو حشد قواته باتجاه موقع معين، وهزيمته، ثم الانتقال بكامل القوة لمهاجمة موقع آخر. والحقيقة، انه كما كان وصفي مصيبا في تشخيصه لواقع الحال في حرب 1948، كذلك فان هزيمة 1967 تعود الى فقدان العرب جانب المبادرة. وعلى كل حال، فهو يرى انه طالما ان الهدف من المعركة هو فرض الارادة على الخصم، فان افضل وسيلة مباشرة هي تدمير قواته المسلحة. ولا يمكن فعل ذلك بدون المناورة التي تمنح المهاجم مرونة في الحركة، وقدرة على تركيز القوة في زمان ومكان من اختياره. وما يدعم تفكيره هذا، هو اطلاعه الواسع على الفكر العسكري، بدليل ابحاثه وكتاباته. فعلى سبيل المثال، وفي بحثه حول المفاضلة بين الدفاع والهجوم، يقول: انه ليس هناك عمليا معركة هجومية صرفة او معركة دفاعية صرفة. لقد اجرى مفاضلة بين مدرسة ماجينو «خط ماجينو الدفاعي» ومدرسة ليدل هارت «الاقتراب غير المباشر»، وكذلك بين مدرسة البلتزكريج الالمانية، التي اعتمدت على مزايا الدروع، والمدرسة الحديثة «الردع النووي». وخلص الى الاستنتاج بأن أسس اساليب القتال لا تتبدل بادخال اسلحة جديدة، وانما تتكيف على اساسها دون تبديلات جذرية، وعلى صعيد متصل، ناقش وصفي العمل على الخطوط الداخلية والخارجية ومزايا كل منها، في بداية الخمسينيات، على ضوء تجربة اسرائيل في العمل على الخطوط الداخلية في حروبها مع العرب، وفي ظني، انه في ذلك الوقت، ربما كانت هناك قلة من العسكريين ممن يدركون هذه المفاهيم.

حرب 1967

توصل وصفي مبكرا الى قناعة بأن اسرائيل لا بد وان تستهدف احتلال الضفة الغربية، لاسباب اولها استكمال المشروع الصهيوني، وثانيا، لأهمية الضفة الغربية من ناحية عسكرية لاسرائيل، كونها تخدم اسرائيل في العمل على الخطوط الداخلية في مواجهة الجبهات العربية. وقد كرر التل تحذيراته من الانجرار الى معركة قبل اوانها ودون استعداد. كان يرى عدم دخول حرب 1967، لأن العرب غير مستعدين للقتال، استنادا الى القرار الذي توصلت اليه اللجنة العسكرية وقرار مؤتمر القمة العربي الثاني في الدار البيضاء عام 1965. هذا القرار الذي اكد بأن الجيوش العربية لن تكون جاهزة قبل مرور ثلاث سنوات، ليتم خلالها تسليح وتقويد الجيوش العربية. كان وصفي شجاعا، ولم تخدعه ادعاءات الاعلام المؤثر وصيحات الحرب من الاذاعات العربية. هذا في الوقت الذي كان فيه اغلب الاردنيين يعتقدون بأن قوة «مصر عبدالناصر» العسكرية وقدراتها الصاروخية المزعومة (الظافر والقاهر) قادرة على الحاق الهزيمة باسرائيل. ولم يكتف وصفي بابداء الخوف على ضياع الضفة الغربية والقدس، بل قدم افكارا لدرء الخطر. فقد رأى انه اذا كان لا بد من الحرب فلنواجهها بكل ما لدينا من امكانيات. ولذا اقترح خطة عامة لتطبيق حال تغير الموقف لصالح العدو، تقضي بالتراجع الى القدس وحشد معظم القوات فيها، بحيث تصبح كالقلعة، يتم خوض حرب الشوارع فيها والصمود الى ان تفرض الامم المتحدة وقف القتال. واقترح ايضا ان يبدأ العمل فورا بتكديس المؤن والذخيرة. وفي قناعته ان تنفيذ هذه الخطة سيكون كفيلاً بعدم احتلال الضفة الغربية.

حرب العصابات والعمل الفدائي

في مذكرة قدمها وصفي الى جلالة الملك الحسين عام 1969، بعنوان «اهداف الاستراتيجية الاسرائيلية والخطة العربية المضادة لتصفية الوجود الاسرائيلي»، وفي معرض اقتراحه بتحويل الجهد العسكري الاردني من حالة رد فعل الى وضع فاعل، اقترح التل بأن يصبح العمل الفدائي ركناً من أركان هذه الخطة، وان ينظم وتنشأ له قيادة عليا، وان يتم تزويده بالتخطيط والتدريب والمال والرجال والسلاح. ورأى ان يوحد جهده ضمن المجهود العسكري العام، ويتم تصعيد نشاطه وعملياته بحيث يصبح قادرا على التطور الى مرحلة حرب العصابات. واذا تم ذلك، فسوف يؤثر العمل الفدائي على العدو وسيكون مضطرا لاعلان التعبئة العامة التي ستصبح عبئا ثقيلا عليه. من ناحية اخرى، في الكلمة الاخيرة التي القاها وصفي التل في اجتماع مجلس الدفاع العربي المشترك، الذي انعقد في مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، بتاريخ 28/11/1971، وتعقيبا على تقدير الموقف العسكري، تمهيداً لوضع خطة عسكرية عربية شاملة لمواجهة اسرائيل، والذي قدمه اللواء سعدالدين الشاذلي (الامين العسكري المساعد للجامعة العربية)، قال التل: ان هناك جبهة اساسية لم يفصلها التقرير بشكل كاف، وهي جبهة تثوير المنطقة المحتلة، وعملية التثوير هذه تخص المقاومة، وتخصنا جميعا كعرب، وتخصنا بصورة كاملة كدول مواجهة، فاذا وضعنا خطة جيدة لذلك، وتم تنفيذها، فسيؤدي ذلك الى الاخلال بتوازن العدو الداخلي في الارض المحتلة، مما سيحقق نتائج يكون من شأنها تغيير في تقدير الموقف العام وحجم القوات المطلوبة. ومهما يكن، فلا يحتاج المرء الى مزيد من الادلة، لاثبات ان شخصا بخلفية وصفي، كمقاتل وكمفكر عسكري، لا بد ان يكون بالضرورة مقتنعا بأهمية العمل خلف خطوط العدو. لقد أيد العمل الفدائي وكان حريصا على ان يوجه الى محاربة العدو داخل الارض المحتلة، وان لا يتدخل العمل الفدائي في الحياة اليومية، للمواطنين، او التدخل في واجبات واجهزة الدولة.

الاردن أولوية

بالرغم من ان وصفي اعتنق فكر القومية العربية، وكان همه الدائم القضية القومية المركزية قضية فلسطين، الا انه حدث تحول لدى وصفي بعد هزيمة 1948، بدأ يلاحظ انقسام القادة العرب، ونشوء حالة الاستقطاب بين انظمة ثورية وانظمة محافظة، وتجذر وتغول فكر القطرية في العالم العربي. في ذلك الوقت، بدأ التل بالتحول الفكري التدريجي، واصبح اكثر تشددا في ضرورة المحافظة على الاردن واستقراره، ايمانا منه بأن زعزعة الكيان الاردني هي مصلحة لاسرائيل. من جهة اخرى، ولكون وصفي ليس من النوع الذي يقبل التبعية او السير مع التيار، فقد انبرى يتصدى لكل الزعامات التي تنتقد الاردن، قناعة منه بأن الاردن يجب ان يكون حراً وسيد نفسه في اتخاذ القرارات وحسب قناعاته، ومؤكدا ان الاردن لم ولن يكون ظلا لأحد. والواقع انه توصل الى قناعة، بعد تجربته الغنية، بأن الوطني العربي الكبير المنشود، كالبنيان، لا بد ان يقوم على اعمدة أو روافع، وان الواجب يقضي بأن نعمل على المحافظة على هذه الروافع وتقويتها في هذه المرحلة، وهكذا فان الايمان بالاردن والعمل من اجل بنائه ومنعته اصبح اولوية، اضافة لكونه اساس الايمان بالوطن العربي الكبير.

خواص القيادة لدى وصفي

- يكاد يجمع دارسو التاريخ العسكري، على ندرة امتلاك قائد ما، لجميع صفات القيادة، وعادة ما تكون هذه الخواص القيادية متفاوتة في درجة توفرها. ولكن قد تعوض نقاط الضعف في احداها بنقاط قوة في صفة اخرى. وقد توفر لوصفي التل معظم خواص القيادة، وكما يلي:

السلوك والمظهر

كان وصفي في مظهره وسلوكه، اقرب الى عامة الشعب منه الى النخب، فكان يرتدي الملابس العادية والعملية، ويتحدث باللغة المفهومة للجميع، ويستخدم احيانا تعابير من الموروث الثقافي والاجتماعي الاردني، والتي كانت تلقى صدى ايجابيا من الاغلبية. وبالرغم من تقاطيع وجهه الصارمة والعابسة، التي تعطي الانبطاع بأنه رجل جاف ولا يعرف الا الجد، فان اصدقاءه يجمعون على انه كان دمثا ويحمل مشاعر رقيقة. لكنه من ناحية اخرى كان يبدو صلبا في المواقف الصعبة والخطيرة، ولم يكن عاطفيا في اظهار مشاعره. وربما بسبب هذه التركيبة العصبية والاتزان والسواء النفسي توفرت له جاذبية «كاريزما» قيادية خاصة توحي للآخرين بالثقة.

الشجاعة

لعل صفة الشجاعة كانت الاكثر وضوحا في شخصية وصفي التل. لقد امتلك الشجاعة بنوعيها، الشجاعة المادية (البدنية) والشجاعة الادبية، فشجاعته في ميدان القتال، شهد له فيها زملاؤه، في معارك الجليل، والتي اصيب في احداها، ولكنه تابع القتال. وهذه الشجاعة ظهرت كذلك في بعض المواقف في الميدان، حين اعترض على اوامر قيادة جيش الانقاذ بالانسحاب من الجليل الى لبنان، وفي محاولاته المستميتة مع المسؤولين في سوريا ولبنان، لاجبارهم على الاشتباك مرة اخرى مع العدو، وفي جولة ثانية، وفي تحريضه لضباط فوجه على الانتقال الى نابلس واستئناف القتال. اما الشجاعة الادبية، فقد ميزت جميع مواقفه في الحياة. لقد كان يجاهر بمواقفه رغم معارضة الكثيرين الذين كانوا يسيرون مع التيار. لقد أيد على سبيل المثال، دخول الاردن في حلف بغداد. ووقف كذلك ضد دخول الاردن حرب عام 67، رغم المشاعر العامة الجارفة والاغلبية التي ترى العكس. واخيراً، ألم تكن شجاعة وصفي الممزوجة بالكبرياء والعناد، هي التي جعلته، رغم التحذيرات الرسمية، يصمم على الذهاب الى القاهرة للمشاركة في اجتماعات مجلس الدفاع العربي، وهي المشاركة التي انتهت باستشهاده غيلة؟.

الاعتماد على النفس

كان وصفي شديد الثقة بالنفس. كان يجاهر بآرائه ويناقش بوضوح لا بل كان دوما يبادر الى ذلك، اذ كان له رأي في اي موقف، يشرح ويناقش ويحاور حول رأيه ليس فقط مع زملائه او مرؤوسيه، بل حتى امام رؤسائه. قال وصفي في مؤتمر صحفي في 7/11/1970، حول المعركة عنوان الوجود الاردني: «اذا كنت شخصيا قد عانيت بعض الشيء في كل المراحل التي تشرفت فيها بحمل المسؤولية، فانني قانع بأن سبب تلك المعاناة، هو اصراري على التمسك بالوضوح في كل شيء، الوضوح في تفكيري وافكاري، والوضوح في عملي وخطواتي. وهو اصرار، احب ان اؤكد على تشبثي فيه, وايماني الذي لا حد له، بصحته وجدواه». ان هذا القول يوضح بدقة مدى ثقته بنفسه، وفي رأيي، ليس ادل على ثقته بنفسه انه كان اكثر رئيس حكومة عقد ندوات مفتوحة مع المواطنين حول مختلف المواضيع ومختلف القطاعات، اثبت خلالها انه محاور من طراز مميز.

كان التل، بشهادة كل من عرفه، يملك طاقة هائلة على العمل الذهني والبدني، كان يبدأ العمل في بعض الاحيان من الصباح الباكر حتى ساعة متأخرة من الليل، مكتفيا بأكل ما تيسر وهو يعمل بدون كلل. والاهم، انه كان قادرا على العمل تحت الضغط، شهد المرحوم الشريف عبدالحميد شرف بأن لديه طاقة كبيرة من صفاء الذهن، اذ قال: «ان وصفي كان يشترك في اجتماعات طويلة تعالج قضايا بغاية الاهمية، ثم ينتقل مباشرة الى اجتماعات مجلس الوزراء، ويبدأ الدخول في قضايا اخرى، بصورة تبدو وكأنها تستحوذ على كل اهتمامه».

الابداع الذاتي

آمن وصفي بأهمية الابداع لدى مخططي الحرب، ويرى بأن المعركة التي يراد التخطيط لها لا يمكن ان تكون نسخة طبق الاصل عن معركة غيرها، لان المعطيات تتغير. لذلك، من الخطأ التماس الاجابات في تقليد اساليب كانت صالحة في معارك معينة. وعليه، فلا بد ان يكون اسلوب معركتنا جديداً ومبتكراً ومبدعاً. كما لاحظ ان القادة الصغار في جيش العدو يتدربون على ممارسة الابداع الذاتي. ويتم اعطاؤهم قدرا من الحرية في اتخاذ القرار حسب التطورات الميدانية، على العكس من الجيوش العربية. لقد ظهرت صفة الابداع الذاتي لدى وصفي بصورة جلية، في الكثير من الانجازات النوعية اثناء توليه مواقع المسؤولية المختلفة. والامثلة على ذلك كثيرة، ولعل اهمها: تطوير اداء الاذاعة الاردنية، اضفاء الطابع الاردني على الاغاني، قانون خدمة العلم، تجربة معسكرات الحسين للعمل والبناء، وتجربة غرس الاشجار المثمرة والحرجية.

المعرفة

كان وصفي شغوفا بالمطالعة طوال حياته. ولعل دراسته للعلوم والفلسفة عبرت عن ميوله وعكست طريق تفكيره. ومع ذلك، كانت مطالعاته تشمل سير البطولات وفي السياسة والفلسفة والتاريخ العسكري. وهناك العديد من الادلة من احداث ووقائع تثبت انه كان يطالع كل ما هو حديث، حيث كان يناقش ويتبادل الكتب الحديثة مع بعض قادة الفدائيين ومع بعض ضباط الجيش المثقفين، والاهم انه روي ان وصفي كان ينوي تأليف كتاب حول مبادىء الحرب ونظرياتها.

النزاهة والاستقامة

عاش وصفي فقيراً ومات فقيراً، رغم وجوه في مواقع تهيىء لمن يريد استغلالها ثروة كبيرة. روى عنه زملاء عملوا معه في ضريبة الدخل، انه كان دائما في حالة عوز. وكان يستدين ثمن علبة السجائر. وقد ازداد اعجابهم به عندما عرفوا بأنه يساعد محتاجين من راتبه. قال عنه زميل آخر: «كانت نظافة يده فوق حدود التصور، بينما كان المجال امامه واسعا للاثراء». ليس هذا فحسب، بل انه قام بشراء الارض التي بنى عليها بيته غرب صويلح بالتقسيط لمدة عشر سنوات من السيد فهد العبداللات. وبدأ البناء عليها بغرفتين تمت الاضافة اليها فيما بعد، وبمساعدة زوجته، واجمالاً، توفي وعليه دين يقارب 94 الف دينار معظمها لمؤسسة الاقراض الزراعي أنفقها على انشاء مزرعته في منطقة الحلابات.

الحزم والعدل

كثيرة هي المواقف التي تدل على صفتي الحزم والعدل عند وصفي، والتي تبعث شعور الثقة لدى من حوله، حين يرون امامهم نموذجا في الشموخ والثبات، لا سيما في المواقف الصعبة، بعد انتهاء مراسم تشييع الشهيد هزاع المجالي، قال لموظفي الاذاعة: «لقد فقدنا هزاع. ولكن الاردن ما يزال هو، هو. علينا ان لا نظهر اي نوع من التخاذل، وليكن شعارنا: اذا مات منا سيد قام آخر. ان خير ما نرد به على الاشرار، ان نمضي في طريقنا بكل صلابة وثبات». وهناك موقف آخر يحمل دلالة الحزم، وذلك عندما اراد عمل دوام الدوائر الحكومية على فترتين، قبل الظهر وبعد، اسوة بالعديد من الدول المتقدمة، فاعترض بعض وزرائه بحجة ان الموظفين سيكرهونك، فرد وصفي: لا تهمني كراهيتهم، اذا كان الشعب يستفيد من ذلك، وعندما اخرج من الوزارة استطيع ان افتح دكانا. فرد وزير آخر، ممازحا، انك لن تجد من يشتري منك. فضحك وصفي وقال هذا لا يهم. من جهة اخرى، فهناك الكثير من الوقائع التي يعرفها الكثيرون التي تدل على صفة العدالة عند وصفي. فهو لم يحاب صديقا او قريبا بل كان يؤمن بالكفاءة. 

ويروى ان احد زملائه الوزراء، رشح له شخصا ليعين سفيراً، مؤكداً على حسن اخلاقه واستقامته. فما كان من وصفي الا ان اجاب: اذا كان فاضلا امينا فيمكنك مصاهرته. لكننا لن نعينه سفيراً. واكثر من ذلك، تم الاستغناء عن خدمات صديقه وصديق والده الدكتور صبحي ابوغنيمة في عهده، في قضية تتعلق بدعم قرارات المؤسسية. وهذا لم يمنع وصفي من ان يسير بجنازته وان يحزن لفراقه. وفي موقف آخر، حين تشكلت لجنة في وزارة الخارجية لاعداد قوائم بالموظفين الذين لا يحملون مؤهلات جامعية لنقلهم الى مواقع اخرى. واثناء بحث الموضوع في مجلس الوزراء، لفت احد الوزراء النظر، الى ان احد اعضاء اللجنة لا يحمل شهادة جامعية، حينها ارتأى وصفي ان ينقل مع الآخرين، فدافع البعض عنه بسبب كفاءته وخبرته الطويلة، فأجاب وصفي: ان هذا الشخص صديق لي. ولكن المسألة مسألة مبدأ. ولا يمكن ان اوافق على اي استثناء. ولم يتردد في تطبيق العدالة.

الحماس

كثيرة هي المواقف والافعال في حياة وصفي التي تدل على حماسته منقطعة النظير. لم يتردد في معارضته لامر انسحابه من الجليل، والحاحه على متابعة القتال، وحتى فيما بعد، حاول باستماتة اقناع القادة الاشتباك في جولة جديدة من القتال. وكانت هي السبب المباشر في وضعه بالسجن وابعاده بعد ذلك، وحماسه هو الذي كان الدافع وراء الكتابة حول ما يعتقد الى كل المسؤولين، فعندما كان يعمل مستشارا في السفارة الاردنية في المانيا، كتب على سبيل المثال الى جمال عبدالناصر في عام 1956، يعرض عليه الاستعداد للاشتراك في القتال ضد العدوان الثلاثي. وفي عام 1958، كتب الى فاضل الجمالي، وزير خارجية العراق حينذاك، يقترح عليه ارسال نجدة من المقاتلين الى الجزائر دعما للثوار، مبديا استعداده للمشاركة بها. والحقيقة، ان وصفي اعتاد على كتابة المذكرات والرسائل الى كبار المسؤولين، يحلل فيها الاوضاع، ويقترح فيها الحلول. وبشكل خاص، كان يكتب الى جلالة الملك حين يكون خارج الحكومة. هذه كلها دلائل على حماسه منقطع النظير تجاه قضايا الاردن والقضايا العربية.

الاخلاص

ان مجمل سيرة وصفي وعمله الدؤوب بدون كلل، بانجازاته العديدة في المجالات المختلفة، وفي كل المواقع التي عمل بها وصولا الى رئاسة الحكومة، تدل على اخلاصه الكبير والعميق لبلده ولقضايا امته العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية. ولا ادل على ذلك من قول المغفور له الملك الحسين، في مساء يوم استشهاده: «عاش وصفي جندياً منذوراً لخدمة بلده وأمته، يكافح بشرف ورجولة من أجلها.. وقضى كجندي باسل فيما هو ماض بالكفاح في سبيلهما برجولة وشرف». هذه شهادة حق، اذ ان وصفي اعطى عمره للاردن.

وصفي ومبادىء الحرب

- من يقرأ بتمعن ابحاث وصفي التل وكتاباته ومحاضراته حول القضية الفلسطينية، اسباب هزائمنا العسكرية، واساليب الاستعداد لمعركة التحرير، يجد بدون شك، انه انطلق من فهم عميق لمبادىء الحرب كونها حصيلة تجارب الآخرين.

- وفي الختام، اقول هذه محاولة لتسليط بعض الضوء على الجانب العسكري من شخصية الراحل وصفي التل. وهو جانب مهم اتمنى على المختصين متابعة بحثه مستقبلا احتراما وتقديرا لتاريخنا ولشهدائنا، وفي الطليعة منهم وصفي التل، صاحب المشروع الوطني، الثائر القومي، والسياسي الاردني، الذي مرّ في سمائنا كالشهاب، وترك بصمات واضحة في تاريخ بلدنا. وبعد ذلك، فالى كل شهدائنا الابرار، وكافة المناضلين الابطال، أقول: تنحني هاماتنا اجلالاً وتقديراً وفخراً بما قدمتموه من أجل الاردن وفلسطين والمقدسات.. فجزاكم الله خيراً نيابة عن الأمة.