الانتخابات.. لابد من بناء الثقة أولا ..
في أجواء ليست كأجواء الدول التي يقترب فيها يوم انتخابات مجلس النواب ، تخيّم على البلاد أجواء من الغموض وإشارات الاستفهام التي تشوه تلك العملية وتجعلها مملة خالية من أي دسم ، فالناس تعيش صراع يسمى في علم النفس بصراع الإقبال والإحجام عن المشاركة حتى في تسلم بطاقاتهم الانتخابية ، فأعداد البطاقات المعلن إعلاميا و التي تسلمها الناس تشير إلى تلك الأزمة والتي لم تتجاوز حتى اللحظة نصف العدد من البطاقات بالرغم من تجاوزات سمحت بها الدولة والهيئة المستقلة لبدء الحملة الإعلامية مبكرا للمرشحين ، لعلها تفضي إلى توسيع قاعدة المقبلين على تسلم بطاقات انتخابهم ، ومنحت المرشحين تسهيلات الحصول على بطاقات أخرى مخالفة للإجراءات والقوانين لنفس ألدواع .
فاستغل أولئك النفر من المرشحين تلك التسهيلات ولم يتوانوا عن الإعلان عن ترشحهم في وسائل الإعلام المختلفة ولازالوا ماضون في حملاتهم رغم " تهويش " الهيئة بملاحقتهم واعتبارهم تجاوزوا بل وخرقوا القانون ، فكيف يمكن لمواطن أن يثق بهيئة أو بمرشح يمارس تلك الخروقات القانونية أن يكون غدا مشّرعا ومراقبا لأداء الحكومات !
الانتخابات البرلمانية باتت في غالبية دول العالم موروثا ثقافيا وسياسيا ونهجا حضاريا لا يمكن التلاعب به ، وحتى لو عاشت البلاد ظروفا اقتصادية أو سياسية أو أمنية تؤثر على تلك العملية ، فأن ذلك لا يعطلها أبدا ، لأنه استحقاق وطني وشعبي ودستوري لا يملك أحد تعطيله أو التلاعب به ،فترتفع نسبة الثقة بهذه البرلمانات في الدول المتقدمة وتنخفض في بعض دول أفريقيا واسيا وذلك تبعا لأحترام الدول لتلك المؤسسات وترسيخها كمنظومة حضارية وديمقراطية ، وتتدنى لمستويات خطيرة في دول عربية .
ولكننا في الأردن نلاحظ فارقا غريبا لم تعشه بلاد من قبل ، فبعد أن كانت الثقة مرتفعة في برلمان 89 عادت إلى الانخفاض في برلمان 93 بعد تعديل القانون إلى الصوت الواحد وتدخل الأجهزة وتوجيهها للعملية الانتخابية ، وانخفضت حدا كبيرا في أخر انتخابات برلمانية لدورات الأعوام 2007 ، و2010 لنفس القانون ونفس الأسباب ،فارتفعت أصوات الناس للمطالبة برحيل هذه المجالس ، وهاهي تصل في بلادنا إلى مستوى متدن لا اعتقد أن بلادا في العالم وصلت إليه هذه الأيام لأسباب يعرفها الناس وتعرفها الحكومات والأجهزة !
فالحكومات غير الديمقراطية أصلا تعتبر العملية الانتخابية جانبا غير ذي قيمة في حياة البلاد ، ومرتبطة بظروف البلاد ومزاج الحكومات ، فيمكن حل البرلمان بعد عام او عامين كما حصل ويجري لأكثر من مره ، ومن المستبعد أن يواصل المجلس القادم دوراته كاملة في ظل المقاطعة الشعبية والحزبية إذا ما استمرت حالة التعنت الرسمي حيال تعديل القانون ، كما أن الأجواء المحيطة بها لا تساعد المواطن لفهم ما يجري .
أن الغموض الذي يلف هذه العملية يشوه صورتها بالكامل ، فلا موعد الانتخابات مقرر لهذه الدورة وإن كان الحديث أن تجري في وسط الشتاء القادم ، ، ولا الأسماء والأحزاب الفاعلة في البلاد وقوى الشارع حسمت أمرها تجاه المشاركة ، ولا القانون نفسه يساهم بحث الناس ودفعهم للمشاركة ، كما أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية لاتدفع الناس للمشاركة في ذلك " الترف " على حد تعبير بعض الناس ، لأن عضوية مجلس النواب باتت ترفا ومغنما وتشريفا يكسب النائب قوة وحصانة ومكاسب مالية وتقاعدية وامتيازات عظيمه لا يحظى بها غيره ، وتساهم بتكريس الظلم والتهميش وحصر المكاسب بالمقربين من النواب لاغيرهم .
فكانت تعيينات كبار الموظفين والحصول على المنح والعطايا تقدم لمن يستحق ولمن لا يستحق تخص المقربين للنواب ،في سابقة لم تعهدها دول تحترم مواطنيها ، وبات المجلس " فقاسة " فاسدين ومأجورين وأصحاب مصالح بات الوطن اخر اهتمامهم ، وبات المواطن يواجه سلطة تنفيذية أخرى فاسدة متجبرة وغير منتمية تساهم بزيادة ضغطه النفسي وارتفاع " ضغطه الدموي " وهو يراقب بمرارة كيف تتم عقد الصفقات وتمرير المشاريع وحتى تبرئة الفاسدين مقابل ثمن بخس أو وظيفة عليا تمنح للنائب على حساب وطنه وشعبه !
كما أن علاقة البرلمانات الأردنية مع الإعلام و منظمات المجتمع المدني لم تكن يوما على وفاق ، فهي علاقة تتسم دوما بالتوتر وضعف الثقة وتبادل الاتهامات ،وكثيرا ما حصلت مواجهات بين تلك المؤسسات ، لأن طبيعة المجلس وتكوينه والظروف التي شابت تشكيله لم تكن يوما مريحة ولا حرة ولا نزيهة ولا متعاونة ولا مشاورة في عملها ، وكان أن اقر مجلس النواب في سابقة لا اعتقد أن برلماننا في العالم تجرأ أن يفعلها حين أقر بأغلبية مطلقة قانونا معدلا لقانون المطبوعات يضاعف من تقييد حركة الإعلام وتجفيف أقلام الإعلاميين بل وملاحقتهم وحبسهم .
فكيف يمكن لغالبية أعضاء مجلس منتخبين بفعل دعم الأجهزة وتدخلها وبفعل المال السياسي أن يقرروا التعاون والعمل لخدمة الوطن وخدمة الجمهور !!
البرلمانات في العالم هي تجسيد لدولة القانون ومبدأ تداول السلطة والانتقال من الحكم المطلق إلى الحكم البرلماني ، وهي ممارسة السيادة الشعبية في التمثيل والرقابة ، وهي في النهاية منبر التعبير عن طموح وهموم الشعب ووسيلته للمشاركة في الحكم . فهل تنطبق تلك التعاريف على برلماننا الأردني منذ عام 1993 !!
وهل شعر المواطن العادي للحظة أن برلماننا " العامر " يحوي رجال وقادة فكر وعمل يسعون لتكريس عمل تلك المؤسسة كسلطة تشريعية ورقابية متنفذه يخشاها كل متجاوز ! فكيف يمكن لعاقل منتم أن يقبل على نفسه ووطنه المشاركة في هذه الظروف التي تعيشها بلادنا والصورة التي وصلت إليها حالة المجالس البرلمانية في البلاد !
لابد من إعادة الثقة بهذه المؤسسة ، والعمل بقانون يحول دون وصول أصحاب المصالح الأنانية الضيقة و "كتيبة الفاسدين " الذين لم يشوهوا سمعة المجلس فحسب ، بل وسمعة البلد برمتها ، والذين أطلوا برؤوسهم من جديد لاعتلاء تلك المقاعد وتكريس نفس النهج الاستثماري والاستغلالي لمنصبهم .
لعدم وجود متسع في كتاب جراءة ننشرها في مقالات مختارة مع التقديرللكاتب وللقراء