تفويض الناخبين للنواب ... بين مطرقة التشريع وسندان الواسطة !!!
جراءة نيوز - محمد قاسم عابورة يكتب ..
يُجسِّد توجُّهُ مجموعةٍ من النواب إلى رئاسة الوزراء للمطالبة بتعيين شخصٍ مُحدَّد في منصبٍ رفيعٍ، مُفارقةً صارخةً تمسُّ جوهر العقد الاجتماعي بين النائب والمواطن الذي انتخبه . فهذا الفعل لا يقتصر على كونه حدثًا عابرًا في الحياة السياسية ، بل هو علامة دالّة على تحوُّل في أولويات العمل النيابي ، حيث تتراجع المهام الدستورية لتحلَّ محلها ثقافة الوساطة والرعاية الفردية ، فبدلاً من أن يكون النائب حارسًا للسياسات العامة ورقيبًا على نزاهة المؤسسات ، نراه يتحوّل إلى حلقة وصل في شبكات الوسطة والمحسوبية ، مقدِّمًا الولاءات الشخصية على مبدأ المساواة والكفاءة . ولا تقتصر خطورة هذا التحوُّل على انتهاك مبادئ الحوكمة الرشيدة فحسب ، بل تمتدُّ لتشكّل اختبارًا حقيقيًّا لشرعية التمثيل النيابي ذاته ، مما يستدعي وقفةً نقديةً لفحص حدود هذا الدور وعلاقته مع السلطة التنفيذية .
تُمثِّل ممارسة التوسُّط لدى الحكومة لتعيين أفراد مُعيَّنين ، والإسهاب في وصف قدراتهم وخبراتهم الخارقة ، انحرافًا مؤسسيًّا عن صميم المهام النيابية ، والتي تُختزل دستوريًا في ركيزتين أساسيتين ،هما التشريع والرقابة ، ففي الوقت الذي يفترض أن ينصبَّ جهد النائب على سنِّ قوانين رادعة للفساد الإداري ووضع أُطُر مؤسسية تضمن شفافية التوظيف ، أو ممارسة رقابة صارمة على أداء الحكومة في ملفات مصيرية كالبطالة والتنمية الاقتصادية ، نجد أن مسارًا معاكسًا يفرض نفسه. فبعض النواب يتحوّلون من موقع المراقب إلى طرفٍ مشارك في آلة التعيينات بالمحسوبية ، مقدِّمين بذلك الوصاية الفردية على حساب العدالة المؤسسية ، وهذا التحوّل لا يعبّر فقط عن أزمة في الممارسة السياسية ، بل يكشف عن خللٍ عميقٍ في الفهم لدور النائب ، حيث يطغى منطق الخدمات الفردية على منطق صناعة السياسات العامة .
يُظهر هذا التناقض أزمةً مزدوجةً في مفهوم التمثيل النيابي : أزمة رقابية ، حيث يتحوّل النائب من رقيبٍ على معايير التوظيف إلى مشارك وداعمٍ لاستثناءاتها ، وأزمة تشريعية ، حيث يُهمل بناء الأطر القانونية التي تحول دون تكريس هذه الممارسات ، فالدور الرقابي الذي يُفترض أن يتجسد في مساءلة الوزراء عبر الاستجوابات ومراقبة تنفيذ السياسات ، يتحوّل إلى نقيضه عندما يصبح النائب شريكًا ضمنيًا في إضعاف هذه السياسات عبر التوصية والتوسط لأسماء بعينها ، وهذا يتعارض جوهريًا مع الغاية التشريعية السليمة ، التي يجب أن تركّز على المطالبة بوضع معايير موضوعية وشفافة لشغل المناصب العليا ، ومراجعة القوانين التي تنظم عمل هيئات التوظيف ، وضمان خضوع جميع التعيينات لمسابقات مهنية تحترم مبدأ الجدارة والمساواة وتكافؤ الفرص .
ولا تقتصر خطورة ظاهرة الوساطة في التعيينات على إهدار مبدأ تكافؤ الفرص ، بل تمتدُّ لتُحدث شروخًا عميقةً في بنية الدولة ومؤسساتها ، فهي تؤدي أولاً : إلى إهدار الكفاءات الحقيقية وإضعاف الأداء المؤسسي عبر سيطرَة منطق الولاء على حساب الكفاءة . وثانيًا : تقوِّض سيادة القانون من خلال ترسيخ ثقافة أن القواعد قابلة للتجاوز لمن يملك الوساطة المناسبة ، مما يُضعف الثقة العامة في المؤسسات. وثالثًا : تُعزّز حالة من الإفلات من العقاب ، حيث تبقى النصوص القانونية التي تجرّم الواسطة، كتلك الواردة في قانون العقوبات أو قانون هيئة النزاهة ، حبرًا على ورق في ظل صعوبة إثبات هذه الممارسات التي تتمّ في الغالب داخل دهاليز مغلقة .
ويتجسّد التناقض الأكثر إيلامًا عندما تُقرن هذه الممارسات بتصاعد الأزمات الوطنية الكبرى، كأزمة البطالة التي تجاوزت نسبتها 21% بين الأردنيين ، وتصل بين حملة الشهادات الجامعية إلى مستويات كارثية ، فبينما ينشغل جزء من المشهد النيابي بالسعي وراء تعيينات فردية ، تتفاقم أزمة بنيوية تهدّد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي ، وهذا الفجوة بين الخطاب الرسمي المعلن حول أولوية مكافحة البطالة ، والممارسة الفعلية المُتجهة نحو رعاية المصالح الفردية الضيقة ، لا تعكس فقط ازدواجية في المعايير، بل تكشف عن قصورٍ في الرؤية الاستراتيجية ، حيث تُستبدل معالجة الأسباب الهيكلية بتقديم وساطات فردية .
لذلك ، فإن استعادة المصداقية للدور النيابي تتطلّب أكثر من مجرد إدانات خطابية ، فهي تستدعي تحوّلاً جذريًا في الثقافة والممارسة السياسية ، وهذا التحوّل يبدأ بإعادة ترتيب الأولويات ، فبدلاً من التركيز على التعيينات الفردية ، يجب أن تتحوّل الجهود التشريعية نحو بناء أنظمة وأسُس تعيين رشيدة تعتمد على الشفافية والكفاءة ، وعلى الصعيد الرقابي ، يجب أن تنتقل إلى مراقبة أداء الحكومة في تحقيق أهداف التوظيف ضمن استراتيجيات اقتصادية شاملة، ومحاسبتها على أي تقصير ، كما يجب أن يتحول النائب من وسيط للتعيينات الفردية وتمجيد "الكفاءات الاستثنائية" للأفراد ، إلى حارس لمعايير التوظيف الجماعي العادل ، ووضع آليات لضمان تكافؤ الفرص ، وهذا يُعدّ خطوةً ضروريةً لإعادة الاعتبار لدور النائب كحارس للمصلحة العامة ، وليس وكيلاً لمصالح فئوية .
فقط عبر هذه العودة إلى الجوهر الدستوري للعمل النيابي ، يمكن تجاوز حالة الانقسام بين "مطرقة" الواجب التشريعي والرقابي الجاثم على كاهل النائب، و"سندان" إغراءات الوساطة والمحسوبية . آنذاك يتحوّل المجلس النيابي من ساحة للتوظيف السياسي والمصالح الفردية إلى مؤسسة فاعلة في صياغة سياسات المستقبل ، وقادرة على استعادة ثقة الناخب الذي منحها شرعيتها، ليكون ممثلاً حقيقيًا لإرادته ورقيبًا أمينًا على المال العام والمصلحة الوطنية .
محمد قاسم عابورة