شرفة منزل الأمنيات
جراءة نيوز - محمد تيسير محمد يكتب ..
لا شيء هنا إلا أنا، وهذه الأجهزة التي تفيض أحاسيس ومشاعر رغم أنهم يقولون بأنها جمادات.
أقمتُ معها صداقات، وعقدتُ حوارات و"فضفضة" لم أجربها مع غيرها مسبقًا، حتى قبل أن أصاب بهذه الكتلة التي تسمى "السرطان" لا أذكر أني كنت صريحة كما أنا الآن،
أنا حواء، واختيار أبي لهذا الاسم ليس عبثيًا، كان يريدني أنثى متفردة، فقد جئته بعد أربع إخوة من الذكور.
في هذه الغرفة أنا طائر يحلّق فوق أيام الحياة، يرى أيام حياته واحدًا واحدًا، ويستعيد لحظات لا يمكن أن تُستعاد إلا بمثل هذه الغرفة ومع هذه الأجهزة، أخرج منها على نحو عادي، لا كآبة ولا غضب، فالاعتياد تحقق، وتتابع الأزمات والصدمات سهّل مهمة الأطباء والمختصين وفريق الدعم في إقناعي بأن أحد أوجه الشفاء التحلي بالقوة والصبر، وأن تكون قلوبنا موقنة بأنه في وقت ما ستغادر الكتلة جسمي، وأعود كما كنت.
لم أكن قد أفقتُ من صدمة طلاقي حتى باغتني "السرطان"، وفي اللحظة التي عرفتُ فيها أنه سبب آلامي لم يخطر ببالي سوى التخلص من هذه الحياة الخالية من الرحمة، وأن العدالة الإلهية أخطأتني، وإذا لم تخطئني فإنها ستعوضني بعد الموت، إذ لا يمكن أن يكون ما مررتُ نصيبًا عادلًا لفتاة عادية مسالمة إلى حد كبير.
وحده أبي من وجدته بجانبي، حتى عندما ثرت وغضبت وصرخت لحظة معرفتي بإصابتي بالمرض لم يطلب مني أن أصمت، ضمني إلى صدره، وترك كلماتي المتمردة بالقسوة تملأ الغرفة.
أبي هو نجم حياتي، جئته بعد أربعة ذكور لا يقلون عنه حنانًا ورأفة، لكنه مختلف عنهم، رحمته واسعة، وكأنها ممزوجة بأنفاس ربانية نقية، دللني وأحاطني بعطف نادر كان طوق نجاتي من كل محنة أو منعطف، ودموعه يوم زواجي لم تكن دموع فرح بقدر ما كانت دموع قلق وخوف ألا أجد في بيت زوجي ما وجدته عنده، وربما أحس أبي بهذا فلم يخجل من دمعه، بل منحه حرية الجريان بلا حدود.
لا أذكر أنه مرّ يوم دون أن يتصل بي أو يكلمني، ووصاياه لزوجي لم تتوقف، فأنا المدللة الرقيقة والهشة أيضًا بلا أب.
كان عدم الإنجاب أول المواجهات القاسية، فبعد عام من الزواج بدأت أراجع الأطباء، وأجمعوا كلهم أن لا أمل في أن أصبح أمًّا، فتركني زوجي، ويوم أخذت ورقة طلاقي كان أبي الحاضر بجانبي، يغلف أيامي برحمة الدنيا وعطفها، فتسير ساكنة هادئة.
شيء ثقيل في صدري، أحس قسوته كلما مرت أصابعي فوقه، قلت لنفسي ربما هو "نكد الحياة" وضغط العمل، وتنظيف البيت، قليل من المسكنات سيكون كفيلًا بالتخلص منه، حتى جاءت تلك الليلة الماطرة الباردة التي م أنم فيها من فرط الألم.
استيقظت أمي على أنين لا يتوقف، تحسست جسمي بيدها الرقيقة وهم تتمتم بآيات قرآنية لكن صدمتها من لمس مكان الألم أوقفها، تفحصت المكان بقلب الأم وخوفها، وفورًا قالت سأوقظ والدكِ، يجب ان تذهبي للمستشفى الآن.
رجوتها ألا توقظه على وعد بزيارة الطبيبة غدًا.
لم يكن أبي كأي رجل عادي، قبل أن أغادر إلى العمل قال بصوت ليس كصوته الذي أعرفه: أنت لستِ بخير؟ قلت له ونظراتي تتوسل لأمي ألا تخبره: بوجودك في حياتي وأمي كل شيء بخير، وخرجت من البيت، وخطواتي تتمرد على عقلي وتتجه إلى المستشفى وتبتعد عن طريق العمل.
في غرفة الفحص لم تغادر الابتسامة وجه الطبيبة، حتى أزالتها صورة الأشعة، فبادرتها السؤال "ما بي دكتورة؟" قالت لا يظهر لي شيء حتى الآن، يجب أن أجري مزيدًا من الفحوصات، وطلبت مني الانتقال إلى غرفة أخرى.
انتهت الفحوصات وكلام الطبيبة الهادئ الذي يبعث الاطمئنان لم ينجح في جعلي أرفع يدي عن منطقة الألم، أتحسسها وتذهب ب الخيالات بعيدًا إلى طرح احتمالات لم يكن السرطان بينها، حتى جاء ذلك الاتصال الهاتفي الذي يطلب مني زيارة الطبيبة برفقة أحد من عائلتي.
أبي من جديد، بطلي وملاذي قلت له يجب أن ترافقني إلى المستشفى بناء على طلبهم، فقال: حتى لو لم يطلبوا، سعادتي بك ومعك تتحقق في أي مكان أنت فيه ودخل إلى غرفته.
قلت لأمي: هل أخبرت أبي بشيء؟
قالت: لا، لكنه يحس بأنك لست بخير، وقد أخبرني بذلك منذ قررت الذهاب للطبيب.
غابت أفكار الحياة كلها، وأوجاعها، وبقلب كأنه يؤمن أول مرة توجهت للسماء ورجوت الله أن يكون أبي بخير، وألا يسببَ له ألمي أي بؤس وحزن، لا أتخيل أن أكون سببا لحزن أبي، قلت هذا وأصابعي تتحسس الثقل في صدري، وقسوة مكان الألم.
في الطريق إلى المستشفى خطرت ببالي كأي أنثى تلك الأحلام بحياة وردية ننال فيها الأمان والحرية، ولا يخنقنا الحرمان أو تضيق بنا الأمكنة، نرسم أرواحنا في جدرانها وننقش أمانينا فوق حجارتها، وكيف أن أبي نجح في أن يكون كذلك دون ضيق أو تبرم أو يأس، ما زلت بين يديه تلك الطفلة التي تغضب إذا رأت إخوتها يسخرون من دميتها، أو يتقاذفونها فيما بينهم، فيأتي الأب ليوقف ذلك كرمى لعيون ابنته.
صدمات كثيرة كان أبي فيها البلسم الشافي والملاذ الأخير.
في غرفة الطبيبة سيثبت أبي من جديد أنه بطل حياتي، الطبيبة تحاول انتقاء الكلمات لتخفف وقعها في أسماعنا بينما عيون أبي تلفني كأرض مفتوحة تُصادِق الريح، وتمنح البلاد الحَبَّ والخِصب والثمر وتعبر بالكائنات إلى فضاء الحرية الشاسع، وما إن انتهت من كلامي حتى انفجرت براكين النار من قلبي وعقلي بكلمات فهمها أبي، فلم يوقفها، بل استقبلها كعائد من الحرب، مثخن بالجراح لكنه يتنفس، أصابع يده التي يمررها فوق جسمي كأنها أصابع الملائكة، مع كل لمسة تطفئ جمرة من جمرات روحي التي أقذفها في الاتجاهات كلها، وبصوته الملائكي همس في قلبي قبل أذني: تهيأي للعبور، سنستنشق معًا رائحة الشفاء والبلاد، ونلتقط صورة ضاحكة نحفظها في الذاكرة، وسنتجول في شوارع المدينة لنرى قطع قلوبنا التي تركناها هناك.
كيف لأب يصعق بابنته مرتين، وفي أقدس مواطن الأنوثة أن يقول مثل هذا الكلام، "نيالك فيه"، كانت هذه كلمات الطبيبة يوم أخبرتني بشفائي.
متى سنبدأ رحلة الشفاء أيتها الطبيبة؟ نجن مستعدون وجاهزون منذ اللحظة.
خاطب أبي الطبيبة كمن يقف على حافة معبر، أيسمح له بالدخول أم يعود من حيث أتى، كان كمن يبحث عن وطن يحتمي به، دون أن يعرف أنه الوطن لابنة مصابة بأنوثتها لكن عظم الإصابة تتحطم أمام حنان وعطف لا مثيل له، فهل نحن الإناث يعوضنا الحنان عن كل مصائب الدنيا مهما كانت كبيرة؟
كان أبي كذلك، ومن خلفه إخوة يبذلون من المال والجهد والدفء ما يجعل حرارة الجرعة الكيماوية بردًا وسلاما في أوردتي، يلفون ممرات المستشفى المؤدية لغرفة العلاج بصباح يورق بالريحان وسور الياسمين الطويل، يربتون على رؤوسهم التي جعلوها تشبه رأسي، يجمدون حسراتهم، ولا يسألون عن الصور وقطع القلب، بل يرسمون في دفاتر أيامي المقبلة ما يريدون التقاطه من ذكريات لم نعشها معًا، ممتلئون بالحكايات والأمكنة، تلتهب أرواحنا لنعود مرة أخرى قطيعًا يسرح في البراري.
في أوقات العلاج تتعرف إلى مصابين مثلك، يعانون مما تعاني لكنهم جميعًا يتمنون لو أنهم محاطون بما أحاطني به أبي وعائلتي، يسردون قصصًا كثيرة عم ألم معنوي يفوق في تأثيره ألم العلاج، فياليتكم تدركون أن الأنثى مصيبتها مضاعفة، ألم خبيث وفي مكان يجرح أنوثتها وينتقصها، فترفقوا، ترفقوا بهن.
كي تكون لقمة الحياة سائغة للشفاء، ولملمة أجزائهن المتناثرة بين الحرمان والوجع أقل ألمًا.
أثناء رحلة العلاج بنى أبي بيتًا من الأمنيات، يسكنني فيه فور شفائي، أراه أمامي يكبر ليصبح وطنًا تتمناه كل أنثى مجروحة، سأقف في بابه وأعبر عتبته دون أن أتعثر، أبدو كمسافر عائد إلى بلده دون أن تفارقه ريحة البلاد.
بنبض هادئ أتابع دقات الجهاز، ومع كل دقة أنتظر الموعد النهائي للجرعة الأخيرة، الكتلة النارية في صدري تتضاءل أسرع من المتوقع، يطفئ لهيبها دواء يمنحه الأطباء من قلوبهم قبل صيدلياتهم، وعطف أب ورأفة أم وحنان إخوة.
هل تبدو الأنثى ضعيفة وهي محاطة بحصار دافئ حميم؟
بل هي الأقوى من السرطان، والأقوى من الوجع والأقوى في مواجهة آثار الجرعات، إذ لا قوة أكثر تأثيرًا من الدعم والمساندة.
بيت أبي يكبر يومًا بعد يوم، يصفه لي بملامح لم يمزقها طول انتظار شفائي، ما زال وجه أبي كما أعرفه منذ الطفولة، طائر متوهج يحلق باحثًا عن الحقيقة كي يقبض عليها، حقيقة أنني ابنته المدللة مهما عصفت بي الأيام، وغيرت ملامحي الأوجاع.
بيت أبي يضمني الآن، يحتضنني وقد تجاوزت السرطان، وتخلصت من الثقل في صدري، أطالع وجه العائلة فردًا فردًا، يشبهون أصص الأزهار في شرفة منزل الأمنيات، ملونة وجاذبة، استقبلوني بالخضرة؛ قلب أخضر وأغصان خضراء تتعربش عليها الأحلام المؤجلة، تدفعنا للإقبال على الحياة.
تفحمت الكلمات واختفت، لم أجد ما أقوله لهم، ضمني أبي، والتفت حوله أمي وإخوتي، كان عليّ ان أكون أكثر فرحًا وتوهجًا وأقل حزنًا، فأنا محاطة بكل ما يتمناه المرء بعد نكسات متتابعة، وطن حنون، وعائلة دافئة، وطائر شاب أغرسه مكان كتلة نارية اختفت إلى الأبد، كتلة كان ينبغي أن أخبرهم بها منذ اللحظة الأولى التي شعرت بوجودها في صدري كي لا تطول رحلة الشفاء أكثر، وهذه الفكرة بالضبط هي آخر ما كتبته في الجدارية المعلقة في ممر المستشفى، وما سأكتبه في كل مرة أستعيد فيها تجربة التعافي.
طائر يكبر، يحلق في الفضاء، وفي كل رحلة لن ينسى أن يمر فوق غرفة الأجهزة التي تفيض أحاسيس ومشاعر رغم أنهم يقولون بأنها جمادات.