تخفيض أسعار الموت !


رفع الأسعار ، أو تخفيض سعر صرف الدينار ، هذه هي الهدية و العيدية التي اختار رئيس الوزراء الدكتور عبد الله النسور تقديمها لمختلف شرائح الشعب و نحن نستعد لإستقبال عيد الأضحى المبارك ، الهدية وحسب آراء العديد من المحللين والمراقبين خلقت حالة من " الهلع والقلق لدى الأردنيين بمختلف شرائحهم الإقتصادية والإجتماعية " ، هذا ما خطه قلم السيدة جمانة غنيمات التي تشغل موقع رئيس التحرير المسؤول في صحيفة " الغد " وذلك في مقالها الصادر يوم الأحد الموافق 21 من شهر تشرين الأول الجاري .


في ذات العدد من الصحيفة ، وفي صفحة الوفيات نطالع فنجد مربع إعلاني كبير يتضمن تقديم 40 % خصم على إعلانات النعي ، وبالعموم فإن أية إعلانات عن تخفيضات أو حسومات أو تنزيلات هي في حد ذاتها فرصة للمستهلكين ، وقد لا تعوض إذا لم يتم الإستفادة منها وإستغلالها في وقتها المحدد لها ، هذا ما يحدث غالبا مع الكثير من أصناف البضائع الإستهلاكية التي لا يمكن للناس الإستغناء عنها ، ولكن كيف يمكن الإستفادة من تخفيضات على إعلانات النعي يا ترى ؟.


تخفيض أسعار النعي بحاجة إلى أموات ووفيات ، حتى يستطيع القادرين على وضع هذه الإعلانات الإستفادة من هذه الخصومات ، فالموت في هذه الحالة هو البضاعة ، والتي بدونها لن تكون هنالك إعلانات أو تخفيضات ، بطريقة أخرى يمكن القول أنها دعوة للموت لتحقيق الإستفادة من العرض المفتوح الذي تقدمه الصحيفة وبالعامية يمكن لنا أن نقول : " إنتو بس موتوا وما عليكم ، فالأسعار المنخفضة لبيانات نعيكم في إنتظاركم " !

الحكومة الحالية ، تعرض رفع الأسعار وإشعال النار ، وهذه حالة اعتدنا عليها خلال السنوات القليلة الماضية من الحكومات المتعاقبة ، ولم تتجاوز ردود الأفعال منا نحن جمهور المواطنين ما هو أكثر من العض على الشفاة ، والصبر ، ومواصلة البحث عن سبل إستمرار الحياة بالمزيد من التدبير ، وإعادة البرمجة والجدولة ، والتقنين ومحاولة الإستغناء عن بعض ما لا يلزم وما هو غير ضروري ، حتى وصل إلينا قطار هذا الربيع العربي والذي دخلت معه البلاد ومنذ قرابة العامين في مرحلة ما بات يعرف بالحراك الأردني .


قبل الحراك ، كنا أقرب إلى السكون منه إلى الحركة ، والسكون بطبيعة الحال هو ما كان يسود في غالبية الأقطار العربية وليس في الأردن فقط ، وهي الحالة التي كانت تعشقها و تتلذذ بها القيادات وحكوماتها وأجهزتها و مؤسساتها ، والتي ومن خلالها فقط كانت تستطيع مواصلة العيش على بساط الحرير وريش النعام ، وهذا ما كان يدفعها للتمسك بكل ما يؤدي إلى بسط وفرض ظروف ومناخات الإستبداد والإستعباد والقهر والظلم بحق شعوبها ، فالسجون مفتوحة على مدارالساعة ، والهراوات مسلطة على الرؤوس لكل من يفكر بالخروج أو التمرد على هذا الحال التي ما كانت الحيوانات تطيق العيش معها .


هبط الربيع ، وعلت صافرة قطاره ، وها هي الصورة ماثلة أمامنا بكل تفاصيلها ، وأسوة بباقي العواصم إنقلب السكون الأردني إلى حركة ، والمثل الشعبي يقول " إن في الحركة بركة " ، والبركة ، هو ما يبحث عنه الشعب ، وعلى الأخص تلك الطبقات والشرائح المسحوقة والمغلوبة على أمرها ، والتي باتت تؤمن بأن قطار الربيع والحركة سيحملان لها الرخاء والتغيير ، والحرية والديمقراطية ، ودولة النظام والقانون الذي يفترض أن يطبق على جميع الأجساد والرؤوس ، فالقانون العادل لا يعترف بكبير أو صغير لأن الكل سواسية في الحقوق والواجبات .


في الأردن ، وبعد عامين من الحركة والحراك ، لا زالت البركة على الطريق ولم تصل بعد ، وما تحقق منها حتى اللحظة لا يزال دون رغبات وأمنيات وطموح المتحركين ، وبالتالي ، فما عليهم سوى مواصلة الحركة وعدم التوقف ، فالنتائج التي يرنو إليها جمهور المتحركين في حاجة ماسة إلى شد براغي أدوات الحركة وتقوية جميع مفاصلها .

الأدوات وبكل مشاربها من الأحزاب ، والنقابات ، والمؤسسات الشعبية ، والأفراد والشخصيات المستقلة لا زالت بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود على صعيد الإرتقاء بوضعها الذاتي الداخلي ، وبالبرامج ، والسياسات ، والمواقف التي لا بد و أن تجتمع الأغلبية حولها ، كل ذلك وإن توفر ، سيدفع بالإرتقاء الأكثر إلى مستوى مسؤولية المناداة و المطالبة بالإصلاح والتغيير ،وهما الهدف الذي ينشده الجميع .


لقد دللت تجربة العامين المنصرمين على ان الحكومات التي تعاقبت خلالهما ترفض وبشدة تقديم أصغر " البركات " التي ينادي ويطالب بها جمهور المتحركين ، وها هي الحكومة الحالية تفتح عهدها بالتلويح برفع الأسعار وإشعال المزيد من النار التي ستكوي الأكتاف أكثر وتحرق ما تبقي في الصدور ، وهذا قد يدفع بشبح الموت لكي يقترب و يخبط أكثر فأكثر لأن ينبوع الصبر سينضب ، والقدرة على التحمل ستنهار، وهذه هى أفضل الظروف لكل أنواع وأشكال الموت ، الجسدي والمعنوي ، والسياسي والإقتصادي ، والإجتماعي والمعيشي .

بالمقابل ، فهذا وإن حصل لا سمح الله ، فسوف يكون السبيل الوحيد لكي تنتعش سوق إعلانات النعي ، و " النظرة الإعلامية الثاقبة " عند بعض الوسائل هي التي دفعتهم لإستباق الوقت ، وعرض التخفيضات والخصومات التي إستدعت كتابة هذه السطور، وكل عام والجميع بخير بمناسبة عيد الأضحى المبارك وعلى أمل أن نلقاكم بعد عطلة هذا العيد نستودعكم الله !!