بعد خبرة 20 عاما في مكافحة الفقر أما آن لوزارة التخطيط أن تتقاعد؟

في العام 1997 أعلنت وزارة التخطيط عن ما سمته حينها "مشروع وطني استثنائي غير مسبوق لمكافحة الفقر" وأنشأت لذلك وحدة خاصة في الوزارة لمتابعة التنفيذ.
وأعلن عن موازنة المرحلة الأولى ومدتها ثلاث سنوات بقيمة 178 مليون دينار موزعة على الخزينة والقروض والمساعدات، ثم تلتها مراحل وعناوين وبرامج.. وموازنات بالطبع.
كان ذلك إيذانا بعهد جديد في مجال مكافحة الفقر في الأردن تقوده لغاية الآن وزارة التخطيط، وبين يدي حاليا ملف من 104 صفحات كبيرة -صدر حينها عن الوزارة- يغطي السنة الأولى، وقد احتفظت به منذ ذلك الوقت بعد أن وُزّع علينا في أول "احتفال تنموي في هذا المجال، وهو ملف مليء بالجداول والرسومات، ولكن علينا عند قراءته اليوم الانتباه إلى أن امكانات برامج التصميم والعرض والتقديم "فوتوشوب" و "بور بوينت"، لم تكن متطورة كما هي الحال الآن، ولهذا فهو يظهر بشكل كلاسيكي، وقد يلفت انتباه عشاق الصناعات اليدوية! ومن يدري؟ فقد يتشكل لدينا في المستقبل فولكلور مكافحة الفقر، وحينها سنكتشف أن الوزراة كانت فعلا تفكر استراتيجيا.
اليوم تطورت القدرات ويعمل محترفو التصميم على انتاج تقارير يتوفر بعضها ورقيا "هارد وير" بنسخ محدودة، ولكن يمكنك تنزيلها "سوفت وير" عن موقع الوزارة.
20 عاماً وأزيد قليلاً، ولم نسمع إلى الآن أن أحدا في الوزارة سأل: ما الذي جرى فعلا وما هي النتائج الحقيقية؟ وأعرف بالطبع أن الوزارة عقدت منذ سنتين اتفاقيات متابعة لبرامج الفقر، بهدف التقييم وفحص الاستمرارية، غير أن الاتفاقيات وقعت مع الجهات التي قامت بالتنفيذ! ولمن لا يعرف فبرامج مكافحة الفقر تحال من قبل الوزارة كعطاءات، غير أن الجهات التي نفذت عطاءات مكافحة الفقر، هي ذاتها التي تنفذ عطاءات التقييم والمتابعة.
ذات يوم منذ سنوات، سألت في الوزارة إن كان فيها قسم مركزي للمتابعة والتقييم لما تم تنفيذه من أنشطة وبرامج ومشاريع في مجال الفقر؟ فقيل لي: طبعا لدينا قسم لمراقبة الجودة.
لكنني وجدت نفسي في متاهة بين الأبواب والموظفين والموظفات، كل منهم يحيلني إلى آخر أو أخرى، من دون ان أحصل على أي معلومة.
غير أن الإجابة الحقيقية ليست صعبة على الإطلاق، فهي موزعة في الواقع على مئات القرى والتجمعات والأحياء التي طالتها يد مكافحة الفقر، وهير غير مكتوبة، لكنها مرئية ومحسوسة وملموسة من قبل الناس أصحاب العلاقة الذي قيل أنها وضعت لصالحهم.
مشهد يلخص الحالة
حصل ذات مرة أن اصطحب أحد الوزراء فريقا من الإعلاميين إلى قرية "فقوع" في الكرك لحضور يوم تفاعلي مع المجتمع المحلي، وكان من بين الفقرات عرض لمشاريع وزارة التخطيط التي توفر فرص عمل، وتحدث أحدهم فيما تحدث، عن مشروع محددة ومنجرة في القرية توفر 8 فرص عمل من أبناء المجتمع.
بعد أن أنتهى المتحدث من عد المشاريع، خرجت فورا من القاعة الواقعة على الشارع العام، وسألت أول مواطن عن مشروع المحددة والمنجرة، فأجابني مستغرباً: ها هو أمامك على الجهة المقابلة! وبالفعل كان هناك محل تعلوه لوحة كبيرة أنيقة باللغتين الانجليزية والعربية تتحدث عن محددة، وتحمل اسم الجهة الدولية الممولة واسم وزارة التخطيط.
وكان باب المحل مغلقا إغلاقا غير كامل، فقد أبقي حوالي نصف متر من الأسفل مفتوحا، فخفضت جسدي إلى وضعية القرفصة القصوى، ونظرت إلى داخل المحل، فرأيت الجزء السفلي من ساقي رجل، فناديت عليه واستأذنته، ففتح الباب خجلا بعض الشيء، وأفادني حول مشروع المحددة والمنجرة، الذي لم يعد فيه سوى هذا الرجل الذي يقوم بمهمة تشبه الحراسة.
هذا المشهد، وبلا مبالغة، يمثل تماما قصة وزارة التخطيط مع مكافحة الفقر، من ناحية علاقة الورق بالواقع، وهو مشهد متوسط، لأن المشروع حافظ على العنوان والمكان، بينما هناك مشاريع غير موجودة على الأرض إطلاقا (بالمعنى الحرفي للكلمة)، وهناك مشاريع وضع على أبوابها المغلقة رقم تلفون، عند الاتصال به يحضر مكافح الفقر "المناوب"، لكي يعطيك فكرة عن الانجاز، وبالطبع فإن أغلب هذه المشاريع ما تزال في أوراق الوزارة مسجلة بأرقامها وإنجازاتها.
تجربة في التقييم
في العام 2014 تقدمت للوزارة باقتراح لدراسة حالة ميدانية بهدف التعرف على نموذج مما جرى، واخترت ما كان حينها أصعب وأبعد موقع، وهو منطقة الرويشد، التي احتلت المركز الأول في الفقر بنسبة 73 %.
وحملت معي من الوزارة قائمة رسمية بالمشاريع المنفذة، وذهبت هناك وأقمت لمدة 16 يوما في الرويشد، ثم عملت لثلاثة أشهر في إعداد تقرير مفصل ومصور من 40 صفحة، احتوى على قصص فشل مبهرة، وقد اعتقدت ان الوزارة ستشكل خلية أزمة أو طوارئ، وأبديت استعدادي لنقاش التقرير والدفاع عنه، مع أي كان من المنفذين والمخططين، غير أن الوزارة اكتفت مشكورة بتسليمي الأتعاب والنفقات المالية (2900 دينار) ولم توافق على نشر التقرير ولم ينقاشني أحد لا سلبا ولا إيجابا.
قبل ذلك وفي العام 2006، طلبت من الوزارة أن يعطوني نموذجا يعتبرونه قصة نجاح حقيقية، لكي أجري عليه متابعة بحثية/ صحفية مستقلة، حينها ابتسم الموظف ابتسامة من الصنف الملائم لهذه المواقف، وقال إنهم يجرون بأنفسهم ما يلزم.
غير أنه لدي الآن متابعات ميدانية، تحوي ملاحظات وملفات صور التقطتها من مختلف المواقع: من "مريغة" جنوبا التي شتتت وزارة التخطيط سوقها الشعبي الشهير والقديم، ونقلته إلى مكان غير مناسب، ومن ذيبان ومليح في مادبا حيث المشاريع والمجمعات المغلقة، ومن دير الكهف ودير القن والمريجب في البادية الشمالية، حيث مصنع الألبان الكبير المدمر حاليا ومنشار الحجر شبه المدمر (وهناك في الأردن حوالي عشرة مصانع ألبان مماثلة لم يبق لها أثر مولتها الوزارة) ومن كفرنجة وعرجان في عجلون، حيث المشاريع التي لم يبق منها سوى لوحات معدنية على الأبواب، إلى مزرعة الخِرْوِع ومصنع استخراج الخروع في الصحراء الشرقية، الذي لم يبق منه سوى لوحة معدنية على الشارع العام، وهنجر فارغ.. وحارس.
ولا يقتصر الأمر على المواقع البعيدة، فلو تأملنا حالة جرش المجاورة للعاصمة نسبياً، فقد أنفقت عدة ملايين على مشاريع تطوير وتحديث، بعضها لم يكن مباشرة ضمن برامج مكافحة الفقر، وأخذ العنوان التنموي العام، مثل مجمع النقل الذي أقيم شمال المدينة أولا، ولم يستخدمه أحد، وأول أمس زرته فوجدت أنه تحول إلى مستودعات وأغلق أكثر من 25 محلا فيه، وهدمت مظلاته المسقوفة بالقرميد، ثم أقيم مشروع جديد على جنوب المدينة، تقول التقارير الصحفية إنه فاشل وغير مستخدم بشكل فعال، وإن لم يهدم ويلغى للآن؛ إضافة إلى السوق الشعبي الذي تحول فورا إلى خرابة معاصرة بعد أن أنفقت عليه 400 ألف دينار.
الملاحظات لا تنتهي بالفعل، فنحن أمام عشرين عاماً من عمل الوزارة، لقد كان السؤال ضروريا طوال الوقت، غير أنه في ظروف الأزمة الحالية، يكتسب السؤال المزيد من الضرورة، ويغدو عدم طرحه استهتارا خطيرا بالمجتمع والناس والاقتصاد والمال العام.