هل للفقراء نصيب من عوائد الاحتجاجات الشعبية؟
يوم الأربعاء (30 أيار) من الأسبوع الماضي، وعلى مدخل مبنى مجمع النقابات المهنية في عمان، وأثناء ساعات الإضراب عن العمل، وقف شاب يحمل بيديه مجموعة من الأعلام الأردنية يعرضها للبيع للمشاركين في الإضراب، وقد ظهر لاحقا أنه متخصص في بيع هذه الأعلام في النشاطات الجماعية عموما، بغض النظر عن محتواها وعنوانها، ومن بينها الاحتجاجات والمسيرات.
وبعد حوار قصير اشتمل على قدر من "المناكفة" الودية عندما أشرت إلى مفارقة أنه جاء في هذا اليوم للعمل في وسط جماعة من المضربين عن العمل! سألته عن تقييمه لحالة المشاركين في الإضراب، فقال: يبدو أنهم جماعة "مباسيط". أي أنهم في حالة مادية جيدة. قلت له: لكن فيهم بعض أصحاب الحالة المتواضعة، فلم يوافق كثيرا على ملاحظتي، موضحاً أنه أمضى للآن حوالي 15 عاما في بيع الأعلام في التجمعات، وأنه أصبح قادرا على تقدير حالة زبائنه.
رغم موقف صاحبنا، إلا أن عنوان الفقر كان بارزا في أكبر يافطة علقتها "نقابة المقاولين" على مدخل المجمع رفضت فيها سياسة المساس بالفقراء! وتلك مفارقة قد تكون جديرة بالانتباه.
فالعناية بالفقر والفقراء عنوان جذاب عند شتى أنواع الاحتجاجات وشتى أصناف المحتجين، ومن بينها هذه المرة أمام مجمع النقابات، فرغم أن قانون ضريبة الدخل المقترح لا يشمل دخول الفقراء ولا الفئات التي تعلوهم (وفق المقاييس والتعريفات المعتمدة للفقر)، غير أن الفقر كان حاضرا شكليا في الشعارات والهتافات باعتبار مكافحته أبرز غايات الإضراب.
بالطبع في الأيام اللاحقة، وخاصة بعد إعلان رفع أسعار المحروقات، انتقلت التحركات إلى أوساط فقراء حقيقيين، وخاصة في خارج العاصمة، ثم التحق باحتجاجات العاصمة فريق واسع من الأوساط الشعبية.
الاحتجاجات والتنمية
في هذه الصنف من الاحتجاجات الاجتماعية، التي تليها في العادة تغييرات كبرى، فإن مرحلة ما بعد الاحتجاجات هي الأهم من حيث توزيع العائد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أي من حيث النتائج والمكاسب، وقد بدأت بالفعل مرحلة من المراجعة للسياسات ذات الصلة بمواضيع الاحتجاج، ومن المرجح، أنه سيلي التحركات الشعبية نشاط تنظيمي واسع وقد تتشكل هيئات ومنظمات تسعى كل منها لأن يكون لها، بما تمثله من فئات اجتماعية، حصة في عائد الاحتجاج.
معلوم أن التحركات لم تنته حتى الآن، ولم تكتمل صورتها النهائية ولم تتحدد مآلاتها، إلا أنه يمكن بسهولة ملاحظة أثرها الواضح، سواء في مجريات إسقاط أو استقالة حكومة وتشكيل أخرى، أو في الخطاب المرافق عند شتى الأطراف. في الواقع، إن مسألة العلاقة بين التحركات الاجتماعية وبين السياسات الاقتصادية والتنموية الجديدة، مطروحة منذ زمن على مستوى عالمي وهو أمر يشكل ميدان صراع اجتماعي يكون في العادة سريع التبدل. وقد حصل ذلك في دول العالم المتقدم والمختلف معاً، وذلك بعد بروز ظاهرة الفشل الكلي أو الجزئي للتمثيل النيابي أو الحزبي والنقابي "الاعتيادي" في قيادة مصالح الجمهور.
وفي الأردن، إذا استعدنا بسرعة عناوين الأسبوع الفائت، سنلاحظ التبدل الكبير في جماعات المصالح الفاعلة.
ففي اليوم الأول، كان لأصحاب العمل ورجال الأعمال حضور واضح لأنهم كانوا الجهة الأبرز التي دفعت بموظفيها إلى المشاركة بالإضراب، وفي اليوم التالي مع دخول عنصر سعر المحروقات تبدلت الصورة وما تزال تتبدل.
لكن الفقراء يُعدّون الجهة الأضعف في مرحلة ما بعد الاحتجاجات، رغم أنهم عادة ما يكونوا الأكثر تضحية أو تضررا أثناء الاحتجاجات، فهم في حالة الهدوء الاجتماعي (قبل وبعد الاحجاجات) لا يحوزون أي سلطة تمكنهم من تقديم مصالحهم أو تنفيذ مطالبهم.
تجريب المجرّب
لغاية الآن تفيد المؤشرات أن الفقراء لن يكون لهم نصيب معتبر من العوائد، فهناك استعادة لفكرة تقليدية مر عليها أكثر من ربع قرن في الأردن فضلاً عن عمر أطول في دول أخرى شبيهة، أعني فكرة تشكيل شبكة أو شبكات الأمان الاجتماعي لحماية الفقراء.
إنها فكرة طبقت واستهلكت بشكل واسع وبلا مردود فعلي، وهي من انتاج البنك الدولي قدمت كوصفة دولية للدول التي خضعت لما يعرف ببرامج التصحيح، وهي تقوم على أساس أن السياسات الاقتصادية والمالية المتبعة هي سياسات صائبة على المدى المتوسط والبعيد، وأنها سوف تقود مستقبلاً إلى منافع تتوزع على الجميع، غير أنها تعترف بوجود فئات محدودة ستتضرر مؤقتاً على المدى القصير من هذه السياسات، وينبغي توفير مظلات أو شبكات للحماية ستكون مؤقتة حكماً لأن هذه الفئات ستتمكن بعد ذلك من الالتحاق بركب النمو مع باقي المستفيدين!
غير أن أنصار فكرة شبكات الأمان الاجتماعية لا ينتبهون إلى ما تحمله التجربة التنموية الأردنية الفعلية فيما يتعلق بتأمين انخراط الفئات الفقيرة والمجمتعات المحلية في مجمل العمليات الوطنية على شتى المستويات.
في الأردن تجربة ممتازة وطنية الملامح في مجال الحماية الاجتماعية تمثلت في نظام تعليم وخدمات رعاية صحية طالت كل المواقع حتى أقصاها بمساهمة أساسية مهمة من القوات المسلحة التي قدمت الخدمات التعليمية والصحية للمواطنين حتى في اماكن توزعهم؛ حيث تتحلى المؤسسة العسكرية بانتشار يتيح لها تقليص التكلفة مقارنة باضطرار مؤسسات الدولة المدنية إلى القيام بذلك.
ومن المؤسف أن العقدين الماضيين يشهدان وبوتائر عالية عمليات تدمير وتخريب لما بني في قطاعي التعليم والصحة.
هذا فضلاً عن أنه لدينا في الأردن تجربة وطنية بالكامل سابقة لعهد الصندوق والبنك الدوليين، في ميدان شبكات الحماية تمثلت في صندوق المعونة الوطنية الذي يقدم خدمة حمائية للفئات التي لا تسطيع العمل وتحصيل الدخل.
إن العودة إلى مسألة شبكات الحماية بصورتها المجربة، تعني مواصلة صاحب القرار التنموي نظرته إلى الفقراء بصفتهم مجرد سلبيين ومنتظرين لما تقدمه الدولة، وهناك الكثير من التفاصيل التي تشير إلى أن الفكرة لا تنموية على الإطلاق.
هناك بدائل
غير أن هناك بدائل محتملة إيجابية ذات إمكانيات تنموية أفضل، فقد طبقت في الأردن في عقود سابقة تجارب يكمن جوهرها في توفير الحماية الذاتية للمجتمعات المحلية، ونمت دوائر للنشاط الاقتصادي المحلي، وهناك تجارب في مجال النشاط التعاوني. واليوم ليس من المنطقي تشجيع أو السماح لرأس المال الكبير بالدخول والسيطرة على الفائض المحتمل فيما تبقى من قطاعات اقتصاد شعبي هنا وهناك.
ومن ذلك، مثلاً بعض المواقع الزراعية في القرى والمحافظات (بعيدا عن حالة الأغوار ومناطق الزراعة عالية رأس المال)، وعلى سبيل المثال، قطاع الزيتون وزيت الزيتون الذي يحوز على ميزات توزيعية عالية، أي أنه يوسع دائرة المستفيدين. ومثله أيضا قطاع الثروة الحيوانية الذي تجري محاولات مركزة الحيازات الكبيرة فيه، بعد أن شكل عبر تاريخ الأردن شبكة حماية انتاجية موزعة جيداً، من الضروري عودة الحياة إلى مفهوم "تربية الحلال" كبديل عن مفهوم "الثورة الحيوانية"! إن هذه القطاعات ما تزال قادرة على تشكيل عنصر مساندة أو بديل جزئي على الأقل.
ومثلهما أيضا قطاعات العمل والانتاج غير الرسمية، المستندة إلى الخبرات الواسعة في أوساط المخيمات والأحياء الفقيرة في المدن، ويمكن اكتشافها بالتعرف على عوامل البقاء والاستثمار والعثور على وسيلة الالتقاء معها في منتصف الطريق، ولعل ذلك يكون أقل تكلفة وأكثر كرامة من فكرة شبكات الأمان الاجتماعي.
إن فريق المتضررين من السياسات يتسع، وقد شمل هذه المرة أوساطا جديدة بينها مستثمرون ورجال أعمال تمكنوا من توظيف مستخدميهم ودفعوا إلى الشارع بقطاع من غير المتضررين مباشرة، وهو ما يفتح على نقاش ما هو مشترك وما هو خاص على المستوى الوطني على أن يُحفظ حق الجميع.
إن فشل المجالس النيابية والأحزاب والنقابات في تمثيل مصالح الفئات الاجتماعية أو الجموع الشعبية الواسعة، يفتح المجال أمام أشكال جديدة لتنظيم المصالح الاجتماعية وتتصدر الحركات الاجتماعية المشهد، ومن المفترض أن تعي الدولة دورها في توفير الفرصة أمام الفقراء، لكي يحضروا بفعالية فيما بعد الاحتجاجات بصفتهم مواطنين يتساوون دستوريا وقانونيا مع زملائهم المواطنين من "المحتجين الجدد"، الذين يبدو أنهم أخذوا يفركون أيديهم استعدادا لتلقي النسبة الأكبر من العوائد.