الفرح المقهور
أقسم أغلظ الأيمان بأن الشوق إلى رؤية دولة فلسطينية حقيقية وفعلية يكاد يتقلني ، ولست أنا وحدي ، فهذا الشوق الدفين تكنه وتحمله أيضا الملايين من أبناء الأمتين العربية والإسلامية ، ولكن الذي يحدث على أرض الواقع لا يقودنا إلى ملامسة الفرح والإبتهاج والسعادة التي نتمناها و نتوق اليها ، وأدرك تماما أن الكتابة بعكس مجرى التيار ليس هدفي ولا هو غايتي ، فلقد تابعت وبأعلى درجات الموضوعية ، واليقين مجريات كل ما حصل في الأمم المتحدة وجمعيتها العامة
وما جرى من تصويت لفلسطين وحصولها بموجبه على موقع دولة غير عضو أو مراقب ، تابعت أغلب التفاصيل وبأعلى قدر ممكن من التجرد البعيد عن العواطف والأحاسيس ...وتابعت أيضا كماً وافراً من ردود الأفعال ومن مختلف الأطراف ذات العلاقة
وحاولت أن لا أترك لا شاردة ، ولا واردة أوردتها وسائل الإعلام التي أبرزت الحدث إلا ودخلت للإطلاع عليها ، فحالة العطش التاريخي للحرية و الإستقلال الوطني عند أبناء شعبنا المقهور لا توصف ، ولها ما يبررها بعد هذه العقود الزمنية الطويلة التي مارس فيها الصهاينة أبشع الجرائم بحقنا ، وبحق كل شيء كانت تصل إليه أيديهم الملطخة بدماء الأبرياء من الضحايا الذين سقطوا على درب هذا الصراع ، إن تلمس هذه الحالة النفسية الراغبة في الفرح عند شعبنا ليست بحاجة إلي اي جهد يذكر .
بالمقابل فإن الإفراط السلبي في نفخ وتضخيم أية مسألة وبعيدا عن حجمها الفعلي لا يمكن أن يتمخض عنه نتائج حسية ملموسة ايجابية حتى نرى لها ترجمات على أرض الواقع ، فحتى عتاة المحللين والمراقبين اكتفوا بالقول والإشارة إلى أن الإنجاز الذي تم قد قام على ركائز ومعطيات الفعل الدبلوماسي المعنوي الذي يرافق الحدث في لحظة ولادته
ويظل مرافقا له حتى لحظة العودة من جديد للإصطدام بجدار الواقع المتعلق و المرتبط باستمرار الإحتلال الصهيوني البشع الذي يرفض أن ينسحب عن متر واحد من الأرض ، بل لقد لجأ ومن بداية سخونة الحدث وكرد فعل إلى الإعلان عن إقامة ثلاثة الآف وحدة سكنية جديدة من مشاريع الإستيطان و في داخل حدود مدينة القدس الشريف .
ومن هنا فإن الإفراط في التحليلات التي كان همها التركيز على ممارسات بطولية تاريخية للرئيس أبو مازن ، أو في تناول الحالة الإحتفالية التي رافقت العودة إلى مقاطعة رام الله وما تم فرشه على أرضها من سجاد و من تفقد لحرس الشرف والوصول بسيارة ترفع علمان ، كل ذلك وغيره لا يجدي ولا ينفع ، بل إنه حتما سيؤخر إذا لم يتم الإنتباه إلى حقيقة مرحلة ما بعد هذه العضوية التي تحققت وما هو المطلوب فلسطينيا ؟ وما هي الخطوات الواجب قطعها ؟ لتغليب الإنجاز الموضوعي الملموس على النفسي المعنوي لأننا لا نتحدث عن عرس ينتهي بإغلاق الأبواب على العريس والعروس .
هذه الخطوة يجب أن تفتح الأبواب وعلى مصراعيها لتناول عثرات وإحباطات وتردي الوضع الفلسطيني وعلى مختلف الأصعدة ، فالرئيس الفلسطيني الذي يعلن أنه صمد في وجه الضغوط الشديدة والعديدة التي مورست عليه وعلى خطابه وبهدف منعه من الذهاب للأمم المتحدة ، يعلم جيدا ، وقبل غيره ، أن الضغوط من العدو الصهيوني على الشعب هي المرشحة للإزدياد والتفاقم ، فماذا أعد يا ترى لمواجهة ذلك ؟ وما هي المواقف والسياسات التي سيسير على هداها ؟ وهو يردد أن العالم اليوم معنا ، والتاريخ معنا ، والمستقبل لنا ، هذا هو السؤال الأهم من منصة الشرف ، وتفقد الحرس ، وعزف أنغام النشيد الوطني ورفع الصور .
إن قطاع غزة الخارج منتصراً من العدوان الآخير له دين ثقيل في رقبة الرئيس إذا كان يري نفسه رئيسا فعليا لكل الشعب ولكل الجغرافيا الفلسطينية ، وأقول غزة التي قدمت لحمها و دمها ليأخذ منه الرئيس ما يكفيه من الشحنات ليكون أشد وأقوى في وقفته على منصة الأمم المتحدة ، إن الوحدة ووطنيتها ، ولا أقول المصالحة ، وإنهاء الإنقسام والخلاف لهم ديون لا حصر لها على كل المؤسسات الفلسطينية ، فمتى يبدأ موسم السداد الفعلي ؟ .
إن الأبطال الفعليين لا يبحثون عن أدوار ، فالأدوار التي يستحقونها هي التي تبحث عنهم ، لأنها لا تليق إلا بهم ، وهذا لا يتحقق برفع صورة وإطلاق بعض الأغاني والأهازيج ، فالحديد لا يفله سوى الحديد ، ومن يريد أن يكون رمزا فعليا لشعبه وكفاحه فعليه أن يبحث عن الترجمات والإحتياجات الفعلية لهذه الرمزية وأن يعمل بالتالي على إيجادها وتوفيرها .
وعلى سبيل المثال ، فإن الذل والهوان وضياع الوقت الذي حصدناه من وراء اتفاق أوسلو يجب أن ينتهى ، فلماذا لا نسقطه ونلقي به وراء ظهورنا ؟ كما أن عدونا هو المستفيد الأول والأخير من مسلسل التنسيق الأمني الفاضح والمعيب ، فلماذا لا نغلق هذا الملف وإلى غير رجعة ؟ إن الفرح المقهور و حتى يغدو سعيدا ، بحاجة ماسة إلى الفعل الشعبي المقاوم ، والمتواصل على كل الصعد وبشتى الوسائل ، هذه هي بداية الطريق نحو التحرير الفعلي والدولة الملموسة ، وبغير ذلك ستبقى أفراحنا مقهورة .
اقول مقهورة ، لأن سيادة وفخامة ابومازن وقبل أن يغادر نيويورك أعلن عن تمسكه بإتفاق اوسلو وبضرورة البناء عليه ، والسيد رياض المالكي وزير الخارجية يصرح بأن العودة إلى المفاوضات ستكون اقوى بعد هذا الإنجاز، وعليه فإن الفرح الفلسطيني الفعلي لا يزال بعيداً بالرغم من كل حلقات الدبكة و الرقص التي خططوا لها في ساحة مقاطعة رام الله عاصمة سلطتهم .