العالم يخون إنسانيته .. وعليه أن ينحني إعتذاراً لغزة وأهلها ...
جراءة نيوز - محمد قاسم عابورة يكتب ..
منذ فجر التاريخ ، وساحل غزة وعسقلان منارة للحضارة الإنسانية ، تقدماً وابتكاراً وإبداعاً ، حيث يمتد تاريخ ساحل غزة كشريان حيوي في جسد الحضارة الإنسانية ، منطلقاً من كونها جزءاً أصيلاً من النسيج الكنعاني الفينيقي الذي وهب البشرية أعظم الهدايا ، ألا وهي نظام الكتابة الأبجدي الذي شكل أساس التواصل البشري ، هذه الأرض التي كانت ميناءً حيوياً يربط بين الحضارات ، تصدرت المشهد الحضاري عبر العصور .
فمن هذه الأرض خرج "الشاش الطبي" (Gauze) الذي يحمل اسم غزة في كل لغات العالم ، شاهداً حياً على إسهام هذه المدينة في تقديم الرعاية الطبية للإنسانية ، لقد ضمدت غزة جراح العالم ، ولكن جراحها ما زالت نازفة ، إن هذا الإرث العظيم يواجه اليوم محواً وتدميراً عبر حرب إبادة وتجويع ، بينما يقف العالم متفرجاً ومتناسيا بأنه مدين بحضارته لهذه الأرض وأهلها.
لقد تجاوزالموقف الدولي حالة الصمت إلى التواطؤ ، حيث تغض المؤسسات الدولية الطرف عن إبادة وتدمير متعمد للبشر والحجر ، للتاريخ والتراث ، إنها عملية لا تستهدف الحاضر فحسب ، بل تمتد لطمس الذاكرة الجمعية للبشرية في جريمة صارخة ضد التراث الإنساني ، و إن تقاعس المجتمع الدولي عن وقف هذه الآلة التدميرية يشكل خيانة للمبادئ الإنسانية ، وخيانة للتاريخ نفسه .
في مواجهة هذا المصير الوجودي ، طور أهل غزة فلسفة "الصمود الإبداعي"، كنموذج فريد للمقاومة الوجودية ، يحولون فيها الحصار إلى فرصة للابتكار، والقهر إلى إبداع ، فغزة رغم الحصار، تحافظ على أعلى معدلات التعليم في العالم العربي ، وتفخر بنسبة عالية من حاملي الدكتوراه ، وقد طور أطباؤها خبرات فريدة في الجراحة تحت القصف ، وابتكر مهندسوها حلولاً في الطاقة والزراعة ، واستمر مثقفوها في الإنتاج الفني والأدبي وحصد الجوائز العالمية ومواصلة العطاء للإنسانية وحضارتها .
هذا الصمود الإبداعي والوجودي يفضح تناقض الخطاب الدولي الذي يتغنى بحقوق الإنسان ، إن غزة التي وهبت العالم أبجديات التواصل ، تنتظر اليوم أن يتعلم العالم منها ومن صمودها أبجدية العدالة والكرامة الإنسانية ، ويجب أن تدرّس قيم الصمود والإبداع الغزّي في مناهج الإنسانية ، إن الصمت الدولي تجاه هذه المعاناة ليس فقط خيانةً للقيم الإنسانية ، بل هو انتحار للضمير الإنساني الذي بُني على تراكم حضاري .
إن العالم مدين لغزة ، وليس العكس ، والاعتذار الذي تستحقه غزة ليس مسألة رمزية ، إنه إقرار بأن الخذلان لم يعد مقبولاً وإن البشرية بأسرها ستُحاسب ليس فقط على ما فعلته ، بل على ما لم تفعله ، لقد آن الأوان أن ينحني العالم اعتذاراً لهذه الأرض التي وهبت البشرية من علومها وحضارتها ، وكل لحظة صمت تمر هي إضافة إلى سجل العار على البشرية الذي سيحكم عليه التاريخ .
لقد آن الأوان أن ينحني العالم اعتذاراً لهذه الأرض التي تستحق الحياة ....
محمد قاسم عابورة