إعادة الهيكلة المؤسّسية: ثالثاً التقسيم الهيكلي

في المقالين السابقين تمَّت الإشارة إلى أنَّ مفهوم الهيكلة المؤسَّسية يجب أن يراعي البعد البشري من جهة، أي حسن الاستغلال والاستفادة من الطاقات البشرية على أنها أصول وليست أعباء، ومن جهة أخرى يراعي التقسيم الوظيفي للعمل العام، ما يعني أنَّ الوظائف السيادية تقوم بها الوزارات، والوظائف الخدمية العامة تقوم بها مؤسَّسات عامة، وهي مؤسَّسات يتطلّب عملها الاستدامة والسيادة والاستقلالية، وبالتالي فإنها مؤسَّسة يجب أن لا تتأثّر ولا تتغيّر سياساتها بتغيُّر الحكومات أو الوزراء.
ومن هنا جاء إنشاء مؤسّسات تنظيمية يتطلب عملها التخصصية والحاكمية الرشيدة والشفافية العالية، بعيدا عن التأثر بالحكومات والأشخاص. ويندرج ضمن ذلك مؤسَّسات ذات سيادة، مثل البنك المركزي، والضمان الاجتماعي، وديوان المحاسبة، وديوان الخدمة المدنية، وهيئات النزاهة والشفافية، وهيئات الرقابة على الانتخابات.
وينضمُّ إلى هذا كله، مؤسَّسات رقابية تنظيمية هدفها الأساس ضمان وصول الخدمات والسلع إلى دافعي الضرائب والمقيمين وفق أفضل التطبيقات، وضمن أفضل المواصفات، مع مراعاة الاستدامة، والمنافسة المشروعة، وحماية المستهلك، والمنتج والمستثمر، وضبط للشفافية والحاكمية الرشيدة في عمل الفاعلين في المجالات التابعة لتلك المؤسّسات العامة.
وهذه المؤسَّسات تأتي ضمن مفهوم التقسيم الجديد لعمل الحكومات، أو ما يُسمى بإعادة اختراع الحكومات، والذي يتطلب البعد عن الإنتاج المباشر والتدخُّل المباشر إلى ممارسة أدوار الرقابة والتنظيم والتشريع. ومن هنا يأتي دور مؤسَّسات مثل هيئات تنظيم النقل، وتنظيم الاتصالات، والطاقة، والتعليم العالي، والسياحة وتنظيم ومراقبة الجهاز المصرفي، والاستثمار، والأسواق المالية.
ويتطلّب عمل هذه المؤسّسات الاستقلالية الإدارية، والاستقلالية المالية، بحيث تستطيع أن تتخذ قرارها بعيداً عن أي تأثُّر أو تأثير من الفاعلين، سواء أكانوا في القطاع الخاص أم في القطاع العام، على أن استقلالية بعضها، مثل هيئات الرقابة العامة، من ديوان محاسبة، أو هيئة نزاهة، أو هيئة رقابة على الانتخابات، يأتي بتخصيص الأموال العامة لها ووضعها تحت إشراف ومراقبة أعلى الهيئات التشريعية في الدولة. أمّا استقلالية البعض الآخر، مثل هيئات تنظيم عمل مؤسّسات القطاع الخاص، فيأتي عبر تحصيل الرسوم من المتعاملين معها، كما هي الحال في هيئات الاتصالات، والنقل، والطاقة، والسياحة، وغيرها.
ووفقا للتقسيم الهيكلي هنا، وحسب أفضل الاجتهادات المعمول بها في العالم، فإنَّ معظم هذه الهيئات تكون، من جهة، موحدة وغير متعددة، أي تكون هيئة عليا واحدة وليست عدة هيئات، خلافاً لما هي الحال في الأردن في مجال النقل والطاقة، حيث توجد ثلاث إلى أربع هيئات، ما يعني تعدُّد استراتيجيات القطاع، في حين أنَّ المطلوب هو هيئة واحدة تضع استراتيجية عليا للقطاع، ويتبع لها بعض الإدارات التي تُنظم أعمال الفئات التابعة للقطاع ضمن إطار تلك الاستراتيجية، أي أن يكون هناك هيئة واحدة لتنظيم قطاع النقل ككل، تضع استراتيجية النقل في البلاد، وتتبع لها مجموعة من الإدارات التي تُنظّم قطاع النقل البري، والبحري، والجوي، وفقاً للأهداف الاستراتيجية العليا للقطاع. والأمر ذاته ينطبق على قطاع الطاقة، وغيره من القطاعات.
ومن ناحية ثانية، فإنَّ وجود الهيئات التنظيمية، يجب أن يعني انتهاء وانتفاء دور الوزارات في ذلك الشأن، فمن غير المنطقي، أن توجد أربع هيئات لتنظم النقل أو الطاقة في البلاد، ويضاف إليها وزارة للنقل أو الطاقة، وكذلك الأمر في الاتصالات، والسياحة، والاستثمار وغيرها.
الأساس أنه عند إنشاء تلك الهيئات، يجب أن تتحوَّل الوزارات وما بها من كوادر إلى هيئات تنظيم، ويتم إعداد الكوادر الموجودة، واستقطاب كوادر جديدة، لتحقيق أهداف عمل تلك الهيئات، لا أن يتم خلق مسارات موازية وهيئات موازية مع الإبقاء على الوزارات كما هي. وخلق ذلك الكثير من التضارب في المصالح، وكثيرا من النزاع على الصلاحيات في العديد من الحالات. وختاما، فإنَّ التأكيد هنا أنَّ عمل الوزارات يجب أن ينحصر في الشأن السيادي، كما سبق إيضاحه في المقال السابق، ما يعني ألا يزيد عددها على 20 وزارة في أفضل الحالات، وأن تلجأ الحكومة عبر المؤسَّسات المستقلة، ضمن حدود وضوابط، إلى دور التنظيم والرقابة والتشريع، في كافة الخدمات العامة، تاركة للقطاع الخاص دور المُنفذ، شريطة أن تتوحّد تلك المؤسَّسات في هيئات عليا، لا أن تكون ذاتها عدة مؤسَّسات تنظيمية لقطاع واحد.
ويبقى هنا أمران، الأول: إمكانية تأسيس وزارات دولة للمسائل الملحة الآنية وينحصر هيكلها في زير دولة، يعمل من خلال رئاسة الوزراء، ليمثل القضية في مجلس الوزراء إلى حين انتفاء الحاجة إلى ذلك، وهو أمر مطبّق في بعض الدول، كأن يتم إنشاء وزارة دولة للذكاء الاصطناعي، أو للمستقبل، أو للمشروعات الكبرى. والثاني: أن تقوم الحكومة بتعهيد الخدمات التي تحتاج إليها والتي تخرج عن جوهر عملها المباشر إلى القطاع الخاص، وهو ما سيتم مناقشته في المقال الأخير من هذه السلسلة الأسبوع القادم بإذن الله.