إنها رجعية!

نجامل كثيراً عندما نصف تيارات وقوى نافذة ومقررة في الدولة الأردنية باعتبارها قوى "يمينية" أو "محافظة"، أو ندعوها بالتعبير المستحدث منذ مطلع تسعينات القرن الماضي باعتبارها "قوى شد عكسي" أو "حرس قديم".

ولعل بعض هذه القوى يطرب لهذه الأوصاف ويعتبرها "رأس مال" له! هذه التعابير الملطفة التي سادت لردح طويل من الزمن في الأدبيات السياسية في وصف القوى والتيارات التي تعاند التاريخ وتلوي ذراعه عبثاً، وتحول دون إحداث التغييرات البنيوية والقانونية في النظام السياسي والمجال العام.

باتت تطمس حقيقة أن هذه القوى وما تحمله من أفكار وتوجهات وما تفرضه من سياسات وتوجهات ليست إلا تعابير اجتماعية وثقافية وسياسية عن الرجعية التي حكمت الأردن لعدة عقود، وتريد أن تبقيه أسيراً لتوجهاتها ومصالحها وارتباطاتها، وهو ما يفسر هذه الاستماتة في معاندة إرادة التغيير التي عبر عنها الشعب الأردني خلال العامين الأخيرين، مواكباً، وحتى سابقاً في بعض الجوانب، ثورات الربيع العربي.

قد يصح تصنيف القوى إلى "يمين" و"يسار" وو"سط" في الأنظمة السياسية التي قطعت شوطاً من الديمقراطية، لكونها، جميعاً، إرتضت الاحتكام إلى قواعد الديمقراطية وقبلت بهذه القواعد دستوراً للحياة السياسية ولإدارة الشأن العام. وقد يصح أن نصنف الأحزاب في بلدنا، مع قدر من التحفظ والحرص، إلى يمين ويسار ووسط، طالما أنها ليست جزءاً من النظام السياسي، بالإستناد إلى هويتها الأيديولوجية وبرامجها السياسية.

لكن القوى التي توصف "بالمحافظة" أو "الحرس القديم" أو "الشد العكسي" لا تحددها الأوصاف الآنفة إلا جزئياً، والأصح أن نعود لنستعمل مسمياتها الحقيقية دونما مجاملة أو مواربة، فهي قوى رجعية موصوفة، تدافع عن مشروع رجعي وتتوعد الأردن بمستقبل يبقيه خارج التاريخ وخارج السياق.

وهي تعيش في حالة قطيعة عن المصالح الأعم والأوسع للأردنيين، وتفتقر إلى أدنى صلة بوجدان الناس ومعاناتهم اليومية وأحلامهم وتطلعاتهم لحياة أفضل لهم ولأبنائهم. نقول إنها رجعية، لأن استمرار الحديث عن هذه القوى باعتبارها مجرد قوى "يمينية" أو "محافظة"، يضمر فرضية التكافؤ والندية بين القوى الاجتماعية والسياسية الرئيسية في البلد، ويشيع الاعتقاد بوجود فرص للتأثير والتفاوض والاقناع كنتيجة للحوار بين هذه القوى.

كما لو أنها تتبادل الاعتراف بشرعية بعضها البعض. لكننا نؤكد أن رجعية هذه القوى النافذة والمقررة لا زالت تمنعها من الاعتراف بشرعية الآخر، حتى ولو كان يحظى بتأييد شعبي كاسح، أو يتمتع بميزة فكرية أو برنامجية أو صدقية سياسية. كما أنها لا تقبل مجرد شعور الآخر بالندية، أو حتى حقه في التعبير عن رأيه، أو السماح له بترجمة سياساته إلى وقائع عن طريق صناديق الاقتراع.

ولذلك تصر هذه القوى الرجعية المهيمنة على استخدام ميزان القوى المفروض لإملاء ديمومة، وحتى أبدية، هيمنتها السياسية والثقافية بشتى الطرق، ما يفسر إحجامها عن فتح الباب أمام تعديلات دستورية ذات شأن، أو إعداد دستور ديمقراطي عصري، وكذلك إصرارها على وضع قانون انتخاب على مقاس مصالحها في إدامة الهيمنة، مع إبقاء هامش لرمزية تمثيل القوى الأخرى.

نقول إنها الرجعية، كصفة لهذه القوى، لأن هذه الأخيرة ليست مجرد قوى مادية مجسدة في مؤسسات دستورية مُعرَّفة بدقة في الدستور، وتنهض بمهامها استناداً إليه، أو إلى قوانين محددة معروفة مسبقاً. فهي مزيج من القوى والمؤسسات المادية والعلاقات والثقافات والتقاطعات المصلحية والتواطؤات.

إنها أيضاً مناخ و"جو" سياسي قاتم وكئيب، يرخي ظلاله على كل جوانب الحياة اليومية. في عصر سابق، حين كانت الشعوب العربية تناضل من أجل التحرر من الاستعمار والتبعية الاقتصادية، وتتطلع إلى الاستقلال الوطني الحقيقي، وإلى التنمية والعدالة الاجتماعية، وإلى الوحدة العربية والحرية، في ذلك العصر سادت تعابير "الرجعية" و"أتباع" أو " أذناب" الاستعمار، في مقابل تعابير "قوى التحرر العربي" و"التقدم".

وكان الشعب الأردني يتطلع إلى الانضمام إلى "قافلة التحرر العربي"... حينها كان تعبير الرجعية يتسم غالباً بالطابع السياسي، ليصف القوى الموالية للاستعمار أو التابعة للغرب.

في أيامنا هذه لم تعد صفة الرجعية تقتصر على المعنى السياسي القديم، أي الحفاظ على علاقات الأمر الواقع مع الغرب الاستعماري،وإنما بات المفهوم يترجم نفسه اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسلوكياً، إلى الحد الذي بتنا فيه نكاد نترحم على زمن الرجعية السياسية التقليدية، التي كنا نراها في رموز، مثل توفيق أبو الهدى وإبراهيم هاشم وحتى سمير الرفاعي الجد.

فقد كان هؤلاء من أنصار التكيف مع موازين القوى الراجحة للاستعمار، لكنهم غادروا الحياة وهم فقراء، أو دون ثروة شخصية يورثوها للأبناء والأحفاد، كما كان إحترام المال العام جزءاً من تقاليد مؤسسة الحكم، ولم يكن الفساد واحداً من صفات الحاكمين الرئيسية، بل لعله كان أقل صفاتهم بروزاً.

رجعية القرن الواحد والعشرين لم تعد تكتفي بدورها كعرابة لنظام "الريع السياسي" في المنطقة، وإنما باتت حارسة لا يشق لها غبار في الدفاع عن كل أنواع الريوع السياسية وغير السياسية، الإقليمية والمحلية، ومقاتلة شرسة في تهريب الفاسدين من المساءلة والمحاكمة وضليعة في الحيلولة دون إستعادة المليارات المنهوبة من ثروات البلد وعوائده، حتى حين تئن الغالبية الغالبة من المواطنين من وطأة الفقر والبطالة وضيق الحال، وحتى في زمن تتعاظم ديونه الداخلية والخارجية، ليعود مرة أخرى تحت رحمة صندوق النقد الدولي وشروطه المعروفة.

ولذلك فإننا نقول أن كافة الاستعصاءات التي مر بها الأردن منذ نهاية الثمانينات، حين بدأ مرحلة الانفتاح السياسي وأجرى أول انتخابات نيابية كاملة، ماهي إلا تعبيراً عن أزمة استحكام الرجعية وإستقتالها من أجل جعل إجراءات الانفتاح السياسي في أقل الحدود، وإنتقائية وذات طبيعة تجميلية وحتى مؤقتة.

ولكم أن تتصوروا كم خسر الأردن منذ عام 1989 حتى الآن، بسبب مقاومة الرجعية لأن يعود الأردن بلداً طبيعياً ومجتمعاً سوياً واقتصاداً عفياً، محرراً من الفساد والمحسوبية ومن قيود نظام الريع السياسي المعبر عن مصالح القلة النهَّابة.

جذر مقاومة الأقلية الرجعية المستبدة للإصلاح، والأحرى للتغيير الجدي، هو رغبتها في إعادة الأردن إلى عهود الاستعمار والقوانين الاستثنائية والأحكام العرفية والمجالس النيابية الشكلية التي عرفها الأردن في الخمسينات والستينات، وتلك المجالس التي تسببت بنزعة اللامبالاة المتجذرة تجاه الانتخابات البرلمانية والمجالس النيابية، والتي فاقمتها أعمال التزوير الصريح في انتخابات 2007 و2010.

وفي هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ الأردن المعاصر، وفيما الدولة على حافة الإفلاس المادي، ناهيك عن الاستنزاف المعنوي والأخلاقي، وفيما المجتمع يعاني من الإفقار والبطالة ومن أشكال الاستخفاف بعقول أبنائه وتطلعاتهم وكراماتهم فإنه لا يجب القبول بتمويه الأزمة الراهنة والتلطيف من وقعها بالمزيد من جرعات التخدير والتسويف.

ولا يجب السماح للأقلام الصحفية أو القوى السياسية المحسوبة على المعارضة باعطاء شهادات زور للقوى الرجعية المهيمنة أو للتعامل معها باعتبارها مجرد قوى "محافظة" أو "يمينية" أو قوى "شد عكسي"! إن الأزمة الحاضرة هي أزمة الرجعية التي تتحكم بمصائر البلد وتقامر بحاضره ومستقبله، ولابد من توصيف الأشياء بأسمائها الحقيقية، والكف عن إعطاء المواطنين آمال كاذبة بأن الرجعية المستبدة قابلة بالإصلاح أو مؤهلة للقيام به.