ما الذي تعنيه كثافة ظاهرة البسطات في الشوارع؟
مع الإقرار بصعوبة إجراء إحصاء دقيق لأعداد بسطات البيع في الشوارع أو أعداد العاملين عليها، غير أن لا أحد يجادل في تحولها إلى ظاهرة، وامتدادها إلى شتى المدن الكبيرة والصغيرة والمخيمات، بل والقرى والبادية.
إنها في الأصل ظاهرة مدينية، غير انها في الواقع، وفي كثير من البلدان ومن بينها الأردن، تجاوزت ذلك.
في الإعلام، تتفاوت زوايا النظر إلى هذه الظاهرة عند تقديمها للجمهور؛ فتجد مادة تقدمها كاعتداء على القانون والشارع وتعتبرها ظاهرة غير حضارية تسيئ إلى المشهد العام، ولكن مادة اخرى تقدمها باعتبارها مظهرا للجد والكدح في الحياة، ومادة ثالثة تفضل ان تكون جزءا من مشهد حيوي وفي التقارير التلفزيونية كثيرا ما تكون صور البسطات مترافقة مع التقارير الاقتصادية والثقافية، وقد تعتني مواد بأصوات الباعة وتعرضها كفن من فنون التسويق، بما يعني شكلا من أشكال الاحتفاء بها.
من المفارقات في العاصمة عمان، أن أمانة عمان الكبرى عندما احتفلت بمئوية عمان (2009) في مهرجان كبير اتخذ شكل مسيرة فعاليات، خصصت للبسطات حيزا كبيرا من الاحتفال، مجسمات للبسطات من شتى الأنواع يسيرها عمال وهميون أنيقو المظهر، غير انها كانت في الوقت ذاته قد قامت بحملة تنظيف من البسطات الحقيقية في الشوارع المجاورة.
أي انها اعترفت بها في المشهد الاحتفالي وحاربتها في المشهد الواقعي، وبينما كانت البسطات الوهمية تسير في الشارع، كان على أصحاب البسطات الحقيقية أن يقفوا كتفرجين على المهرجان بانتظار انتهائه حتى يستأنفوا عملهم. لقد كان في الواقع ابتهاجا من نوع خاص.
بين الاعتراف والإنكار
إن أخبار حملات ملاحقة البسطات عادة ما تتصدر قائمة الأخبار المحلية خاصة في حالة حدوث اشتباكات بين أجهزة الملاحقة الإدارية والأمنية وبين أصحاب البسطات.
هذه الحملات تتكرر بين وفترة وأخرى، وقد تقتصر على منطقة واحدة او مدينة واحدة ولكن حصل أكثر من مرة أن كانت الحملات على مستوى البلد ككل.
من الناحية القانونية في الأردن توجد انظمة محددة ومعلنة غير انها تضم شروطا عديدة، وبالمحصلة فإن البسطات المرخصة محدودة جداً في عمان وباقي المدن.
والكلام هنا على بسطات الشوارع، بما يعني ان لبسطات الأسواق الشعبية وضعية خاصة.
يندرج العمل على البسطات في سياق ما صار يعرف في الأدبيات الاقتصادية بالقطاع "غير الرسمي"، أو قطاع "التوظيف الذاتي" وهو قطاع شهد تضخما في حجمه في مختلف البلدان، وبعضها أدخله في حساباته القومية منذ عقود.
وحصل ذلك مع أن هذا القطاع يشكل أحد أبرز مظاهر فشل العملية التنموية، حيث عجز القطاع الرسمي الحكومي والخاص عن استيعاب قوة العمل، فلجأ العاطلون إلى خلق وظائفهم ذاتياً.
إن القطاع غير الرسمي بهذا المعنى يشكل استراتيجية ذاتيه للفقراء في مكافحة فقرهم.
وفي الأردن، جرى الاعتراف بالظاهرة بشكل متأخر (2012)، بعد أن ظلت منكرة ومستنكره في السابق.
عشوائية أم منظمة؟
إن نظرة خارجية تعطي الانطباع بعشوائية هذا القطاع من حيث التوزع والانتشار، بينما الواقع أنه قطاع على درجة لافتة من الضبط، وصارت له مع الزمن تقاليده وحياته الداخلية، فهناك أسر تعمل في البسطات منذ ثلاثة أجيال، وهناك قدر كبير من التخصص في القطاع، وقد أجريت ذات مرة دراسة قصيرة عن "اقتصاديات البسطة”، بينت أن البسطة عبارة عن منشأة صغيرة تقوم وفق حسابات جدوى، غير مكتوبة، لكنها مضبوطة.
باختصار، إن البيع على البسطات أصبح ظاهرة اقتصادية واجتماعية مكتملة، ويتمتع العاملون فيها بقدر عال من المرونة تجاه أي تبدلات مكانية أو عمرانية أو قرارات إدارية أو أمنية.
وهذه بالمناسبة واحدة من أهم مواصفات مجمل القطاع غير الرسمي على المستوى الدولي.
إن خبرة الأمانة في مجال مكافحة البسطات ينبغي أن تكون كافية لكي تبين لها استحالة نجاح تلك المكافحة، وقد تابعتُ بشكل حثيث سيرة حملات المكافحة تلك منذ العام 1997 وحضرت خلال ذلك عشرات من مشاهد المطاردة، كما استمعت لشهادات تغطي الفترة السابقة منذ منتصف السبعينات على الأقل.
وهناك حملات بلغت في قسوتها وصرامتها حدوداً لا يمكن أن تصل إليها الحملات الحديثة، وفي كل الحالات لم تستطع أي حملة الصمود والاستمرار.
إن تكلفة المصاردة والتوقيف والغرامات صارت تحسب ضمن اقتصاديات البسطة عند العاملين ولدي العديد من القصص والحكايات حول الأمر.
وحتى في الحملات التي لم يستطع فيها العاملون الاستمرار وقرروا مغادرة عالم البسطات، فإن آخرين حلوا محل الحالات المنسحبة فوراً، تماماً كما يجري في باقي الأسواق والقطاعات.
وقد تعرفت على حالات انتقل أصحابها بين مواقع عديدة لبسطاتهم، وبعضهم اختار سلعا تسوق أثناء الليل أو في الصباح الباكر، بل إن بعض العاملين على البسطات، عند اشتداد الحملات بشكل استثنائي، ابتدعوا أسلوبا سموه "البيع بالعقل"، حيث يقف صاحب البسطة في الشارع بلا بضاعة، ويتفق مع زبائنه على البيع شفوياً "بالعقل" ثم يصطحبهم إلى البضاعة التي تكون مخفية في مكان قريب.
أيهما أجمل البسطة أم ملاحقتها؟
فيما يتصل ببسطات بيع الخضار والفواكه التي تنتشر حسب المواسم، فمن جهة أولى، هي ظاهرة جميلة بصرياً خاصة وأن الباعة يحرصون على ترتيب بضاعتهم بصورة جذابة.
لكن تعالوا ننظر للأمر من ناحية اقتصادية؛ يعمل على هذه البسطات قطاع كبير يتوزع على عدة أقسام: بعضهم ممن يعملون في مجال الزراعة الحضرية (نسبة الى الحضر) حول العاصمة وفي المساحات الترابية غير المسكونة المتبقية، حيث يزرعون فيها "المقاثي".
وقسم آخر يتعاملون مع منتجي الفاكهة في المناطق الزراعية المختلفة في عجلون وجرش ومأدبا وخاصة في مواسم العنب والتين والصبار، وهناك بعض الباعة من أبناء المزارعين أنفسهم.
وقسم ثالث تشكله تلك العاملات الكادحات من نساء الأغوار اللواتي يحضرن يومياً شتى أنواع البقول والأعشاب (خبيزة وعكوب وزعتر وخلاف ذلك) في مسيرة شاقة تبدأ منذ الصباح الباكر.
وهناك قسم أخير من العاملين في معرشات خضار ثابتة وخاصة في موسم البطيخ والشمام.
هذا القطاع بالذات ينبغي مناقشته بعد الأخذ بالاعتبار مصائر شبكة العاملين فيه سواء منهم الباعة على البسطات أو المنتجين في مواقعهم.
كثيرا ما تطرح فكرة "المشهد الحضاري"أو "السياحي"كمبرر للحملات.
تعالوا نسأل السياح عما يريدونه في وسط البلد؟ إن أغلب السياحة في عمان هي سياحة ثقافية وليست ترفيهية، والسائح يريد أن يرى نمطاً ثقافياً حقيقياً في المكان الذي يزوره، وهو بالمطلق لا يريد مشهداً مرسوماً لأجله، وخاصة إذا كان شبيهاً بما يعرفه في بلاده.
يتعامل مع بسطات وسط البلد، بالإضافة الى ألوف البائعين، عشرات الآلاف من المارة في طريقهم من وإلى اعمالهم قادمين من شرق وجنوب العاصمة أو عائدين إليهما فهل يعد التنكر لهؤلاء وحرمانهم من الاستفادة من البسطات أمراً حضارياً.