اقتصاديات باب الأحوال المدنية

لأن مراجع دائرة الأحوال المدنية يكون في العادة محدد الهدف، متوتراً بعض الشيء خشية عدم إكمال مهمته في زيارة واحدة، قلقاً من احتمال الخطأ في أي خطوة، فإنه في العادة لا يلتفت إلى المجتمع المحيط بمبنى الدائرة الذي يعج بالحركة، وإذا التفت فإنه يقتصر اهتمامه على الشخص الذي يتعامل معه، كاتب استدعاءات واحد، أو بائع أقلام واحد.
هذا التقرير سيلتفت إلى مجمل الظاهرة المحيطة بمبنى الأحوال المدنية الرئيسي في العاصمة عمان، وسيتفحصها كمجتمع متكامل.
قبل حوالي سبعة أعوام، انتقلت الإدارة الرئيسية لدائرة الأحوال المدنية إلى مبنى جديد في منطقة "طارق"، على أحد جوانب شارع الشهيد. والمبنى كبير، ومصمم ومجهز لاستقبال مئات وربما ألوف المواطنين في لحظة واحدة، إضافة إلى أنه يضم مكاتب الإدارة. وقد أقيم على مدخله مباشرة جسر مشاة علوي ليسهل انتقال المراجعين بين جانبي الشارع الذي يشهد حركة مرورية عالية.
كل هذا أمكن حسابه وتصميمه مسبقاً، بدرجة نجاح لا تعنينا هنا، غير أن النشاط الدائر في محيط الموقع، كان بانتظار صنف آخر من المخططين الأذكياء من نشطاء القطاع غير الرسمي، أو شبه الرسمي، الذين اعتادوا على طلب رزقهم عند تزاحم الأقدام. ولعل الموقع يشكل نموذجاً حديثاً على المرونة العالية التي يتمتع بها القطاع.
صحيح أن قسماً ملحوظاً وخاصة بالنسبة للعاملين في مجال "كتابة الاستداعاءات" أو خدمات المراجعين من تصوير وترجمة وبيع طوابع، قد انتقلوا من الموقع القديم لدائرة الأحوال في جبل عمان، إلا أن المكان الجديد أدخل الكثير من التعديلات والشروط الجديدة، وهنا أيضا برز القطاع غير الرسمي الذي استطاع بسهولة استيعاب العمران الجديد واستجاب له.
لقد تشكل هنا سوق كامل في خدمة مراجعي الأحوال المدنية، وهم في اللحظة التي يقتربون فيها من المبنى يتحولون إلى صنف خاص من الزبائن، بحكم السرعة والتوتر والرغبة في الانتهاء من المهمة والجهل بمجرياتها وحالة موظفي الدائرة الذين يتعين عليهم الإجابة عن ألوف الأسئلة يوميا.
سواء أكنت قادماً من الشرق أو من الغرب، فإنك ما إن تقترب، ستكون في مرمى عارضي الخدمات النشطاء جداً. هم يلحون عليك أن تسألهم عما تريد، وحتى لو لم تسألهم سوف يعرضون على مسامعك قائمة الخدمات: جواز، هوية، تجديد، شهادة ولادة، طوابع، تصوير، ترجمة، تسجيل ولادة.. وإذا كنت تقود سيارة، فإن خدمة الوقوف تعرض أيضاً.
هذا في حالة كنت قادما إلى الدائرة، أما إذا كنت خارجاً فإن قائمة العروض تتغير: غطاء للهوية، غطاء للجواز، تجليد، توصيل للجسر.
لكن الإحاطة بهذا السوق النشيط تحتاج لبعض التفصيل، ذلك أنك أمام سوق يستوعب أكثر من 150 شخصاً يعلمون على هامش دوام الدائرة، لكن الدائرة لن تستطيع القيام بعملها من دونهم، أو أنها سوف تحتاج لكادر إضافي لتعويض الوقت الذي يختصره هؤلاء العاملون.
الخدمات التي يوفرها السوق:
1 - خدمة مواقف السيارات: تتوفر إلى الغرب من المبنى ساحة كبيرة كما تتوفر في الجهة المقابلة من الشارع ساحة أخرى أصغر حجماً، وقد أقيم في الأولى مباشرة وعلى عجل خدمة "الكراج بأجرة" بدأت بدينار واحد ووصلت الآن إلى دينار ونصف. وبعد سنوات، ونظرا لصعوبة العثور على مواقف مجانية، وبتأثير التواجد المتواصل لرقباء السير الراجلين في الموقع، فقد أقيم كراج آخر في الجهة المقابلة. ويشرف على هذين الكراجَين عاملون عدة.
لكن مديرية الأحوال ذاتها، دخلت على خط المنافسة في "باب الرزق" هذا، فهي توفر خدمة الاصطفاف بأجر، حيث تقوم سنويا بطرح عطاء استثمار ساحة تقع ضمن سور مبنى الدائرة ككراج بالأجرة.
2 - خدمة كتابة الاستدعاءات: ويقدم هذه الخدمة صنفان من العاملين؛ إما عن طريق أفراد، أغلبهم من كبار السن، يضع كل منهم أمامه طاولة صغيرة قابلة للطي، وكرسيين على الأقل، أحدهما للزبون، وعلى مثل هذه الطاولة تقدم خدمة تعبئة النماذج، وبيع الطوابع. أما الصنف الثاني لمقدمي هذه الخدمة، فيضم عددا من الأكشاك التي تقدم خدمة تعبئة النماذج والتصوير (الوثائق والصور الشخصية السريعة) وبيع الطوابع، وخدمة الوساطة للترجمة.
3 - الخدمة من خلال محلات كبيرة: في الشارع الجانبي المجاور لمبنى الدائرة، أقيم مبنى تجاري يضم 13 محلاً، منها ما يقدم الخدمات كافة المذكورة أعلاه بشكل تنظيمي كما يقدم خدمة الترجمة ويبيع بعض الأدوات، وقد كتبت على الأبواب قائمة بالخدمات التفصيلية التي قد يحتاجها مراجع الأحوال المدنية، ومنها خدمات الاتصال مع الضفة الغربية.
4 - خدمة الكافتيريا: التي تقدم من خلال عدد من المحلات المتخصصة؛ حيث توفر المشروبات والمأكولات السريعة والعصائر وغيرها. كما سمحت الدائرة بإنشاء عدد من الكافتيريهات داخل المبنى وفي قاعات انتظار المراجعين، وتنظم ذلك من خلال عطاء يتجدد عرضه بمناقصة سنوية.
5 - خدمة الوقوف "المؤقت" لسيارة واحدة بالمجان أمام المحل ولكن بشرط اعتماد المحل ذاته لإتمام الخدمة المطلوبة، ويستهدف مقدمو هذه الخدمة السيدات وكبار السن القادمين بسياراتهم.
ما هو سر الاستمرارية؟
من المناسب الإشارة إلى أن أسواقاً شبيهة أقل حجما تتوفر أمام كل فرع لدائرة الأحوال، وأمام العديد من الدوائر التي تقدم خدمات مماثلة، كالمحاكم خاصة. وقد شهدت هذه "الأسواق" الخاصة قدرا كبيرا من الاستمرارية رغم الخصومة الظاهرة في العقود الأخيرة بينها وبين الإدارة الرسمية ومن بينها الإدارة المحلية، كأمانة عمان في حالتنا هنا.
الواقع أن الخدمة "الوسيطة" بين المراجعين وبين الإدارة العامة، هي ممارسة قديمة، وكان عمل كاتب الاستدعاءات رسمياً إلى حد كبير، وكان على المواطن أن يمر أولاً ويجهز أوراقه عند كاتب الاستدعاءات قبل الدخول، وكانت الصيغ يدوية متنوعة بحسب مقدرة الكاتب الذي عليه أن يتقن الصياغة بلغة فنية وبمقدمات ومفردات مخاطبة مميزة، وبطقوس خاصة تقنع المراجع بتعقيد المهمة.
كل هذا تقلص مع توفير نماذج مختصرة، يتعين تعبئتها، ولكن كتاب الاستدعاءات الكبار، أكدوا لكاتب هذه السطور، أن دوائر الدولة وهي تصمم هذه النماذج، استعانت في كثير من الحالات بالخبرات التي كونها كتاب الاستدعاءات.
صحيح أن المرور على كاتب الاستدعاءات لم يعد ضرورياً، لكن ما هو قائم اليوم، أنهم يحوزون صورا عن النماذج الرسمية، ويتقنون تبعئتها بلا أخطاء، ويعرفون ما يلزم وما لا يلزم، وما مطلوب فعلاً وما هو مطلوب شكلاً. ويقومون بترجمة المطلوبات من لغة رسمية إلى لغة عامية يفهمها المراجع أو المراجعة بسهولة. وهي أمور يفضلها المراجع إذا كان البديل أن يبدو مرتبكاً وهو يحاول تعبئة النماذج بلا مساعدة.
إنهم يقومون بالعملية الإرشادية كاملة، وقد يحتاطون بطلب العودة في حالة حصول عرقلة ما، لأنهم يعرفون أن الدائرة قد تلح على أمر فرعي حينا، وتتغاضى عنه حيناً آخر.
لا يمكن تصور أن الدائرة يمكنها الاستغناء عن الخدمة التي يقدمها السوق غير الرسمي هذا، لأن معنى ذلك، أن الدائرة سوف تحتاج لزمن عمل إضافي أو أن مستوى الإنجاز سوف يتقلص. إن الأسئلة التي يوجهها المواطنون لمقدمي الخدمة على الأبواب الخارجية لا تنتهي، هذا فضلاً عن أن الموظف الرسمي يقدم إجابة رسمية "مسؤولة"، في حين أن عارض الخدمة على الأبواب يقدم إجابة "عملية" لأنه لا يتحمل مسؤوليتها.
خاض العاملون في هذا السوق مواجهات عدة مع دوريات الأمانة، وفي السنوات الأولى كانت المواجهات قاسية تضمن تجريفاً لكل الموجودات. وفي الواقع فإن بعض العاملين يحوزون رخصاً لممارسة خدمات معينة وبشروط معينة، ولكنها ليست عملية، مما يوقعهم تحت طائلة المخالفة.
وستتفاجأ أن بعض العاملين ورث الصنعة عن الأب أو الجد، وأن هناك علاقات تضامنية حيناً وتنافسية أحياناً، وهناك تبادل خدمات وتحويل زبائن، وقدر من "الشطارة"، والأجور متفاوتة وتعتمد على الفراسة التي تكشف إن كان الزبون "غشيماً" أم منتبهاً. وفي الأثناء يخلقون يوم عمل حيويا جداً يمتد على زمن يحدده يوم عمل رسمي وقور جداً.