الثقة السياسية.. عَوْدٌ على بدء
استكمالاً لما طرحناه قَبْلاً، فإن القول يغدو في هذه اللحظة ضرورياً لمقاربة مفهوم «الثقة السياسية»، من حيث كونها ظاهرة اجتماعية تلعب الدور المركزي في تجسير الهوّة بين الحاكم والمحكوم، وبالتالي بناء الشرعية للنظام السياسي. وشرط تحقق ذلك يكون في التزام «الحاكم» بعدالة توزيع القيم السلطويّة، والأخذ بأسباب المشاركة الكاملة بين طرفي العقد الاجتماعي؛ السلطة والمواطن. وعندها ستكون هناك حلول لجميع الإشكالات، وخروج من جميع الأزمات التي يمر بها الوطن، وذلك عندما يثق المواطن بالحكومة ويغدو مُعيناً لها على تجاوز العقبات ومواجهة التحديات، خاصة إذا ما أدرك أن «الحكومة» هي خط الدفاع عنه وحاميته ومصدر تأمين العيش الكريم له.
وتندرج «الثقة السياسية» في عقلانيتها من مرحلة الثقة بالمؤسسة السياسية، مروراً بمرحلة الثقة بالوظيفة السياسية، ثم الانتقال إلى مرحلة الثقة بالزعيم السياسي، كل ذلك في مجمل معنى مفهوم «الثقة» كضمان وجرأة وشجاعة، تتأتّى من خلال وعي الفرد بقيمته. ويظهر مفهوم «الثقة السياسية» واضحاً وجلياً إذا ما أدرجناه إلى جانب مفهوم «الحكم» و «شرعيّة الحكم»، الأمر الذي يقتضي وجود متلازمتين؛ الأولى الأداء الجيد للحكم، والثاني التزام المواطن بحماية حُكْمه وقبول قوانينه وتوجيهاته، التي غدت مع التجربة راشدة وموثوقاً بها. وهنا ندرك أن «الثقة» تستند إلى مصداقيّة السياسات العموميّة، وعلى مستوى الشفافية والنزاهة والعدالة في إدارة الشأن العام. واعتماداً على ذلك فقد رأى «فرنسيس فوكوياما» أن الثقة وسيلة فعّالة لخفض التكاليف والتعامل السلبي في أية علاقة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسيّة.
أما القضية الثانية والهامّة فإنها تتمثل في تفويض المواطنين للبعض منهم ليتداولوا القرارات مع «السلطة» نيابة عنهم، وذلك عن طريق اختيار نواب لهم يتوكلون الدفاع عن قضاياهم ومطالبهم واحتياجاتهم. وهنا تكمن الخطورة والقلق، إذ بمجرد ظهور نتائج الانتخابات فإن المواطن يتراجع إلى الصفوف الخلفية تاركاً واجهة المساحات «للنائب» كي يتصرف بدلاً عنه، لذلك لا بد من حسن الاختيار، وعدم الانجرار نحو المكتسبات الزائفة أو الإغراءات أو الرشوة أو شراء الذمم، حتى يأتي النائب المُقْنع والقادر على تحمّل المسؤولية.
وإذا ما وقع خلل في العلاقة بين النائب والناخب، وانعدمت الثقة بينهما، فإننا سنجد أن ظهر المواطن قد انكشف، وأن قدرته على الدفاع عن النفس قد سقطت وتلاشت. لذلك فإن «النائب» الذي يحترم «الأمانة» ويقدر المسؤولية سيضع نفسه «كل لحظة» أمام اختبار ثقة من قبل ناخبيه، الأمر الذي يجعله في موضع المساءلة العامّة دائماً، فإذا ما نجح فيها فإن حجماً هائلاً من الثقة به سيتحقق، وعندها سيكون هو قادرا على طرح الثقة بالحكومة وسيكون ذلك منطقياً ومقبولاً ومتماهياً مع مفهوم الثقة والشرعية والتشارك العام.