حتى هذه الكلمات العربية لم تكن عامّية.. تعرّف ما هي؟
تكثر الكلمات التي يشار إليها بصفتها عامية غير فصيحة، ليتبين بعد دراسة الدارسين، وفي كثير من الكتب، أنها كلمات فصيحة سليمة الأصل المبنى.
وكتب في سياق التأكيد على فصحى كلمات عامية دارجة، كثير من المقالات وعدد من الكتب، إلا أن كتاب (بحر العوَّام فيما أصاب فيه العوام) للإمام رضي الدين محمد بن إبراهيم بن يوسف ابن الحنبلي، والمتوفى سنة 971 للهجرة، كان من أشد المدافعين عن ما يتلفظ به عامة الناس، واحتُسِب في عداد العامّي، وكان في أصله فصيحاً صريحاً.
وتعصّب ابن الحنبلي، لما توهّمه البعض لحناً أو خطأ أو كلمة عامّية، هو في حقيقته تعصب للفصحى ذاتها، فانهال ينقّب في ما أخذه من أفواه الناس (العامة) وما يرد على ألسنتهم وفي كتب اللغة التي أخرجتها من الفصيح، معتقدة أنها من العامّي الدارج، ليؤكد هو على سلامتها اللغوية.
ويجمل ذلك في مقدمة مصنّفه الرفيع بقوله: "أن أضع تأليفاً... مشتملاً على ما يعتقد الجاهل أو الناس أنه من أغلاط عوام الناس، وليس فيه شيء من الغلط ولا هو في نفس الأمر من ذلك النمط". ثم يشرح أنه وضع ذلك المصنّف "بسبب فرط الحميّة والغضب" عنده، لما آلت إليه الفصاحة في زمانه.
قَصِّيت أظفاري وامرأة عجوزة
ويقول ابن الحنبلي، إن بعض العامة عندما يلفظ الأب مشدداً (أبّ) ومثلها (أخّ) فهما لغتان، وينقل: الأبُّ لغةٌ في الأب. ومثله أخّ، بتشديد الخاء، ومثلهما: يدٌّ، مشددة. وهو لفظ تجنح إليه أقوام في الشام وفي صعيد مصر، يقال يدِّي، لا يدِي. وما ذهب إليه الحنبلي، غاية في الاتقان والفصاحة، إذ يرد في (الصحاح) ونقلاً عن الفرّاء أحد أئمة العربية الكبار: "قصِّيت أظفاري" بالتشديد، لا قَصصتُ، كما توضح حاشية الكتاب الذي حقّقه الدكتور شعبان صلاح.
ومثلها كلمة عجوزة التي يتحرّج البعض من قولها على المرأة الطاعنة في السن، وتنتمي خطأ إلى العامية، على اعتبار (عجوز) تقال للرجل والمرأة، معاً. يشير ما ورد في كتاب الحنبلي، ونقلاً من أحد أقدم الرواة عند العرب، وهو يونس بن حبيب (90-183) للهجرة، والذي يعرَّف بأنه سمع كلامه كله من العرب، يقول: "سمعتُ العرب تقول: فرسة وعجوزة، وذلك منهم إرادة لتوكيد التأنيث". ومثلها: عطشانة، عوضا من عطشى، ونقلها معجم العين "امرأة عطشانة" وهي من الألفاظ المنتمية كلها، إلى العامي، فيما هي من الفصيح الصريح.
وصابه السهم، تجوز مثل أصابه السهم. ومحيت الكتاب، وأخطيت من أخطأت، وأطفيت النار مكان أطفأت.
المرأةُ: مَرَةٌ، أيضاً
والصيغة العامية في التكلم، والتي يرد فيها: "افعَل هذا إمّا لا" ذات أساس فصيح مصدره حذف وتعويض، وليس عامية. وكذلك تأنيث الحمَّام، وكسر حرف المضارعة في كلمات عامّية من مثل: يِشرب ويِطرب ونِشرب وأنتَ تِشرب، الكلمات التي تلفظ على هذه الشاكلة في كثير من البلدان العربية، يقول ابن الحنبلي إنها ليست من العامية، استناداً إلى أن بعض اللغات تكسر حرف المضارعة.
وكذلك "سِعيد" و"بِعيد"، بكسر أولهما، وينقل أن كسر فاء فعيل، جائزٌ، في حالات معينة. والخِير التي تلفظ بالكسر الآن، في العامية، يقول فيها الجواليقي: الخِير الفضل والكرم.
ومنه قول الناس "غلقت الباب" وهي لغةٌ في أغلقته. والقول "مَرَة" عن المرأة، وهي من أشهر العاميات، إلا أن تفحصاً بسيطا للمعجم يظهر فصاحتها. يقول الصحاح: "هذه مَرةٌ صالحةٌ"، يرد في حاشية كتاب الحنبلي.
هُوَّه وهِيّه عوضاً من هو وهي!
ولفظ "جلستُ عَندك" التي تلفظ مفتوحة عند الشوام، بخاصة، يقول عنها الجوهري صاحب الصحاح: "فيها ثلاث لغات عِند وعُند وعَند". ليكون لفظاً فصيحاً لا تشوبه عامّية. ولفظة "يجي" بمعنى يجيء، فصيحة: "بعض العرب يحذف همزة يجيء".
أما ما يلفظه المصريون وأهل الخليج في: هُوّه، بمعنى هو، أو هِيّه، بمعنى هي، فـ"جائزٌ نثراً ونظماً" يقول ابن الحنبلي. ويوضح أن تشديد الواو في هوّه، فراجعٌ إلى لغة همدان.
انْطيته.. أعطيته
وتأتي إحدى أشهر الكلمات "العامية" التي ترد في الخليج العربي والعراق وجزء من سوريا، وهي "انْطيته" بمعنى أعطيته. يقول صاحب الصحاح: "والإنطاءُ الإعطاءُ بلغة أهل اليمن".
ولم يكن كتاب ابن الحنبلي، الوحيد في بابه من الكتب التي تسهّل الاستعمال اللغوي، فكتاب "شرح درة الغواص في أوهام الخواص" للخفاجي، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر المصري الحنفي، 977-1069، للهجرة، يعتبر من المصنفات التي وضعت للرد على تشدد اللغويين، فانتقد فيه كتاب "درة الغواص في أوهام الخواص" لأبي محمد الحريري، فألف كتابه المذكور رداً عليه منتقداً تشدده في تحديد الصواب في اللغة، عارضا هو الآخر لمجموعة واسعة من المفردات والصيغ، التي كانت تعتبر من كلام العامة أو مما لا يجوز استعماله، إلا أنه وسّع لها إمّا من باب الاستشهاد من القرآن الكريم، أو الأحاديث النبوية الشريفة، أو لغات العرب، أو الشعر العربي.