مبادئ اقتصاديات التنمية والسجال حول ضريبة الدخل

 بلغ السجال أوجه حول مشروع تعديل قانون ضريبة الدخل، وشارك فيه بحمية وحماس أصحاب رأي وغرف الصناعة والتجارة والنقابات ومؤسسات أخرى من المجتمع المدني وبالتفاعل مع أعضاء الفريق الاقتصادي في الحكومة، حتى بلغ الذروة بالدعوة إلى الإضراب العام!
ولكن ما كان غير بارز في حمى ذلك السجال لفت النظر إلى ضرورة أن يكون مشروع القانون واضح العلاقة والتكامل مع مبادئ اقتصاديات التنمية من جهة، ومع خطط الحكومة الأخرى لتحسين البيئة المشجعة على الاستثمار ولحفز معدلات النمو الاقتصادي بما يعالج مشكلات الفقر والبطالة من جهة أخرى.
وفي حدود هذه الكلمة الموجزة، ولتجنب تكرار ما اتفق معه من حجج صائبة في المطالعات الناقدة لمشروع القانون، سوف أركز فقط على غياب مبدأ اقتصادي أساسي عن الاعتبارات التي أخذ بها في تصميم قانون ضريبة الدخل القائم قبل التعديل وفي التعديلات التي أدخلت عليه، وهو تأثير تفاصيل القانون ومواده على وتائر الادخار والاستثمار الوطني. ولبيان أهمية هذا الاعتبار، نشير إلى أن ما يعرف بالمعجزة التنموية لأقطار شرق آسيا (اليابان، تايوان، هونغ كونغ، الصين، كوريا، سنغافورة، فيتنام)، التي حققت وتائر النمو العالية التي نقلتها من مستويات شبيهة بما كان عليه الحال وما يزال من الدخل والثروة في الوطن الأردني، إلى مستويات تضاهي ما تحقق في الدول الصناعية المتقدمة، ليس فيه من المعجزة سوى قدرة الاقتصاد في الأقطار المذكورة على كبح الجزء الذي ينفق من الناتج الوطني على الإنفاق الاستهلاكي وتعظيم ما يدخر من الناتج الوطني لكي ينفق على تكوين رأس المال؛ أي بناء القدرات الإنتاجية للاقتصاد.
فعلى سبيل المثال، خلال السنوات الحديثة 2009-2015 بلغت النسبة المئوية للادخار من الناتج الوطني في كل من الصين وسنغافورة 48 % و45 % على التوالي، محققة معدلات نمو سنوية في الفترة ذاتها بلغت 8.2 % في الصين و5.3 % في سنغافورة.
وفي المقابل، نجد أن النسبة المئوية للادخار من الناتج الوطني (الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة) في الأردن للسنوات المتوفرة من القرن الحالي، وهي 2000-2011 كانت باستمرار صفراً أو سالبة، مما يفسر هزالة الاستثمار في تكوين رأس المال الثابت، وبالتالي تردي معدلات النمو الاقتصادي. ومما يلفت النظر عدم توفر أرقام عن الادخار والاستثمار بعد سنة 2011، ما يعني أن التخطيط الاقتصادي يجري في عتمة من غياب المعلومات الضرورية لتخطيط مستنير!
ولا نكاد نجد في السجال الدائر باحتدام عن ضريبة الدخل والنسب المقترح تعديلها من يثير أثر بقاء تلك النسب أو تعديلها على الادخار وحوافزه سلباً أو إيجاباً! بل نستغرب أنه لا القانون المعمول به ولا التعديلات المقترحة من الحكومة أو من الناقدين لها، على ما أعلم، يرى ضرورة إعفاء الدخل من فوائد الودائع في البنوك -على قلته- من الضريبة كرمز ورسالة لتشجيع المواطن على الادخار. بل تبقى الودائع خاضعة للضريبة بموجب المواد ذات العلاقة سواء القديمة والمعدلة. 
كما لا نجد في السجال الدائر المحتدم إثارة لغياب دراسة معمقة لاستحداث ضريبة على الأرباح الرأسمالية لاسيما الناتجة عن مضاربات طارئة windfall profits.
ولقد بيّن التطوير الذي أحدثه عالم الاقتصاد "كينز" في النظرية العامة للعمالة، وما أحدثه عالم الاقتصاد "كالدور" في نظرية ضريبة الاستهلاك، أن الحكومة تستطيع الإنفاق بعجز في الموازنة إذا ضمنت أن هناك ما يعادل ذلك الإنفاق من الادخارات الخاصة. إذن فالأساس هو كبح الإنفاق الاستهلاكي في القطاعين الخاص والحكومي وتعظيم ما يدخر ويستثمر من الدخل. بل تصبح المديونية الخارجية مبررة لكل قروض تستخدم لرفع القدرات الإنتاجية الوطنية في شتى المجالات.
وكان يهون الأمر لو أن ثمة دليلا أو إشارة إلى أن الضرائب التي تجبى وفق مشروع تعديل ضريبة الدخل فتحسم من جملة الاستهلاك الخاص سوف تقوم الحكومة باستخدامها لرفع معدل تكوين رأس المال في القطاع العام.
لكن الدراسة الأحدث الصادرة عن منتدى الاستراتيجيات الأردني تبين على العكس من ذلك أن نسبة الإنفاق الرأسمالي الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي انخفضت من نسبة 15 % التي كانت قد تحققت في ثمانينيات القرن الماضي إلى النسبة التافهة 3.7 % لأحدث سنوات تتوفر عنها هذه المعلومة (2016-2017).
وتشدد الدراسة على "أن هنالك العديد من الآثار السلبية لهذا الانخفاض الملموس في الإنفاق الرأسمالي الذي شهده الأردن منذ السبعينيات على كل من البنية التحتية للأردن ورأس المال البشري".
هناك العديد من السياسات والإجراءات التي يمكن التفكير فيها لكبح الإنفاق الاستهلاكي الذي يؤثر سلباً على الادخار. ما الذي يمنع مثلاً من وضع أشد القيود على المستوردات الكمالية التي تموّن الاستهلاك التفاخري وتؤثث القصور الفارهة؟!  وعلى النسق ذاته، لنتخيل الأثر الإيجابي ليس فقط على الادخار بل وعلى فاتورة الطاقة وميزان المدفوعات وحركة السير في العاصمة لو شرعت أشد القيود على استيراد السيارات ذات المحركات الكبيرة المسرفة في استهلاك الوقود، وأعيد الإعفاء الضريبي على السيارات الكهربائية الصغيرة!
وبصورة عامة، نرى أن توسيع قاعدة الجباية الذي يسعى إليه مشروع قانون ضريبة الدخل الجديد بدون حسابات دقيقة وبراهين على أن الأموال المحصلة سوف لا تؤثر سلباً على معدلات الادخار والاستثمار في القطاع الخاص وسوف لا تزيد من الإنفاق الاستهلاكي الحكومي غير المنتج، يقود على الأرجح إلى مزيد من الانكماش الجاري في الاقتصاد والمحبط للبيئة الاستثمارية ولفرص النموّ الاقتصادي.