سخرية كاسترو ورؤية رمسفيلد!

يوم تجمعت وفود من كل دول العالم وملأت قاعة قصر الأمم في جنيف عن بكرة أبيها كان موعدها مع فيدل كاسترو في خطاب تاريخي حي على منصة الاجتماع الاحتفالي بمناسبة العيد الذهبي لمنظمة الصحة العالمية في ايار 1998 والذي استضاف رؤساء دول وحكومات ودُعي لحضوره الرؤساء السابقون للجمعية العامة للمنظمة، وحين وقف الرئيس الكوبي بقامته المهيبة يخطب في الحشد الكبير ارتجالا دون تلعثم يتلو من ذاكرة رائقة ارقاماً واحصاءات عن الصحة في بلاده ومثيلاتها في الدول الأخرى وينتقل بسلاسة الى الاقتصاد العالمي والحصار الاميركي الظالم على بلده الصغير، توقف طويلاً عند سياسة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة والدول التي تملك التأثير عليها من اجل تقليص دور القطاع العام بما فيه الصحة والتربية والتعليم، تمشياً مع اقتصاد السوق المنفلت حسب جامعة شيكاغو واستاذها الاول ميلتون فريدمان، وانتهى الى السؤال: قولوا لنا ماذا يبقى بعد ذلك من وظيفة للحكومات.. هل مجرد قيادة الجيوش وإعلان الحروب؟! وضجت القاعة الكبيرة بالضحك !
نعلم أن أميركا مرت قبل ذلك وبعده بانواع مختلفة من ((بيوع)) اجزاء هامة من القطاع العام للشركات وفرضت نفس سياسة ال Corporatism بشكل او بآخر على دول عديدة بواسطة قروض وشروط البنك الدولي وإرشادات صندوق النقد الدولي وبطرق مختلفة من الابتزاز حتى لو اقتضى الأمر ارتكاب جرائم كالتي وصفها جون بيركنز في كتابه الشهير ((اعترافات قاتل اقتصادي)) ومن بينها اغتيال أو تصفية زعماء لم ينصاعوا لتلك الارشادات ! لكن احداً لم يدر بخلده أن الأمر سيصل بالولايات المتحدة الى حدٍ فاق سخرية كاسترو وذلك بادخال الشركات الخاصة الى جيشها نفسه ! ففي عام 2001 أصبح دونالد رمسفيلد وزيراً للدفاع في ادارة جورج دبليو بوش وكان قد قضى العشرين سنة السابقة رئيساً لمجالس ادارات العديد من الشركات الكبرى متعددة الجنسيات ومنها شركة Gilead Sciences المنتجة لدواء الانفلونزا Tamiflu الذي انكشفت اثاره الجانبية الخطيرة بعد تسويقه بمليارات الدولارت على حكومات جرى تخويفها من الوباء كما تم بيعه بامر وزير الدفاع للقوات الاميركية في جميع انحاء العالم ! وهي الشركة ذاتها التي تحتكر انتاج اربعة ادوية ايدز باهظة الثمن لكنها منقذة للحياة وفي نفس الوقت تحرم على الشركات الأخرى بقوة قانون الملكية الفكرية انتاج ادوية أصلية رخيصة لها نفس المفعول لكنها أرخص بمائة مرة من اجل معالجة فقراء العالم وهو القانون الذي كسرته جنوب افريقيا فيما بعد ! ومن وحي هذه الخلفية اللا أخلاقية جاء رمسفيلد الى منصبه معتقداً أنه يحمل ((رؤية)) شخصية جديدة للجيوش في القرن الواحد والعشرين تقضي بتحويل معظم وظائفها التقليدية الى متعهدين (!) من القطاع الخاص، ومَنْ أوْلى بذلك من ثم هاليبرتون التي رأَسَ مجلس ادارتها ديك تشيني وقبلهما لوكهيد حيث زوجته لين تشيني في مجلس ادارتها فأخيراً وليس آخراً شركة بلاك ووتر إياها ؟! وعن رؤيا رمسفيلد هذه تروي نعومي كلاين في كتابها (( مذهب الصدمه )): (( في صباح يوم اثنين كانت قاعة الاجتماعات في البنتاغون تغص بمئات من كبار الضباط والمسؤولين العسكريين الذين لم يكونوا يعلمون سر دعوة وزير الدفاع المفاجئه لهم ولأنهم كانوا يحملون في نفوسهم بغضاً شديداً له ولسياسته فقد ظنوا أنه أحس بمشاعرهم ويريد أن يسعدهم (!) بالاستقالة لكن سرعان ما اكتشفوا غير ذلك في أغرب خطبة يلقيها وزير دفاع في تاريخ البنتاغون إذ قال: موضوع اليوم هو عن عدو يهدد بالخطر الولايات المتحدة ويخترق دفاعاتها ويضع حياة الرجال والنساء في القوات المسلحة على حافة الهاوية، وهو أشد وأنكى من الاتحاد السوفيتي العدو الذي انتهى، إن عدونا المروّع الذي نعلن من الآن الحرب عليه يقيم بيننا.. وسكت قليلا قبل أن يكمل: إنه بيروقراطية البنتاجون)) هنا بُهت القوم واصابتهم الدهشة ! وقال احد كبار الضباط وهو يروي الواقعة لنعومي كلاين ((شعرنا جميعاً بأننا اعداء الوطن ونحن الذين كنا نظن أننا حماته !.. ترى هل كان رمسفيلد يتجاهل حقيقةً بسيطةً تضمنها الدستور الاميركي تفيد بأن الأمن الوطني واجب الحكومة وليس القطاع الخاص ؟ أم أنه لم يقرأ تاريخ الرئيس (الجنرال) ايزنهاور الذي حذر قبل ستين عاماً من خطورة تدخل تلك الشركات ومن ثم إحكام سيطرتها على المؤسسة العسكرية الاميركية ؟)).
وبعد.. لقد جاءت المصادفة الفاجعة في اليوم التالي في هجمات الحادي عشر من ايلول 2001 التي شملت البنتاغون نفسه حيث قتل 125 ممن فيه واصيب بجراح خطيرة 110 آخرون !وشكلت ((الصدمة)) الذريعة المثالية تحت شعار ((الحرب على الارهاب)) لتسليم ((القطاع الأمني العام)) الى الشركات الخاصة التي كانت تنتظر هذه ((المناسبة)) الذهبية على احر من الجمر ! وما زالت جهود الفريدمانيين Friedmanites مستمرةً، ليس في أميركا وحدها بل في العديد من الدول ذات العلاقة !