التبادل الحر: الثورة الصناعية ربما تسلط الضوء على الإنتاجية الحديثة

كم من الغزل في اليوم الواحد يمكن لإمرأة بريطانية في القرن الثامن عشر أن تصنعه على آلة خياطة تقليدية؟ لطالما كان هذا السؤال بمثابة أرضية جذابة للمؤرخين الاقتصاديين، والذين عادة ما تتكشف نقاشاتهم دون أن يلاحظها أحد خارج مجالهم.
ولكن هناك دائما جدل دائر حول إنتاجية آلات الغزل والقائمين عليها قبل عهد الثورة الصناعية، وأسئلة أخرى ذات صلة تتعدى كونها أكاديمية.
وقد كانت النساء تُحيك ما مقداره ربع رطل ورطل من النسيج يوميا، بحسب ما انتهى إليه المؤرخون.
ولكن المسألة أكثر عمقا بكثير: فهناك خلاف يلف طبيعة التقدم التكنولوجي الذي ترتبت عليه الكثير من الآثار العامة بالنسبة للاقتصاد العالمي.
ويعتبر النمو الاقتصادي، من قبيل هذا الذي نشهده اليوم، نوعا من الخروج المذهل من نمط التاريخ البشري قبل الثورة الصناعية. ولم تتمكن فترة تتجاوز القرن من الدراسات والأبحاث من إيجاد إجابة وافية لسؤال لماذا بدأت وأين ومتى. وهذه مسألة تتعدى الاهتمام التاريخي وقد أفضى النمو الضعيف للإنتاجية إلى إثارة الاقتصاديين تساؤلات تتعلق بإذا ما أصبحت أفكار البشر تنضب، وإذا ما كانوا يفقدون القدرة بشكل مستمر على تحويل التكنولوجيات الجديدة إلى دُخول متنامية.
ويمكن لتفهم أفضل لما حدث تماما في بريطانيا القرن الثامن عشر أن يسلط الضوء على هذه المسألة بالتحديد.
ويركز هؤلاء الذي يدرسون تباطؤ الإنتاجية عادة على العوامل ذات العلاقة بجانب العرض، مثل مهارات العمال والاستثمار في الأبحاث والتطوير.
وغالبا ما تستند تفسيرات الثورة الصناعية إلى عوامل مماثلة، والتي تتمحور عادةً حول خصائص بريطانيا التي جعلت منها مكاناً خصباً لتطبيق التكنولوجيات الجديدة على الإنتاج.
ويشدد بعض الباحثين على السمات المؤسسية مثل نشوء الديمقراطية البرلمانية المستقرة وسيادة القانون، إلى جانب ضمان حقوق الملكية.
ونسب آخرون الفضل إلى أسواق رأس المال البريطانية ومجتمعات العمالة الماهرة، فضلاً عن العادات الثقافية التي تشجع جهود الانضباط وطموح المشاريع.
ولكن في حال كانت عوامل من هذا القبيل ضرورية لجعل الدولة مصنعة، فهي لا تظهر وأنها كافية وحدها. وعلى الرغم من أن أجزاء أخرى من أوروبا تقاسمت العديد من هذه السمات مع بريطانيا، فقد بدأت ثورة التصنيع في بريطانيا وحدها.
وعلى هذا الأساس، أخذ المؤرخون الاقتصاديون في اعتبارهم "جانب الطلب" للتصنيع: وهو الظرف الذي وجدت الشركات بموجبه مدى استحقاق تجربة التكنولوجيات غير مثبتة النتائج. وبشكل خاص، ينخرط الباحثون الآن في نقاش يتعلق بـ"فرضية الأجور المرتفعة" التي طرحها روبرت ألين.
وعلى مدى العقدين الماضيين، جادل السيد ألين بأن مفتاح الثورة الصناعية البريطانية يقع في توسيع التجارة التي سبقتها. وقد أفضى ذلك إلى رفع أجور العمالة البريطانية، بينما بقيت الأجور في أجزاء أخرى من أوروبا ثابتة كما هي. وكانت الشركات البريطانية، عشية الثورة الصناعية، تعمل في سوق كان فيها الفحم رخيص الثمن لكن العمالة غالية بدورها
ولذلك كان من المنطقي أن تسعى الشركات خلف الآلات التي تعمل بالفحم لتستخلص المزيد من عمالها. وبمعدل الأجور البريطاني، كان تواجد عمالة جديدة غير خبيرة بأمور الحياكة أمرا منطقيا ومجدي اقتصاديا، وفقا لما كتبه السيد ألين، في حين كانت أنواع الإنتاج الجديدة في فرنسا أقل احتمالا لأن تفضي إلى عوائد جيدة.
ولم يكن حتى عقود من الأتمتة والابتكارات أن بدأت بريطانيا بتعزيز مدى كفاءة المعدات الجديدة ليتم استخدامها واعتمادها في القارة بأكملها.
وقد أثارت أعمال السيد ألين موجة من الأبحاث التي تحدد معالم الجدل المتعلق بالأجور المرتفعة. ولم تكن هناك من بيانات منتظمة عن الدخل في ذلك الوقت.
وتوجب على الباحثين بدلا من ذلك أن يستخلصوا المعلومات عن الأجور في الفترات التي صادف أن مر بها التاريخ وسجلها.
وكان عليهم أن يحددوا الأوضاع التي كان عليها العمال المنتجون، وإذا ما كانوا نموذجيون أم لا. ومن ثم أخذوا باستكشاف ما كان يشتريه العمال بأجورهم، وبأي سعر كان ذلك.
ويمكن لاستهلاك خبز القمح أن يوضح أن الأجور الحقيقية (المعدلة لتكاليف المعيشة) كانت منخفضة – إلا اذا ما كان هؤلاء العمال يستطيعون شراء الخبز الأرخص ثمناً، المصنع من الشوفان أو الشعير، مما يوحي بأنهم يكسبون ما يكفي لتحمل بعض الترف.
وقد دفعت أعمال مثل هذه بجهود فهم فترة حرجة من التاريخ الاقتصادي ويكشف بحث حديث قامت عليه جين هامفرايز وبينجامين شنايدر، على سبيل المثال، بعض المعلومات عن الدور الاقتصادي للنساء والأطفال، الذين كانوا يتلقون أجوراً تدنوا تلك التي يتلقاها الرجال، في صناعة الغزل.
وكشفت جودي ستيفنسون النقاب عن تفاصيل جديدة حول عُمال البناء في لندن، وبينت أن العديد يقدرون أن ساعات العمل ربما تكون مرتفعة جدا.
وبواقع الحال، يحاول هؤلاء الذين يختلفون مع أطروحة السيد ألين إيجاد أدلة من أجل دعم نظرية منافسة لها تقدمها عمرا، والتي تقول أن القوة الدافعة خلف التصنيع أتت من الأجور المنخفضة لا من المرتفعة.
وفي هذه الرواية، يغلب الظن أن البرك الواسعة من العمالة الرخيصة في مجتمعات ما قبل التصنيع كانت مصادر مربحة لأي شخص يستطيع استخدامها على النحو الأمثل ليستفيد أكثر ما أمكنه منها.
وفي رواية السيد ألين، كانت أجور أعمال الغزل، رغم أنها منخفضة جداً بالمعايير الحديثة، مرتفعة كفاية لتحفز تطوير وتوظيف معدات الغزل من طراز "سبينينغ جيني".
ومع ذلك، بالنسبة للسيدة هامفرايز، وجد الرأسماليون هذه المعدات جذابة لأنها مكنتهم من ابتزاز المزيد من عمالتهم الرخيصة من النساء والأطفال.
وفي الوقت الراهن، تبدو نظرية السيد ألين وأنها أكثر اقناعا رغم أن مزيد من الأعمال في هذا المجال قد تغير هذا التوازن بسهولة. ومع ذلك، فإن الدور المركزي لتكاليف العمالة في النظريتين يحوي دروسا من شأنها أن تفيد الاقتصاديين الذين يدرسون نمو الإنتاجية اليوم وهم يميلون إلى معاملة نمو الأجور كدالة على التقدم التكنولوجي، أكثر من كونه عامل يؤثر عليه.
وتعتمد القدرة على الخروج بالمزيد من الأفكار بلا شك على عوامل جانب العرض، من عدد ونوعية المهندسين الذين ينتجهم المجتمع إلى البيئة التنافسية التي تواجهها الشركات الكبيرة.
ولكن في حال كانت الإنتاجية تنمو بشكل بطيء، فإن ذلك يمكن أن يعود أيضاً إلى أن تكاليف العمالة تثبط إجراء التجارب في مجال التكنولوجيات الجديدة.
وتُعرف هذه التجارب بأنها بطيئة وخطرة ومكلفة وعندما تكون الأرباح مرتفعة والأجور راكدة، فهي بالكاد تستحق عناء إجرائها.
وحتى ترتفع الأجور كثيراً، سوف يكون الاعتماد على صانعي شطائر الهامبورغر وموظفي مراكز الاتصالات، مثلهم مثل العاملين على آلالات الغزل، كافياً للوقت الراهن.