الشهيد وصفي التل ـ بورتريه ـ
جراءة نيوز - عمان:
شخصية كاريزمية لم يشهد الاردن لها مثيل ، قومي عربي , وسياسي , ورجل دولة من طراز ينبت امام المرء فجأة , للوهلة الاولى تحسب كأنك تراه للمرة الاولى في حياتك , لكنه في الواقع كان دائما هناك ضاربا بجذوره في الارض ..
شخصية جدلية , مباشر , يفكر بصوت عال , لا يجامل في قناعاته الوطنية والقومية , الامور عنده دائما اما ابيض او اسود , صواب او خطأ , ليس ثمة منطقة محايدة بين الحقيقة والوهم (...) جراءته في طرح افكاره , وكرهه للفساد , على نحو لم يعهده العالم , لفتت اليه انظار الملك الحسين بن طلال في مرحلة مبكرة من حياته السياسية ..
من المؤكد ان وصفي التل ولد في بغداد عام 1921 , رغم ان بعض الدراسات تقول انه ولد عام 1919 , التحق بالجامعة الاميركية ببيروت وحصل منها على البكالوريوس في العلوم عام 1941. بعد تخرجه عمل مدرسا للكيمياء والفيزياء , لكن تركيبته القيادية لم تكن تتوافق مع التدريس فاستقال بعد نحو عام ليلتحق بالكلية العسكرية البريطانية قرب مدينة يافا عام 1942 وتخرج منها برتية ملازم , وامضى نحو ثلاث سنوات في الجيش اثناء الحرب العالمية الثانية رقي خلالها الى رتبة نقيب .
احد المفاصل التي قلبت مزاج التل بشكل كامل كان اتساع دائرة المؤامرة على فلسطين , فالتحق دون تردد بالمكتب العربي بالقدس , وهو المكتب الذي اسسه موسى العلمي ممثل فلسطين في المؤتمر التاسيسي لجامعة الدول العربية , وكان الهدف من تاسيسه التاثير على الراي العام وكسبه الى جانب العرب بخصوص فلسطين , وتفرغ التل لمكتب القدس ثم لاحقا لمكتب لندن .ومن خلال موقعه وضع التل تقريرا حول مخاطر الصهيونية واقترح تشكيل قوة عسكرية فلسطينية تعمل على مقاومة اليهود.
بدأت افكاره بالنضوج , واخذ يلفت اليه الانظار , لكنه لم يتمكن من طرح افكاره بوضوح اكثر, فالاحداث داهمت المنطقة العربية على اثر صدور قرار التقسم , وتشكيل لجنة عسكرية عربية اتخذت من دمشق مقرا لها واخذت تدعو الشباب العربي للتطوع في " جيش الانقاذ " , وكان التل من المتطوعين فاستقال من المكتب العربي , ونظرا لمواهبه القيادية فقد كلفته القيادة برئاسة اللواء الرابع ( اليرموك ) وخاض مع قواته معركة كبيرة عرفت ب"الشجرة" واصيب بشظية في ساقه .
وعندما اعلنت الهدنة العربية الاسرائيلية رفضها التل والتحق بالجيش السوري ضمن قواته "اليرموك " , وقرر التل نقل قواته الى فلسطين لمقاومة الصهيونية , غير ان الزعيم السوري حسني الزعيم علم بنوايا التل فقرر نقله الى الجولان وقام باعتقاله في سجن المزة , ثم اطلق سراحه وعاد الى عمان .
نكبة فلسطين كانت حافزا له على وضع كتاب " دور الخلق والعقل" اكد فيه ان اسباب الهزيمة تعود الى الغوغائية والمتاجرة بعواطف الجماهير وجراحها والخوف من مصارحة الشعوب. هذا الكتاب كان مدخلا له لاصدار صحيفة " الهدف" عام 1950 , وصدرت تحت شعار" مجلة السياسة القومية والادب القومي" . وجميع الذين شاركوا في اصدارها كانوا من الفسطينيين.
واصل التل نشاطه الصحافي من خلال صحيفة " الرأي" التي اصدرتها "حركة القوميين العرب " عام 1953 وترأس تحريرها حكيم الثورة الدكتور جورج حبش (...) اختلف التل مع " حركة القوميين العرب " بعد تبنيها للناصرية واتخاذها خطا معاديا للغرب وتعاونها مع الاتحاد السوفياتي .
خلافه هذا اعاده الى العمل الحكومي مديرا للمطبوعات عام 1955 نقل بعدها الى الخارجية مستشارا في السفارة الاردنية في المانيا , ثم لاحقا رئيسا للتشريفات الملكية , وقائما باعمال السفارة الاردنية بطهران , تنقل بعدها في المواقع الرسمية مديرا للاذاعة , ومديرا للتوجيه الوطني , وتولى ادارة الحرب الاعلامية الاردنية في مواجهة الهجمة الاعلامية الناصرية.
حين كلف بحكومته الاولى عام 1963 كان سفيرا في بغداد , وكان اكثر من نصف اعضاء الحكومة من الفلسطينيين , وكانت حكومة استثنائية في تاريخ الاردن اذا لم يسبق لاي من اعضائها ان كان وزيرا بما في ذلك الرئيس. واجرت الحكومة مصالحة وطنية كبرى بين المعارضة والحكم واصدرت عفوا عاما عن المعتقلين المحكومين والمنفيين السياسيين , مما اوجد اجواء ايجابية سمحت باجراء انتخابات نيابية جديدة .
وفي حكومته الثانية عام 1965اكمل التل اغلاق ملف المصالحة الوطنية باصدار عفو عام عاد على ضوئه عدد من اللاجئين السياسيين الى الاردن (...) نفض التل يديه من ملف المعارضة الذي كان عالقا لسنوات وتفرغ لبحث العلاقة بين الحكومة و"منظمة التحرير الفلسطينية ", على قاعدة واحدة تقول " سيادة الاردن على ارضه وسكانه " , واعلن التل امام مجلس الامة عن تعاون حكومته مع المنظمة وتشكيل تنظيمات شعبية مدربة عسكريا وتسليح القرى الحدودية , وعين نجيب ارشيدات عضوا في "منظمة التحرير" واللواء على الحياري مديرا للدائرة العسكرية في المنظمة .
الخلاف الاول بين الحكومة والمنظمة نشأ بعد اصرار" منظمة التحرير" على ان تتولى النشاطات ذات الطابع العسكري والشعبي في الاردن , وان يتم تجنيد الفلسطينيين في جيش التحرير الفلسطيني (...) بالطبع رفضت الحكومة هذه المطالب واصرت على التمسك بسيادة الاردن على ارضه وشعبه .
ونشأ جزء كبير من هذه الخلافات بسبب التحريض الاعلامي العربي ضد الحكومة الاردنية. وتفاقم الخلاف بعد الهجوم الصهيوني على قرية السموع وحملت المعارضة الحكومة مسؤولية التقصير في الدفاع عن القرى الحدودية , واحتراما لرغبة البرلمان استقالت الحكومة عام 1966.
غير ان الاجواء لم تختلف كثير بعد تشكيل التل لحكومته الرابعة مباشرة , فقد انضمت مصر وسوريا و" منظمة التحرير" الى معسكر شن حملة اعلامية مكثفة ضد الحكومة , فقامت الحكومة بحل البرلمان واجراء انتخابات نيابية جديدة , ومع بدء توترات عام 1967 وبدء التحضير للحرب استقال التل من رئاسة الحكومة وعين رئيسا للديوان الملكي .
لم يخف التل مخاوفه من دخول الامة العربية للحرب , وخصوصا الاردن , في ظل الوضع العربي المأزوم انذاك , واعلن صراحة ان نتيجة الحرب ستعني ضياع الضفة الغربية والقدس , غير ان الاردن وجد نفسه مرغما على دخول الحرب حفاظا على حالة التضامن العربي الوليدة انذاك.
كارثية الهزيمة دفعت التل الى طرح فكرة انشاء قوات وطنية واعادة تنظيم الجيش الاردني ودمج النشاط الفدائي في المجهود العسكري العام , والتركيز على حرب عصابات حقيقة تؤلم " اسرائيل" وتضعفها وتجبرها على التوسع في القتال , مع رفض اية تسوية سياسية تعترف بسيادتها على أي جزء من فلسطين, هذه الطروحات كانت متناغمة جدا من طروحات الفدائيين فالتل اختار الحل العسكري والكفاح المسلح لتحرير فلسطين بصفته محارب ومقاوم سابق يعرف كيف يخوض حربا يشارك فيها الفدائيين والجيش الاردني معا .
في تلك الاثناء كانت العلاقة بين "منظمة التحرير" والحكومة الاردنية قد وصلت الى مرحلة مقلقة وخطرة جدا. وفي عام 1970 اتسعت الهوة بين الحكم والمنظمة بعد تبني الحكومة للحل السياسي للقضية الفلسطينية ورفض المنظمة لهذ الحلول , ووقع الصدام المسلح الذي انتهي بتوقيع اتفاقية القاهرة بين الحكومة والفدائيين ..
طيلة السنوات التي اعقبت حرب حزيران والصدام المسلح , كان التل بعيدا جدا وقريبا جدا من المشهد الداخلي الاردني , واحتاج الاردن الى رجل قوي لا يجامل ولا يخضع الامور لعاطفته ولمزاجه , رجل تربطه بالقضية الفلسطينية علاقة خاصة وتاريخية , فكلف التل بتشكيل الحكومة في تشرين الاول عام 1970, أي انتهاء المواجهات . وكلف ب"اعاد النظام والهدوء والقانون الى البلاد ", واعلن التل عن استعداد حكومته التعاون مع" الفدائيين المنظبطين لا اؤلئك اليساريين الساعين لانتهاك النظام والدين ويحاولون اعاقة التفاهم بين الحكومة و حركة فتح" .
اجرى التل عملية تطهير واسعة في اجهزة الدولة الرسمية لجميع العناصر الموالية للمنظمة , وتم فصل (250) موظفا منهم (160) من اصل اردني , و(90) من اصل فلسطيني , ولملء الفراغ السياسي اعلن عن انشاء الاتحاد الوطني الاردني عام 1971.
في ذلك العام استضافت القاهرة اجتماعات وزراء الدفاع العرب , واصر التل على المشاركة رغم معارضة الملك الحسين بوصف التل شخص غير مرغوب به في مصر , وخرج الملك لوداعه في المطار وهو امر لايحدث عادة مع رؤساء الحكومات , وحضر التل اول اجتماعات مجلس الدفاع , وفي عصر يوم 28 تشرين الثاني عام 1971 وعند مدخل فندق الشيراتون , وبعد ان ترجل من سيارته , اطلق ثلاثة اشخاص النار عليه مما ادى الى وفاته دون ان تسيل منه قطرة دم واحدة , بعد ان اصابه نزيف داخلي .
القي القبض على القتلة الذين كانوا يحملون جوازات سفر سورية , واتفقوا على القيام بالعملية في بيروت , وكانوا يتوقعون ان يكون قائد الجيش حابس المجالي بين المشاركين في الوفد ولكنه لم يتمكن من الحضور..اعلنت منظمة مجهولة اطلقت على نفسها اسم " ايلول الاسود" مسؤوليتها عن الاغتيال , وهي منظمة ارتبط اسمها في عملية اخرى في " عملية ميونخ " واختفت بعد ذلك الى الابد. في تلك الفترة ايضا نجا السفير الاردني في بريطانيا زيد الرفاعي من محاولة لاغتياله في شارع كينسنغتون وسط لندن.
شكك تقرير الطب الشرعي المصري , كما نشر في صحيفة الاهرام , في عملية الاغتيال حيث اكد ان الرصاص الذي قتل التل لم ينطلق من الاسلحة المضبوطة مع المتهمين , وكان اثنين من المتهمين قد ضبطوا , قبل تنفيذ العملية , في مطار القاهرة وبحوزتهم اسلحة واطلق سراحهما .وفي اثناء المحكمة عرض محاموا الدفاع من ليبيا والجزائر والعراق , كفالة المتهمين الاربعة , وبعد مداولات قررت المحكمة الافراج عن المتهمين الاربعة بالكفالة المالية ومقدارها الف جنيه مصري , ولم يقدموا الى المحاكمة بعد ذلك .اذا بعد اربعة اشهر, وبعد ان هدأت الضجة وضعوا في طائرة توجهت الى دمشق .
دفن التل في المقابر الملكية , لكن جثمانه اخرج فيما بعد وتم دفنه في منزله بناء على رغبة سابقة للشهيد ,حيث كان التل جالسا مع اصدقائه بالقرب من تلك البقعة يبحثون الموقف وسأل احدهم ما الذي يمكن عمله , وقال التل " البقاء هنا والقتال حتى الموت , وبعد موتي ان يدفنوني هنا " وبناء على ذلك اذن الملك لعائلته بنقله استجابة لامنية راودت التل.
لم يكن التل محبا للطقوس الاجتماعية الرسمية ، وهو يحب ، متى ما توفر له الوقت ان يذهب بعيدا لمزرعته (...) طاقته، وقدراته، وعدم فساده، صفات جعلت منه واحدا من رؤساء وزارة قليلين في الاردن ممن امتلكوا تأثيرا حقيقيا على السياسة الاردنية المستقلة عن القصر. وظل يقاوم باستمرار محاولات جمال عبد الناصر و "منظمة التحرير" التدخل في شؤون الاردن الداخلية وسياستها الخارجية تجاه التحالف مع الغرب. وكنتيجة لذلك ، اصبح مرتبطا بسياسة الاردن المناهضة لمصر ، فيما ظل عرضة وموضوعا لهجمات اعلامية من القاهرة ودمشق.
هل كان وصفي التل رجلا يغرد خارج سربه في زمن الضعف العربي ؟ هل كان حال التل مع الفدائيين , كما ذهب الدكتور غازي ربابعة , كحال العرب مع الدولة العثمانية ؟ فالعرب والاتراك , على حد سواء, ذهبوا ضحية تآمر دولي كان اكبر من قدرتهم , فبدأنا نلقي اللوم الايام على الاتراك , والاتراك يصبون اللوم علينا , والامر نفسه حصل مع وصفي التل , ما اصابنا في الحالتين هو سوء الفهم في بعض الاحيان , وفشل الحوار في احيان اخرى , وانحراف اكثر من طرف عن الصواب والقيم , الاردن والعمل الفدائي كانا ضحايا مؤامرة صهيونية مدعومة من قوى دولية , على حد وصف ربابعة.