هل تبدأ رحلة "الهجرة العكسية" لمقيمين عرب من تركيا بسبب الارتفاع الكبير في الأسعار؟
على مدى السنوات الماضية، كانت تركيا الوجهة الأولى للعرب الذين ضاقوا ذرعاً بالظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بها بلادهم، ما بين ميسور يرغب في معايير حياة أفضل، وما بين باحث عن فرصة عمل تأمن له الحد الأدنى من متطلبات الحياة الأساسية وهي معايير كانت متوفرة إلى حد كبير طوال السنوات الماضية قبل أن تبدأ بالتضاؤل سريعاً مع الانهيار التاريخي لليرة التركية وارتفاع معدلات التضخم التي تسببت بموجبة غلاء غير مسبوقة في كافة قطاعات الحياة، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام احتمالات "الهجرة العكسية” لقطاع مهم من المقيمين العرب في تركيا.
وخلال الأشهر الماضية، اتخذ البنك المركزي التركي ثلاث قرارات متتالية خفضت سعر الفائدة بإجمالي 400 نقطة أساس لتنخفض من 19 إلى 15 في المئة وهو ما أدى إلى هزة غير مسبوقة بالأسواق المالية وفقدان الليرة التركية قرابة 40 في المئة من قيمتها خلال أشهر ووصولها إلى مستويات متدنية تاريخية، بالتزامن مع الارتفاع الكبير بنسب التضخم التي وصلت رسمياً إلى 20 في المئة، إلا أن المعارضة تقول إن أسعار التضخم الحقيقية تجاوزت 50 في المئة، وهو ما أدى لموجة غير مسبوقة من الارتفاع الكبير بأسعار كافة القطاعات.
وبينما ضرب التضخم كافة القطاعات، إلا أن انعكاسه على قطاع العقارات كان الأكبر، حيث ارتفعت أسعار العقارات بنسب تتراوح بين 50 إلى 100 في المئة، في ارتفاع استثنائي جعل متوسط الايجار الشهري لشقة صغيرة متواضعة في إسطنبول، أعلى من متوسط الحد الأدنى للرواتب الشهري، إلى جانب الارتفاع الذي شهدته الخدمات الأساسية كفواتير الماء والكهرباء والغاز والانترنت وأسعار الوقود، والمواد الغذائية الأساسية والخضار والفواكه التي باتت أسعارها تشهد ارتفاعاً شهرياً وأحياناً اسبوعياً مضطرداً.
وكما تنعكس هذه الأوضاع على المواطنين الأتراك بدرجة أساسية، انعكست بدرجة كبيرة على المقيمين الأجانب في تركيا، سواء اللاجئون السوريون واللاجئون من جنسيات عربية أخرى والطلاب والمقيمون العرب لأهداف العمل والسياحة، حيث تفاوتت الآثار الصعبة لهذه الظروف الاستثنائية على الشرائح السابقة بناء على تفاوت قدراتهم المالية وبدرجة أساسية حجم الدخل الشهري والأهم ما إن كان هذا الدخل بالليرة التركية أم بالعملات الأجنبية الأخرى وعلى رأسها الدولار الأمريكي.
فشريحة المقيمين لأهداف سياحية أو الإقامة المؤقتة لأهداف عمل مرتبطة بشركات أجنبية أو بمعنى آخر جميع من يحصلون على دخلهم بالعملات الأجنبية وعلى الرغم من الارتفاع الكبير في الأسعار، فإن انخفاض قيمة الليرة التركية أمام العملات الأجنبية بقي أكبر من نسبة ارتفاع الأسعار بشكل عام، وهو ما جعل من هذه الشريحة الأقل تأثراً وربما الشريحة الأكثر استفادة من التغيرات الاقتصادية الأخيرة وهو ما يبقى تركيا خياراً جيداً لهم.
إلا أن هذه الشريحة تبقى صغيرة جداً مقارنة بالشرائح الأخرى الأكبر بكثير، والتي تحصل على دخلها بالليرة التركية، سواء أصحاب الرواتب والمهن المختلفة أو أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة وحتى الكبيرة، أو المستثمرين من خلال البنوك والذين يحصلون على عوائدهم بالليرة التركية.
هذه الشريحة الواسعة باتت اليوم تواجه تحدياً كبيراً عقب انخفاض قيمة الليرة التركية والارتفاع الكبير في الأسعار، وهو ما جعل أصحاب الدخل المتدني (العاملين بالحد الأدنى للأجود وهي الشريحة الأوسع) لا يستطيعون توفير متطلبات الحياة الأساسية بسهولة، فيما بات أصحاب الدخل المتوسط يوفرونها بصعوبة بالغة، ويبقى أصحاب الدخل المرتفع وهم شريحة صغيرة يمتلكون قدرة أكبر على الصمود في هذه الظروف الاستثنائية.
وكانت شريحة من المقيمين العرب في تركيا هم ممن فضلوا وضع مدخراتهم في البنوك التركية والعيش من عوائد الفائدة التي تمنحها البنوك شهرياً، لكن مع خفض سعر الفائدة يتوقع أن تنخفض قيمة العوائد الشهرية لهذه الأموال، كما أن قيمة هذه المبالغ الحقيقية انخفضت بشكل كبير جداً أمام الدولار، ومع الارتفاع الكبير بأسعار الإيجارات الشهرية ومتطلبات الحياة الأساسية، فإن جزءا من هذه الشريحة لن يكون قادراً على مواجهة التحديات الاقتصادية الجديدة.
كما أن شريحة أخرى كان يمثلها الشبان الذين وصلوا تركيا من دول عربية مختلفة للعمل في قطاعات صناعية وخدمية، لن يكونوا قادرين على الاستمرار خلال الفترة المقبلة حتى ولو جرى رفع الحد الأدنى للأجور كما هو متوقع مع بداية العام المقبل، حيث أن جزءا كبيرا منهم كان يهدف إلى توفير جزء من الراتب سواء لمساعدة عائلته في وطنه الأم أو ادخار مبلغ للمستقبل، لكن مع انخفاض قيمة الليرة، فإن التوفير للمستقبل بالدولار على سبيل المثال بات أمراً أقرب للمستحيل مع وصول سعر صرف الليرة أمام الدولار إلى 11.3، وبطريقة أخرى، فإن من يحصل على الحد الأدنى للأجور بمتوسط 3000 ليرة تركية، يحتاج إلى توفير أكثر من ثلث راتبه لتجميع 100 دولار أمريكي، وهي معادلة غير ممكنة في ظل الغلاء الكبير في الأسعار.
وبينما تبدو الإقامة في تركيا اختيارية لحد ما إلى الشرائح السابقة، فإن الإقامة تعتبر إجبارية للاجئين من سوريا ودول عربية مختلفة، وهي الشريحة الأكبر من حيث العدد. إذ يوجد قرابة 3.6 مليون لاجئ سوري ومئات آلاف آخرين من جنسيات عربية مختلفة، وهي شريحة تعتمد في أغلبها على الدخل من خلال الأعمال المختلفة داخل تركيا وبالليرة التركية، وهو ما يجعلها من أكثر الشرائح تضرراً من الأوضاع الاقتصادية الحالية.
وتبدو الخيارات صعبة أمام اللاجئين الذين يجدون صعوبة كبيرة في العودة إلى بلادهم، وبالتالي تنحصر خياراتهم بين تقليص مصروفاتهم ومحاولة زيادة دخلهم لمواجهة التحديات الاقتصادية، ومن سيتجهون للعودة إلى الشمال السوري أو تكثيف مساعيهم للهجرة إلى أوروبا براً أو بحراً من تركيا، وهو ما بدأ يظهر تدريجياً من ارتفاع أعداد المهاجرين الذين يحاولون يومياً الوصول من تركيا بحراً إلى اليونان.
أما من يمتلكون خيار العودة إلى بلادهم، فإن موجة من "الهجرة العكسية” يمكن أن تبدأ لدى شريحة من المقيمين العرب بدافع الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها البلاد في هذه المرحلة، بالإضافة إلى التحديات السياسية المتزايدة والمتوقع أن تتصاعد مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة عام 2023، والخشية من وصول المعارضة التي تتوعد بسن قوانين وتطبيق إجراءات تضييقية على الأجانب وخاصة العرب منهم.
"القدس العربي"