وسط عمان: قصة مميزة في اللاتنمية
كانت الحياة تتواصل في الموقع على مدار الساعة بالمعنى الحرفي، وخاصة في المسافة الممتدة بين مجمع رغدان والساحة الهاشمية وصولا إلى المسجد الحسيني. وكانت خدمة المواصلات والتنقل شرقاً إلى الزرقاء متواصلة ومتاحة بلا توقف، بما في ذلك الباصات المتوسطة، وكانت المطاعم تقدم خدمتها للزبائن بلا توقف أيضاً.
في الواقع، لقد بني وسط عمان ككل، بالتدريج خلال عقود طويلة، استجابة لحاجات المواطن العمّاني وفي خدمته، وذلك هو الوضع الطبيعي. ويسجل الأرشيف أن القرارات الإدارية كانت تتجاوب مع تطور المتطلبات نوعاً وحجماً، وبالتوازي كان القطاع الخاص يطور خدماته تبعاً لتلك التغيرات.
لقد خرج البحث الذي أجريته حينها بنتيجة تؤكد وجود تنظيم "ذاتي" للسوق بما في ذلك سوق البسطات والبيع المتنقل، بحيث تتواجد السلعة المناسبة في المكان المناسب والوقت المناسب.
لقد أسس مجمع رغدان كنقطة انطلاق للنقل العام في النصف الأول من السبعينيات، ونقلت إليه كثير من الخطوط، فيما بقيت خطوط أخرى وخاصة تلك التي تخدم جبل عمان واللويبدة وجبل الحسين، وسميت فيما بعد الخطوط التاريخية نظرا لقدمها.
شهد عقد التسعينيات تضخما في عدد رواد وسكان وسط عمان، وخاصة مع قدوم الأشقاء العراقيين بعد حرب الخليج، وأثناء الحصار على العراق، والبحث المشار إليه أعلاه الذي شمل وصفا للموقع، يسجل حضور "الملمح العراقي" الواضح على النشاط الاقتصادي الشعبي حينذاك.
المشروع الكبير
شعرت الإدارة العامة للعاصمة بالحاجة للتغيير، وأعلن في العام 2003 عن مشروع إعادة بناء مجمع رغدان بشكل حديث يناسب التضخم الحاصل، وحصلت أمانة عمان الكبرى على منحة يابانية بقيمة 8 ملايين دولار خصصت لإقامة منشآت ومرافق المجمع الجديد، وأعلنت الأمانة أن الموقع سيغلق لثلاث سنوات، هي الفترة اللازمة لإنجاز المشروع، وطلبت من تجار السوق أن يتحملوا الصعوبات المتوقعة، وقررت إقامة مجمع للنقل في ساحة فارغة في منطقة "المحطة" إلى الشرق، وأقيمت منشآت على عجل، وضعت لوحات تحمل عبارة "مجمع المحطة المؤقت"، وانتقل أصحاب الأكشاك المرخصة إلى أكشاك مؤقتة كما انتقل كثير من أصحاب البسطات غير المرخصة إلى أماكن مناسبة وفق ما هو متوفر.
كان الجميع بانتظار اكتمال المبنى الذي قيل في عصريته وجمالياته الكثير.. بالفعل كان العمل في المجمع يجري بنشاط ووفق الجدول المحدد، وأعلن عن موعد حفل افتتاحه في 25 أيار 2006 ضمن الاحتفالات بعيد الاستقلال في ذلك العام. وكشفت الستائر المعدنية عن المبنى، والمنشآت الجاهزة للعمل.
وما أزال أذكر جيداً يوم كشف الستائر، عندما ألقى أحد سائقي الباصات نظرة بانورامية على المشهد، وقال: "هذا المجمع فاشل" وشرح أنه لا يستوعب نصف الحركة السابقة، فهو مكتظ بالمباني الخرسانية التي لا تترك مساحات مناسبة لخدمة النقل! وهو ما لم يكتشفه الخبراء والمخططون إلا لاحقاً.
قبل يوم الافتتاح بأيام، فاجأت الأمانة الناس بقرار تأجيل الافتتاح، ثم إلغاء الافتتاح، وتتالت التصريحات بأن المجمع سوف لا يحل المشكلة، ثم قيل إن هذا "الصرح العمراني الكبير" لا يجوز أن يقتصر دوره على خدمة النقل، ثم بدأ الكلام عن ضرورة توجيه وسط عمان نحو النشاط السياحي، وأعلن عن اسم جديد للمجمع وهو "مجمع رغدان السياحي"، وأعلن أمين عمان تصريحاً شهيرا حينها عندما قال إنه لا يريد أن يكون وسط عمان "لعابري الطريق ومستخدمي وسائل النقل العام".
بعدها بقليل، قررت الأمانة أن مجمع المحطة الجديد سيعتمد بشكل نهائي، وسارعت إلى تبديل اللوحات على مداخله ووضعت كلمة "دائم" مكان كلمة "مؤقت".
بدأت حينها سلسلة من الأزمات والصدامات مع القطاع التجاري، الذي كان يتأمل استعادة نشاطه بعد توقف نسبي خلال سنوات البناء، وبدأت بالتوازي سلسلة من القرارات الارتجالية.
سياحة المواسير
مرت إلى الآن أكثر من 12 عاما على اكتمال البناء، ولم يتضح له أي ملمح أو دور "سياحي" يناسب اسمه الجديد، وما تزال ساحاته مكتظة بالمواسير والمظلات المعدنية التي تحدد أماكن وقوف الركاب المفترضين، وما تزال قائمة اللوحات التي تحدد اتجاه سير الخطوط وأسماءها. وفي الأثناء، اتخذت الأمانة قرارات ارتجالية لم ينفذ أي منها، من ذلك قرار بنقل بعض خطوط النقل القديمة مثل: "جبل عمان واللويبدة والعبدلي" إلى المجمع السياحي، وهو الأمر الذي رفضه السائقون والركاب، رغم محاولة إجبارهم على ذلك بالقوة، ثم أعلن عن مشروع أسواق ومعارض وفنادق، ضمن مشروع كبير سمي "صحن عمان"، الذي يشمل البرك والمسابح والشقق الراقية... وغير ذلك من خطط خرافية، جلب لأجل وضعها خبراء أجانب، أبرزهم "جيري بوست" الاسم الذي أصبح شهيرا ثم غادر بما يشبه الفضيحة.
قص الشريط
تلا ذلك صمت طويل وكظم المتضررون غيظهم، وأغلقت عشرات المتاجر، وبعضها كان قد بلغ عمره أكثر من نصف قرن، ثم أعلن أن ساحات المجمع ستكون مفتوحة كموقف بالمجان للسيارات الخاصة، ثم ليفاجأ الجميع في تشرين الأول (أكتوبر) 2014 بالإعلان عن افتتاح "مشروع مجمع رغدان السياحي"، وجرى بالفعل حفل كبير مهيب، رعاه رئيس الوزراء الذي قص الشريط (بعد 8 سنوات على إنجاز المشروع)، وأعلن في الاحتفال أن "رحلات سياحية ستنطلق في مسارات محددة، وعن رحلات يومية في الباص المكشوف، وأن المجمع سيحتوي على محال للتحف الشرقية والشعبية، وأن المجمع "مشروع ريادي" سيشكل انعاشا اقتصاديا لمنطقة وسط عمان".
بالطبع، ما يزال الوضع على حاله، والموقع الآن يستخدم كموقف عشوائي للسيارات، بل إن خط النقل الوحيد الذي واصل عمله في الموقع وهو "خط جبل الجوفة" لم يستخدم ساحة المجمع وبقي في موقعه في الشارع العام المجاور، وهو المكان الذي كان يعمل فيه أصلا منذ عقود! أي أن المجمع الجديد (الصرح العمراني) لم يستطع أن يجذب خط سير واحد بضعة أمتار إلى داخله.
أين ذهب الناس؟
ولكن ماذا عن الحال في مجمع المحطة؟ يفترض أنه ما يزال يقدم خدمة النقل للذين كانوا يستخدمون مجمع "رغدان"!
لقد دخل مجمع المحطة في مسار من المشكلات الخاصة به، وهذه قصة تطول، غير أن الظاهرة الأبرز هي أن المجمع فقد أغلب مستخدميه، رغم الزيادة الكبيرة في سكان عمان الذي يفترض أن ينعكس في زيادة الركاب. إن المجمع يكاد يكون فارغاً مع أولى ساعات المساء. بعض الخطوط شهدت تقلصاً في عدد وسائل النقل العاملة عليها، بدل أن تشهد زيادة!
لم يسأل صاحب القرار نفسه: أين ذهب الركاب؟ وهو السؤال الذي لم يطرحه المسؤول أيضاً في الحالة المشابهة تماما في "مجمع الشمال" وريث مجمع العبدلي الموؤد لأسباب "سياحية" مختلفة قليلاً. ولكن المسؤول نفسه يقف مشدوهاً وهو يتساءل عن سر أزمة النقل والتنقل في العاصمة. لا يريد صاحب القرار أن يربط بين قراراته في بعثرة سلوك التنقل عند سكان عمان وزوارها، الذي صنعوه خلال عقود، وبين أزمة النقل الناشئة.
أول من أمس، زرت صديقاً قديما يعمل "كندرجياً" في وسط عمان منذ حوالي نصف قرن، وأعتبره خبيرا في مواصفات المارة والمشاة في وسط عمان، وأسأله بين زمن وآخر عن التبدلات المحيطة به. قال لي: لقد انقرض الناس الذين اعتادوا على وسط عمان. حل محلهم أناس جدد لا يعرفون معنى وسط المدينة، وخاصة إذا كانت عاصمة.