لأمير زيد بن شاكر في الذكرى العاشرة لوفاته

في بناء الدولة الأردنية وتطوير مؤسساتها الوطنية رجال ونساء لا تمحى آثارهم من الذاكرة الشعبية،والأمير زيد بن شاكر واحد منهم، فقد كان له دور كبير في تطوير قواتنا المسلحة، لن أتناوله في هذا المقال، فالقادة العسكريون الأردنيون يعرفون جيداً هذا الدور تحت قيادة المغفور له الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، وهم أولى مني في الحديث عنه. وإنما سأقتصر في مقالي هذا على دوره في حركة الإصلاح التي شهدها الأردن بين سنتي 1989 و 1993،في. أعقاب "هبة نيسان" 1989 في جنوب البلاد. 

شهد الأردن منذ حصوله على استقلاله الوطني أربع حركات استهدفت الإصلاح السياسي والإداري والشامل، كان أولها ما قامت به حكومة الدكتور فوزي الملقي، أول حكومة تشكلت في عهد الملك الحسين بعد ممارسته سلطاته الدستورية، من إصلاح بين 5 / 5 / 1953 و2 / 5 / 1954.

إذ سمحت للأحزاب السياسية بممارسة نشاطها بحرية، وأتاحت للصحف المحلية حرية النقد وإبداء مختلف الآراء، وعدل الدستور الأردني في عهدها بحيث أصبح لمجلس النواب حق منح الثقة للحكومة وسحبها منها، وغدت مسؤولة أمامه وليس أمام الملك. ولكن توفيق أبو الهدى الذي ألف الحكومة بعد الملقي والقوى المقاومة للإصلاح قضت على هذه الإصلاحات وعادت البلاد الى الحكم الفردي المطلق المستبد،وكانت ثاني هذه الحركات ما قامت به حكومة سليمان النابلسي (29 / 10 / 1956 -10 / 4 / 1957) من إصلاح وممارسات.

إذ اعترف بالأحزاب السياسية التي شاركت في الانتخابات النيابية التي أجريت بدرجة عالية من النزاهة والشفافية، وأوصلت ممثليها الى مجلس النواب،وعاش الأردن ربيعاً حقيقياً دام خمسة أشهر ونيف. غير أن الصراع بين القصر والحكومة حول القبول بمبدأ أيزنهاور في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1957 أدى الى إقالة الحكومة والقضاء على الإصلاحات الوطنية.

وعاشت البلاد في ظل الأحكام العرفية وقمع الحريات وحظر نشاط الأحزاب السياسية مدة خمس وثلاثين سنة،أما حركة الإصلاح الثالثة فقد جاءت في أعقاب "هبة نيسان 1989" التي انطلقت في جنوب الأردن احتجاجاً على رفع أسعار المواد الغذائية ومواد البناء والمشتقات النفطية، الذي اتخذته الحكومة في أعقاب الأزمة المالية والاقتصادية التي أسفرت عن تخفيض قيمة الدينار الأردني سنة 1988.

وقد أحدثت هبة نيسان هزة عنيفة في البلاد دفعت الملك الى إقالة الحكومة حال عودته من الولايات المتحدة الأمريكية في 24 / 4 / 1989،بعد ثلاثة أيام من التأمل كلف الملك الحسين الأمير زيد بن شاكر، رئيس الديوان الملكي آنذاك، بتأليف حكومة جديدة في 27 / 4 / 1989، من أجل تهدئة الوضع الداخلي الملتهب، وتوطيد الأمن وترضية الخواطر وإشاعة الحرية.

لقد أدرك الحسين أن رياح التغيير في العالم بدأت تهب من أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين، وأن لا بد من حركة استباقية في الأردن قبل أن تفرض عليه حركة التغيير المقبلة،شرع الملك بجولة على محافظات المملكة بهدف الاطلاع على مطالب المواطنين والاستجابة لها،فساهمت هذه الجولة في بث الطمأنينة في النفوس، وخلق ارتياح عام ومناخ من الحرية ظهر بوضوح في وسائل الإعلام الوطنية.

وبذلك حققت هذه الحكومة الانتقالية أول أهدافها وهو إشاعة الأمن والثقة بين الناس،واستطاع الفريق الاقتصادي في الحكومة، الذي جمع المعرفة العلمية والخبرة العملية الى الكفاءة الادارية والأمانة والثقة العامة، معالجة الأزمة المالية والنقدية،وقام العاهل الأردني بدور رئيسي في توفير مساعدات مالية من العربية السعودية وبعض دول الخليج العربية الأخرى لبناء احتياطات البنك المركزي الأردني من العملات الأجنبية.

وانتهجت الحكومة برنامجاً للتصحيح الاقتصادي يستهدف استعادة عافية الاقتصاد الوطني، ودفعه في اتجاه النمو، وتخفيض نسبة التضخم من (14) في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سنة 1989 الى (7) في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سنة 1993، وتحسين الاستثمار وتشجيعه، وخفض عجز الموازنة العامة للدولة من (24) في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي سنة 1988 الى (9) في المئة سنة 1993، وزيادة مجمل الدخل القومي، وتحسين الحساب الجاري، وخفض العجز في الميزان التجاري،وتمكين البنك المركزي الأردني من تحديد سعر الدولار الأمريكي ب (730) فلساً في 19/8/1989.

وكان من نتائج هذه الإجراءات والتدابير استقرار سعر الدينار الأردني وتعزيز الثقة بالعملة الوطنية،وعلى الصعيد السياسي نص كتاب التكليف الملكي بتأليف الحكومة على عودة الحياة النيابية التامة، بعد أن زالت الموانع والمعوقات التي نشأت عن حرب حزيران 1967، وبعد قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية في 31 / 7 / 1988، واعتراف الحكومة الأردنية بدولة فلسطين. تشكلت لجنة وزارية برئاسة رئيس الديوان الملكي آنذاك ذوقان الهندواي للنظر في قانون الانتخاب الذي ستجري الانتخابات بموجبه.

نظرت اللجنة في قانون الانتخاب رقم (22) لسنة 1986، فعدلته بحيث زيد عدد مقاعد مجلس النواب من (72) الى (80) مقعداً. وصدرت الإرادة الملكية بالموافقة على القانون المعدل الذي نشر في الجريدة الرسمية في 8 / 7 / 1989،أجريت الانتخابات النيابية في 8 / 11 / 1989 في أجواء من الهدوء والحرية والنزاهة. ومثلت الأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية في مجلس النواب الجديد.

وبرزت فيه ثلاث كتل رئيسية هي: كتلة الإخوان المسلمين والإسلاميين، وكتلة القوميين واليساريين، وكتلة المستقلين. وقد عقب الدكتور سعد الدين إبراهيم، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في القاهرة على هذه الانتخابات بقوله: "إن الذي فاز في الانتخابات الأردنية الأخيرة في المقام الأول هو النظام الأردني، وعلى رأسه ملك البلاد، فبسبب انتخابات نظيفة من ألفها الى يائها، تضاعفت شرعية النظام أمام شعبه وأمام الأمة العربية وأمام العالم أجمع.

وفاز في الانتخابات في المقام الثاني الشعب الأردنيوقدمت حكومة الأمير زيد استقالتها بعد أن حققت جميع الأهداف التي كلفت بها في 4 / 12 / 1989،صحيح أن بداية التحول نحو الديمقراطية كانت في عهد حكومة مضر بدران (6 / 12 / 1989 -19 / 6 / 1991) وفي عهد حكومة طاهر المصري (19 / 6 / 1991-12 / 11 / 1991)، إلا أن حكومة الأمير زيد الثانية (21 / 11 / 1991 -29 / 5 / 1993) هي التي أكملت عملية التحول هذه.

 في عهد هذه الحكومة ألغي قانون مكافحة الشيوعية رقم (91) لسنة 1953 والتعديلات التي طرأت عليه في 23 / 12 / 1991. وقرر مجلس الوزراء في 24 / 3 / 1992 التنسيب الى الملك بانهاء الأحكام العرفية، وصدرت الارادة الملكية بذلك في 30 / 3 / 1992،وأقر مجلس النواب قانون الأحزاب السياسية رقم (32) في 5 / 7 / 1992، وأقره مجلس الأعيان في 20 / 8 / 1992، وصدر بارادة ملكية في 23 / 8 / 1992. وبلغ عدد الأحزاب التي حصلت على الترخيص حتى استقالة هذه الحكومة (16) حزباً.

وأقر مجلس النواب قانون المطبوعات والنشر في 27 / 12 / 1992،ولم يتمكن المعلمون من إنشاء نقابة لهم بسبب رفض المجلس العالي لتفسير الدستور ذلك.وسعت الحكومة الى الاصلاح الاداري دون أن تحرز تقدماً ملموساً في هذا المجال. واقر مجلس النواب مشروع قانون الكسب غير المشروع في 9 / 7 / 1992، في محاولة منه لمكافحة الفساد، غير أن مجلس الأعيان لم ينظر فيه وأبقاه حبيس ملفاته. وأثار مجلس النواب قضايا الفساد في الدولة.

وتولت "لجنة التحقيقات النيابية" برئاسة النائب ليث شبيلات هذه المهمة. ركزت اللجنة على التحقيق في قضايا فساد مرتبطة بحكومة زيد الرفاعي (1985-1989)، ولكن المجلس فشل في مسعاه. والواقع أن حركة الاصلاح الشامل هذه التي عاشتها البلاد طوال ثلاث سنوات ونيف ما لبثت أن تراجعت بسرعة في أعقاب ابرام معاهدة السلام الأردنية- الإسرائيلية في 26 / 10 / 1994 المعروفة باتفاقية وادي عربة. وجاءت حكومة الأمير زيد الثالثة (8 / 1 / 1995-4 / 2 / 1996) في مرحلة هذا التراجع.

وواجهت معارضة قوية من الأحزاب الإسلامية والقومية واليسارية المقاومة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل ولمعاهدة السلام معها. واستمر التراجع عن جميع الإصلاحات والمكتسبات التي حققها الشعب الأردني خلال هذه المدة. في الثلاثين من آب سنة 2002 انتقل الأمير زيد الى الرفيق الأعلى. نستذكره هذه الأيام بعد عشرين شهراً من الحراك الشعبي الأردني المطالب بالاصلاح الشامل ومكافحة الفساد.

ومع أنه لم يتحقق بعد الحد الأدنى من المطالب، على الرغم من المخاطر التي تحيق بنا من كل جانب، ومن محاولات توريطنا في المأزق السوري، وتحويل وطننا الصغير الى ساحة لحرب دولية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، فالآمال معقودة أن يعي المسؤولون حجم التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهنا ويستجيبوا لمطالب شعبهم الحقة التي من شأنها أن تحقق الوحدة الوطنية وتمتنها، وتعزز ثقة الشعب بقيادته السياسية وبمستقبل واعد لأردننا الحبيب. في هذه الأجواء الخطيرة نستذكر القادة الرجال أمثال المغفور له الملك الحسين والمرحوم الأمير زيد بن شاكر، وهم في الملمات قليل.