"منشية بني حسن ....... عصية على النسيان"
المنشية إحدى قرى بني حسن، تستلقي على الجانب الغربي من محافظة المفرق، تمتد على ارتفاع شبه جبلي يمنحها حياة ريفية، مفعمة بالهواء المشبع بأنغام سيمفونية أنفاس أهلها الذين ترعرعوا فيها منذ قديم الزمن. سميت بهذا الاسم لأن معظم من يسكنها هم من عائلات بني حسن، حيث تبعد ما يقارب 84 كم شمال عمان، يفصلها من الوسط عقد ذهبي ملتوٍ يسمى الشارع الرئيسي، يمتد من الشرق إلى الغرب، يمر بدوارين كفاصل حلقي يربط حبات لؤلؤ ذاك العقد الخرافي، تتناثر من حوله بيوت عائلات من عشيرة الشديفات، وهم من يشكِّلون ما يقارب 95 بالمئة من سكان المنطقة.
وتقع هذه القرية الوادعة على قمم مجموعة من الجبال والتلال العاليه، ترتفع عن سطح البحر حوالي 750 متر،ترابها ضارب إلى السمرة غني بأهل المنطقة الذين تحدوا أجواء المفرق الصحراوية؛ ليزرعوا من الحمضيات والفاكهة أطيبها ومن أشجار الزيتون أخصبها. هوائها توأم لهواء جبلي قادم من سفوح الجبال، مشبع برذاذ المطر، يمنح المتنسم طعم ناي مسائي، يختلف عن كل موسيقى العالم، تلك هي الموسيقى الاستثنائية، تأخذك من تحت ذراعيك، وتلقيك على إحدى الغيمات.
كلما ركبتَ ريحها الغربي صباحاً، يأسرك طعم هوائها القادم على قارب اللحظات، فأنت تتذوق موسيقى فيروزية منذ ولادة اللحظة الأولى من كل نهار جديد. وكلما جابت نسائمها بهو المساء، تأخذ روحك من ياقتها لترميك المرقص ولتطبع على جبينها قبلات مفعمة بالمسرات،"منشية" يا من تستلقي على روحي كعروس تتباهى بجمالها، مغرورة حد الجنون، يميزها عرش نهارها المؤجج بنسيم ريفي، والمرصع بجمال روحها النابضة بالحياة.
إذا امتطيت سحابها، ونظرت لها، تجدها مستلقية على ظهرها ممتدة يدها نحو الشمال، تمسك بطرف رداء منطقة "أم اللؤلؤ" التي تتبع للمنشية، وتبعد كيلو مترين اثنين. ومن الجنوب تمتد ذراعها اليسرى؛ لتمسك طرفاً من رداء البويضة الغربية، ومن جهة الهامة تجد أن حي الإسكان قد ارتسم على قمتها الغربية، وأن اتجهت شرقاً، ستجد التواءً لشارع يأخذك نحو أم النعام الغربية، وثم أم النعام الشرقية.
رغم أنها وحيدة وبعيدة كل البعد عن الطرق التي منحت مناطقها الحياة، إلا ان "منشيتي......حبيبتي" تربعت على جبين الحياة بذاتها منتصبة على مسرحها معلنة أنها لم تحيَ بفعل مرور طريق حي من وسطها ليؤدي إلى المدينة، أو لأجل شركات أو مصانع أو أي شكل من أشكال ضمان الحياة، أنما هي حية بذاتها، تنبض بالدهشة، وتنبع بالحب لعيون من سكنها من أهلها الذين عرفوا كيف يصونونها ويحيوها بأنفاسهم الزكية، وبنبض قلوبهم الذي رشقوه على جسد روحها؛ ليمنحوها كما تمنحهم طعم النماء.
يا الهي كم ملكتِني...... أسرتني...... بين قضبان قفصك التي لا أنكر كم هي ساحرة وأٌخّاذة، فهي الحامية التي تقيني برد الغربة، وتمدني بالحياة، ليس غريباً فاسمك جاء من نشا؛ أي (الحدث والتجدد)، فاسمك ارتبط بالنمو كيف لا، وهي من ترفد القلب بالحياة. يقطن منشية بني حسن عشيرة "الشديفات"، وهم يعتبرون الحد الفاصل بين عشائر بني حسن وبين العشائر القاطنة في البادية الشمالية، ومناطق محافظة إربد، ونتيجة لذلك كان يطلق على الشديفات (حماية الطرف)، وذلك نسبة لموقعهم الجغرافي.
كلما ركبت ريحها من أعلى قممها يمكنك أن تكحل عينيك برؤية سهول حوران .. مدنها وقراها. إضافة لرؤية جبل الشيخ واضحاً يكسوه من الأعلى وشاح أبيض، يحكي لك كم من الهواء مر به، ويحمل بين ثناياه طعم الفصول الأربعة. إذا عانقت أذنك حديث الكتب عن تاريخ المنشية ستدرك أنها من المناطق التاريخية. عندما تتجول بين شوارعها سترمق عينيك نبتة "الياسمين" و"المجنونة" تتسلق أصابعها على وجه الجدران، طفلاً يتعربش كتفي أمه؛ ليصل قمة خديها، وكأنهما عقد اتفقت جميع البيوت على أن تلبسه، إن وددت السفر بعينيك بعيداً ستجد أن التلال والهضاب، تستلقي على أطراف القرية من جميع الجهات، وكأنها إطار يحف القرية؛ ليمنحها تضاريس ذات جمال مدهش.
منشيتي كلما أقبلتُ عليكِ تغتسل روحي بنهر من ضوء، وكلما ابتعدتُ عنكِ زارني التيه واحتلني الوجع، وكأن رئتي تكدرت لفرط الشوق الذي اعتراني. إن زرتها في الربيع تتناثر في سماء صدرك غيوم محملة برذاذ بارد يمنحك سرباً من الضحكات والقهقهات المشبعة بنكهة السعادة، وسترى أن وجه الأرض قد اكتسى بالورود البرية وشقائق النعمان التي تمنح وجنتيها احمرارا يفوق جمال وجنتي عروس، حينها ستحتار عيناك بتحديد لون الورود البرية التي خرجت من رحم الأرض، معلنة الحياة بعد لقاء عشقي بزائر السماء. في منتصف المساء إن عمدت عيناك على سقفه ستجد أن قلبك قد عانقه ضوء القمر؛ ليرشق بحباته على سقوف البيوت التي تناثرت هناك، وكأنها حبات اللؤلؤ متخذا شكل مزاجٍ جميل يلملم شمل قلبك الذي بقسوة المدن تكدر.
"منشيتي"..... كلما حزمت أمتعتي لمغادرتكِ تبدأ الكلمات الحزينة تنهمر على مسامعي من شفاهي :
ويلي يمة من فراقها .......... كيف أَردّني لملقاها........ وأنا إلي ما أقدر أعيش من غير هواها
وكلما أقبلت عليك شق صدري هواؤك العليل؛ ليكشف عن أنيني من لاعج الحب، فتصر الكلمات على الخروج من قفص لساني قائلة:
يا هلي ويا وطني كيف على بعدك أقدر
وأنت إلي زاد جمالك بلون ترابك الأسمر
أبي أظل بين ضلوعك أتهدى وأتمختر
يلي ملقاك يصهر المزاج بكاس ما يتكدر
منشية .... يا مقلة القلب يا من تطوف حولك الأرواح حجاً إليك.... رحماك يا رب..... فهي من نمت وربت في ثرى الروح كيف لي البعد عنها، وهي من أثثتني بالطيب والأصالة، وهي عندي قصيدة موزونة بأبياتها وكلماتها الذهبية. أعشقك من رأس القلب لأخمصه، غرامك يسح على جسد القلب مدى الحياة؛ ليعطرني بالحنين الذي لن ينقطع .... أعشقك وسأبقى أسيرك إلى أن تغادرني الروح، سأخبئك في جيب القلب إلى أن تعتليني أوراقك، وتلفني بالندى لأحظى بالحياة الأبدية، علني أعود لي بعد رحيلي عني.
s.shdaifat@gmail.com