المعشر:الإقصاء وغياب الخطة الوطنية يتسبب بمخاطر مقلقة

لا بد من الاعتراف، ان البلاد تمر بأزمة سياسية واقتصادية عميقة، لم تشهدها منذ العام 1988. وهي أزمة اكبر من ان تحل بإجراء انتخابات، وفق قانون لا يحظى بتوافق وطني، بل ان إجراء الانتخابات وفق هذا القانون سيعمق الأزمة. وهي كذلك ازمة اقتصادية لن تحلها منحة سعودية، قد تأتي او لا تأتي، وإن اتت فلن تكفي لسد عجز موازنة، فاق الإنفاق فيها قدرة الدولة دون خطة واضحة للسنوات القادمة، لمعالجة الوضع الاقتصادي المتدهور.


ان الاستمرار بمعالجة الامور سياسيا، وفق سياسات إقصائية، تفترض امكانية الانفراد بصنع القرار، واقتصاديا من خلال تحميل المواطن مزيدا من الأعباء الاقتصادية، دون خطة وطنية واضحة، للخروج من النفق غير ممكن، دون مخاطر حقيقية بات الجميع قلقا منها.


هناك فارق رئيس بين ازمة 1988 والأزمة الحالية. حينها ايضا كانت الحكومة تنفق فوق طاقتها، متعللة بمساعدات عربية موعودة، ستقلص عجز الموازنة. ولما لم تصل هذه المساعدات، وانخفض الدينار الى النصف بين ليلة وضحاها، وتلاشت الاحتياطيات من العملة الاجنبية، اضطرت الحكومة الى توقيع اتفاقية مع صندوق النقد الدولي بشروط قاسية، ادت الى أحداث معان، بعد رفع الحكومة لأسعار المواد النفطية.

كيف عولجت الأزمة حينذاك؟ ادرك جلالة المغفور له الملك الحسين ان الأزمة سياسية، بقدر ما كانت اقتصادية، فكانت المعالجة سياسية بامتياز. فشهد العام 1989 انفتاحا سياسيا، نتج عنه اجراء اول انتخابات عامة منذ عقدين وتوسيع قاعدة صنع القرار، من خلال برلمان مثلت فيه المعارضة الاسلامية والمدنية بأربعين بالمائة من المقاعد. ثم تلا ذلك تشكيل لجنة وطنية ممثلة انتجت ميثاقا وطنيا، عكس تطلعات كافة فئات المجتمع وطمأنها على شكل الاردن، الذي نريد، حاويا لكافة ابنائه وبناته دون إقصاء فكر او مجموعة.

ثم تبع ذلك سلسلة من التشريعات اعادت السماح للأحزاب السياسية بالعمل، ورفعت سقف الحريات الصحفية، وخلقت مناخا بات المواطن يشعر فيه ان صوته مسموع ولو ان معدته خاوية.  


لم تكن المعالجة اقتصادية في اغلبها، بل ان الوضع الاقتصادي تدهور اكثر في العام 1990، جراء انقطاع كافة المساعدات العربية والأميركية. لم يتظاهر الناس ضد الحكومة بسبب تردي اوضاعهم الاقتصادية. لماذا؟ لأن عامل الثقة بين الحكومة والناس كان متوفرا، اضافة الى الشعور بوجود مجلس نواب قوي، يستطيع الشعب من خلاله ايصال صوته لصاحب القرار، ما مكننا من تجاوز أزمة الخليج مع كل صعوباتها.


الوضع مختلف اليوم. الثقة بين الناس والحكومة شبه معدومة، بل إن الحكومة تصر على إرسال اشارات مفادها انها لا تكترث لرأي الناس، فالانتخابات بمن حضر، وضعف الاقبال على التسجيل سببه رمضان، ومعارضة قانون الانتخاب مقصورة على الاسلاميين، والرقابة على المواقع الالكترونية متماشية مع العصر، ورفع الأسعار دون خطة واضحة او حتى إعادة النظر جذريا في الإنفاق الحكومي المدني كما العسكري واجب وطني. ونستغرب بعد ذلك لماذا وصل المزاج العام درجة من السلبية، لا يحتمل الاردن إبقاءها على حالتها دون معالجة.


نمر بمرحلة على الجميع فيها تحمل مسؤولياته. لقد وصلنا لوضع سياسي واقتصادي لا يستطيع أي طرف معالجته منفردا. إن ادراك هذه الحقيقة بداية الحل، كما ان انكارها او المكابرة بالاستمرار باتباع السياسات الإقصائية سيؤدي الى نتيجة من واجب كل مخلص لهذا البلد العمل لتفاديها.


هناك قوتان منظمتان في هذا البلد، سلطة تنفيذية، هيمنت على عملية صنع القرار، وحكمت البلاد بشكل شبه منفرد، ولم تول موضوع التعددية السياسية اهتماما يذكر، ومعارضة اسلامية، يخاف الكثيرون ان تكون درجة التزامها بالتعددية لا تختلف عن السلطة، وانها التزام لفظي، الهدف منه الوصول الى السلطة ثم احتكارها والتخلي عن التعددية، إذا تضاربت مع مفهوم هذه القوى للدين. وبين الاثنتين غالبية من الناس تريد حاكمية رشيدة وعدالة في تطبيق القانون على الجميع، وسياسة اقتصادية تؤدي لنمو يطال كافة الناس، ولا يغفل الفئات الاقل حظا، وبعد كل هذا وذاك، حكما، لا يؤدي للاستئثار بالسلطة من أي كان بل يستمد سلطته من ارادة الشعب.


تبدو الحاجة ملحة اليوم لمعالجة سياسية واقتصادية جذرية للأزمة، التي نعانيها اليوم، يمكن ان تتحقق من خلال ميثاق وطني جديد، يذهب الى ابعد مما توصل اليه ميثاق العام 1990 من ناحية:


- الالتزام بعدد من التشريعات، التي تؤدي الى إعادة تقاسم السلطة وتوسيع قاعدة صنع القرار، ضمن خريطة طريق زمنية واضحة، تشمل قوانين الانتخاب (للنواب والأعيان) والاحزاب والحريات العامة والحريات الفردية وعدم جواز سن تشريعات، تحد من هذه الحريات، طالما أنها لا تتعدى على حريات الآخرين.


- سن تشريع واضح وصريح بمنع تدخل الأجهزة الامنية في الحياة السياسية، تحت أي مسمى وتجريم ذلك.


- الالتزام بالتعددية السياسية والثقافية والدينية من قبل الجميع، وعلى رأسهم الحركات الاسلامية. فبالدرجة المطلوب فيها من السلطة التنفيذية إدراك أن الدولة لا يمكن ادارتها كالسابق بشكل يحتكر فيه القرار، فمطلوب ايضا من الحركة الاسلامية ايضاح موقفها من التعددية، بشكل لا يدع المجال للبس، وعن طريق التقنين. نعم، مطلوب من الحركة الإسلامية، التي عانت من كثير من السياسات الاقصائية للحكومات المتعاقبة، إعلان التزامها الراسخ وغير الخاضع للتغيير بالتعددية، وستجد الكثيرين، ممن يخالفونها الرأي، مدافعين عن حقها في العمل السياسي. والعكس صحيح ايضا، حيث ستجد الكثيرين ممن يؤيدون دعوتها للحاكمية الرشيدة، غير مستعدين للدفاع عنها، إن شعروا ان هدفها النهائي احتكار السلطة كما احتكرها الآخرون.


- الاتفاق على خطة اقتصادية تفصيلية وخاضعة للمراجعة الدورية، قوامها المعالجة العلمية والمنهجية لمواضيع مثل البطالة وعجز الموازنة والدين العام، وبحيث يتم مراجعة كافة اوجه الإنفاق ومراقبتها دون محرمات، وبحيث تؤدي الى نمو مستدام، يطال الجميع ويعطي الفئات الأقل حظا الاهتمام الذي تستحق.


ضمن مثل هذا الاتفاق الجامع، ستتمكن الحكومة من اتخاذ قرارات صعبة، مثل رفع الاسعار لدى الحاجة لذلك، في ظل توافق وطني، بما ان الجميع، بما في ذلك الدولة بكافة مؤسساتها، شريك في المسؤولية، وضمن خطة اهدافها ووسائل نيل هذه الأهداف واضحة للجميع، وخاضعة للمراقبة والمساءلة الحقيقتين. بغير ذلك سيبقى المواطن يشعر ان المشاكل تحل على حسابه ولصالح اوجه إنفاق لا تخضع دائما للرقابة.


لقد تم تأجيل العديد من هذه المواضيع عقودا من الزمن، حتى وصلنا لوضع لم يعد التأجيل فيه ممكنا، دون جلب مخاطر حقيقية على البلاد. يتطلب هذا حكمة استثنائية من الجميع، ممن هم داخل السلطة وخارجها، من موالين ومعارضين، ومن مدنيين وإسلاميين. وإن ادرك الجميع من موالاة ومعارضة استحالة احتكار السلطة بعد اليوم، يمكن لجهد وطني في هذا الإطار، يقوده جلالة الملك، ان يخرج البلاد من أزمتها.