اعادة الهيكلة في البوتاس



لقد كان اكبر انجاز يسجل ، لرئيس مجلس الادارة الجديد في شركة البوتاس ، معالي المهندس جمال الصرايرة ، والذي لم يمضي على تعيينه سوى ثلاثة اشهر تقريبا ، اضافة الى انجازاته العديدة الاخرى ، التي جعلته الرئيس الاكثر شعبية في البوتاس ، واكسبته محبة وتقدير وثقة الاغلبية الساحقة من العاملين ، هو ادراكه السريع ، لعمق الجروح التي سببتها هيكلة الرواتب عام 2008 ، والغبن الذي لحق بفئة كبيرة من العاملين ، وعدم توفر ارادة الاصلاح لهذا الخلل ، الذي مضى عليه اكثر من اربع سنوات ، وعدم ايمانه بالحلول الترقيعية ، فامر باعادة دراسة الهيكلة من جديد ، ونسف كل بناء فاسد وما قام عليه ، واعادة البناء على اسس جديدة واضحة وعادلة .

وهنا لا بد من الاشارة ، الى ان خصخصة شركة البوتاس العربية ، في عام 2008 كانت خطوة ايجابية كبيرة من قبل الادارة الكندية ، ساهمت في تحسين رواتب العاملين في البوتاس جميعا ، بعد ان تأكلت هذه الرواتب لفئة كبيرة من العاملين ، وتضآلت امام غول الغلاء ، واصبح العديد من العاملين في البوتاس ، على وشك اللجوء للتنمية الاجتماعية بعد تقاعدهم ، لكن هذه الهيكلة في الرواتب ، ساهمت في اعادة مستوى معيشتهم الى حد كبير ، الى ما كان عليه الوضع في بداية تشغيل المصانع في بداية الثمانينات ، حين تميزت شركة البوتاس بكل ما تقدمه لعامليها .

لقد تحولت هذه الهيكلة من نعمة الى نقمة ، بفضل التدخلات لاحراز مكاسب بغير وجه حق لاكثر من جهة ، سواء لنقابيين او متنفذين بالشركة او لافراد من العاملين ، انتظموا في تكتلات ، محسوبة على هذا المدير او ذاك ، وتم التلاعب بالهيكلة ، وانتزاع مكتسبات من عاملين ومنحها لاخرين ، وبعضها تم بمجرد اتصال هاتفي مع مدير الموارد البشرية الاسبق ، واقرت هذه الهيكلة اصلا بدون اسس محددة ، او بأسس واهية لبعض الحالات ، بعيدة عن العدالة ، استخدمت لتبرير الايذاء اكثر منها للمنفعة ، بعد ان تم تجاهل العديد من دراسات شركات انصفت العاملين .

كل هذه التجاوزات كانت مكشوفة ومتوقعة ، تحدث بها المتضرر شاكيا ، كما المستفيد متباهيا ، وهي ظاهرة للعيان ، لا يستطيع احد انكارها او تبريرها ، لكن ما خفي اعظم ، واقصد هنا الانتهاكات لحقوق العاملين ، التي مارسها بعض مدراء الدوائر العرب ، وحاولوا سبغ صفة قانونية عليها ، ومن امثلة ذلك :

اعتماد المسمى الوظيفي كاساس لتعديل الراتب ، مع تجاهل الدرجة الادارية ، وهذا ما تم مع العديد من الفنيين ، وبالذات في دائرة الصيانة ، حيث كان المسمى سابقا يرافق الدرجة الادارية ، فمثلا عندما يتم ترقية فني اول وهو في الدرجة الادارية الثامنة الى الدرجة السابعة ، يجب ان يتبدل مسماه تلقائيا الى مراقب ، وهذا الامر كان يخضع للمزاجية احيانا ابان العهد العربي ، حيث تمت ترقية العديد من الفنيين الى الدرجة السابعة دون تبديل المسمى الى مراقب .

 

وعندما جاءت الهيكلة ، اعتمد المسمى الوظيفي ، فحصل المراقب على زيادة اكبر في الراتب ، والفني الاول على زيادة اقل ، مع ان الاثنان في نفس الدرجة الادارية ، لا بل ان بعض من حرموا من هذا المسمى اقدم ممن حصل عليه ، ولم يكن لذلك علاقة بالاداء الوظيفي ، والذي لو كان منخفضا لما حصل اصلا على الترقية في الدرجة ، ومع ان هذه القضية مثارة منذ الهيكلة قبل خمس سنوات ، الى انها بقيت دون حل ، لعدم توفر ارادة احقاق الحق لدى المدراء العرب ، مما حدا بالمتضررين الى رفع قضايا امام المحاكم .

في الوقت الذي منحت فيه المسميات الوظيفية للفنيين نفس الميزات المالية ، فقد تم تجزئة مسميات المهندسين ، حيث منح بعض النظار الدرجة المالية الخامسة ، الاعلى راتبا ، واخرون اما الدرجة المالية السادسة او السابعة ، دون اسس واضحة ، ولعل اكبر مظهر من مظاهر الاستهتار في البوتاس ، ان يتم تعيين مهندس حديث التخرج ، بنفس راتب مهندس خبرته عشرين عاما بالاشغال الشاقة الميدانية ، فقط لانه ابن احد المدراء ، وعمره اقل من سنوات خبرة بعض المهندسين الذين يتساوى معهم بالراتب .

 لقد تم تجاهل العشرات من سنوات الخبرة ، وبالاخص للمهندسين ، فتساوى الراتب لمن يحملون نفس الدرجة المالية ، فالمهندس الذي تم منحه مسمى ناظر قبل الهيكلة باسابيع ، اصبح يتساوى بالراتب مع الناظر الذي يحمل هذا المسمى لخمسة عشر عاما ، لا بل راتبه اعلى من ناظر اخر ، نزل عليه غضب الحاكم الناهي ، فمنح الدرجة المالية السابعة .

 التلاعب في منح المسميات الوظيفية قبل الهيكلة ، وهذا ما حدث في الاسابيع او الاشهر القليلة التي سبقت هيكلة الراتب ، حيث كان التسابق من كل طرف لجلب المنفعة لاتباعه ، فتم منح مسميات مراقب ومشرف بدون اسس ، وتم على سبيل المثال ترقية احد مهندسي الصيانة الى رتبة ناظر قبل الهيكلة باسابيع ، رغم وجود من هم احق منه بهذا المسمى في اقسام اخرى ، وكان بالامكان اجراء التنقلات الضرورية لمثل هذا الغرض .

وعلى ذكر التنقلات ، لا بد من الاشارة ، الى ان الهيكلة قد طرحت منذ بداية الخصخصة ، وبالتحديد في عام 2004 ، حيث سببت المعلومات التي سربت عن تفاصيلها ، العديد من الاحتجاجات ، وكان التبرير للمحتجين من قبل مدير الصيانة انذاك ، ان الذي يحدد المسمى هو المهام الوظيفية في ذلك الوقت ، فالناظر "رئيس القسم " في موقع ما سوف يخفض مسماه الى مشرف ، ومساعد مدير صيانة سوف يخفض الى ناظر ، وبنفس الوقت ناظر موقع معين سوف يصبح مديرا .

 

 اي ان " الوزن الوظيفي " ، هو الذي يحدد المسمى صعودا او هبوطا ، وفهم من ذلك ان كل موظف سيبقى في مكانه ، وعلى ضوء مهام عمله هناك سيكون مسماه الوظيغي في الهيكلة ، وقد جمد مشروع الهيكلة لاربع سنوات لاحقة ، لكن التحضيرات لها لم تتوقف ، واعداد المحاسيب للمواقع المتقدمة لم يتوقف .

وكما هو متوقع ، تم في السنوات الاربع التي سبقت الهيكلة ، اجراء التنقلات للاتباع ، كي يضمن كل منهم مسماه المعد له في الهيكلة ، كما تم ضم اقسام لقسم اخر ليس بينهم رابط ، بهدف تعظيم دور مسؤول القسم ، وتهيئته للمسمى الاكبر ، وبنفس الوقت سحب معظم مهام اقسام ، والحاقها باقسام اخرى ، من اجل تقزيم دورها ، وبالاخص في دائرة الصيانة .

هذه بعض حالات التزييف ، التي تم اسباغ الصبغة القانونية عليها ، وادت الى سيل من التظلمات ، منذ عام 2008 وحتى الان ، كل هذا تم في وضح النهار ، نتيجة سلطة الاستبداد المطلقة ، وعدم وجود مرجعية توقف الحاكم الناهي عن استبداده ، اضافة الى التجاوزات الواضحة دون فبركة لمبررات ، وعلى عينك يا تاجر .

لم يتوقف الامر عند هذا الحد ، ففي عام 2009 ، والذي يحق لنا تسميته عام النهب ، حيث سجلت فيه شركة البوتاس ارباحا هائلة ، انتشرت ظاهرة فريدة ، تمثلت بالعمل الاضافي التنفيعي الهائل ، خاصة بعد زيادة الرواتب ، التي وصلت عند البعض للضعف ، واصبح العمل الاضافي مجزيا ، ومدعاة للتسابق عليه ، وحقق غير المغضوب عليهم وغير الضالين ، ارقاما فلكية من حيث مردود العمل الاضافي التنفيعي ، تجاوزت رواتبهم الشهرية ، في الوقت الذي حرمت فيه اقسام واشخاص في دائرة الصيانة من الحد الادنى من العمل الاضافي .

 

لا بل تم تشجيع انتقال الفنيين من قسم معين الى اقسام اخرى تتوفر فيها فرص العمل الاضافي ، ودون توفير البديل ، واستمرت هذه الظاهرة لسنوات لاحقة ، لكن بزخم اقل ، بعد الازمة المالية العالمية ،ولا بد هنا من لفت النظر الى ظواهر فريدة رافقت عام النهب ذاك ، لقد كان من الطبيعي ان تذهب الى محل بيع اللحوم يومي الجمعة والسبت وفي العطل ، فتجد مهندسا وفنيا او اكثر جاؤا لشراء الذبائح ، من اجل اقامة "الزرب" الجماعي في المصانع اثناء مناوبتهم ، وللمرء ان يتخيل حجم الهدر في الجهد والوقت لاعداد هذه الماكولات ، التي "مع الاسف" لم يتح الفرصة لها لدخول موسوعة جينيس .

 

 كما كان من الملفت ايضا ، ان تجد مهندسين ، اصبح بعضهم مدراء ، كانوا يعملون اضافيا كل يوم وفي نهاية كل اسبوع ، وكان الواحد منهم لا يرد التحية بحجة انشغاله ، وبعد ان اصبحوا مدراء ، ومنع عنهم العمل الاضافي ، اصبحوا يغادرون مواقع عملهم مع نهاية الدوام ، رغم ان طبيعة عملهم لم تتغير ، وما تغير هو المسمى الوظيفي فقط ، وبعض هولاء بحاجة الى دورات في الادارة ، كي يحسنوا التعامل مع زملاء لهم ، لم يجدوا الدعم لنيل مواقعهم .

لقد تعرض عمال خلال عشرات السنين ، الى تظلمات العهد العربي لكنها كانت بالنسبة لهم انية ، ولم يفكروا باللجوء الى القضاء ، احتراما للعلاقة الاسرية التي كانت تربط جميع العاملين في البوتاس مع اداراته العليا ، وخاصة في عهد المرحوم سليمان الهواري ، والمهندس ناصر السعدون اطال الله عمره ، وهنا لا بد ان اذكر قصة فيها العبرة عن المرحوم الهواري ، المدير العام الاسبق ، حيث تعرض احد المدراء لاشكال ما مع الادارة العليا .

 

ولان الجمل عندما يقع تكثر السكاكين عليه ، فلقد ساهم الجميع بايذائه ، حتى وجد نفسه يوما مضطرا للاستقالة ، وبعد استقالته بفترة ، علم المرحوم سليمان الهواري بالحقيقة ، وبالظلم الذي تعرض له ذاك الرجل ، فذهب الى السوبرماركت الذي عمل فيه ذاك المدير بعد استقالته ، واعتذر له وساهم في تعيينه مديرا في احدى الشركات الحليفة ، فكم من مدراء هذه الايام يمتلك مثل هذه الاخلاق ؟ ولا ننسى المهندس ناصر السعدون ، الذي كان يداوم في مكتبه ليلا ، وكان باستطاعة اي عامل مهما صغر ، ان يذهب الى مكتبه ، ويطرح مظلمته ، وان اقتنع بها ابا غازي ، فانها تحل فورا وبرضى الجميع ، رغم التجاوز الاداري ، فهذا الجو الاسرى جعل اي تجاوز على حقوق اي من العاملين امرا انيا ، سوف يحل لاحقا ، ان استطاع العامل اثبات حقه ، لكن مع الادارة الاجنبية وهيكلتها ، واستبداد المدراء العرب ، فالظلم يتجذر ويترسخ ، ويتوسع افقيا ليشمل حتى توزيع السكن الوظيفي .

نود هنا ان نلفت انتباه معالي الرئيس ، الى احتمالية التلاعب في اعادة الهيكلة ، ان ترك الامر لمن تسبب في مأساة الهيكلة السابقة ، ولعل ما يخططون له الان ، الاستفادة من الامر الواقع الذي فرضوه ، بان يجعلوا المهام الحالية لكل موظف هي الاساس في تحديد موقعه من الهيكلة ، وهذا الامر فيه ترسيخ نهائي للظلم ، لانهم تلاعبوا في المهام الوظيفية سابقا ، عظموها لمن شاؤوا ، وقزموها لاخرين ، والعدل يقتضي ان يتم توزيع الوظائف من جديد ، لياخذ كل واحد الموقع الذي يتلائم مع مؤهلاته وخبرته ، مع مراعاة ما خسره المتضررون من سنوات سابقة ، خبرة وضرر مادي ومعنوي .