أهمية الخبرات التنموية الأهلية.. حالة ‘‘جمعية الجنوب‘‘ في معان

منذ عام 1989 حصل هناك إقرار مركزي (على مستوى الدولة) بوجود مشكلة تنموية في معان، وهي بالشراكة مع المشكلة الأمنية، تتنازعان على المركز الأول في الأهمية عندما تحضر معان والمحافظة إلى النقاش.
ففي حين تتبنى أطراف عديدة في السلطة وخارجها في البلد "النظرة الأمنية"، فإن أطرافا اخرى في السلطة وخارجها أيضا، تتبنى "المدخل التنموي" وفي بعض الأحيان يجري الاعتماد على مزيج من النظرتين.
حصلت المدينة، والمحافظة عموما، على إنفاق مالي عال نسبيا خلال ربع القرن الأخير، وجاء ذلك على أشكال متعددة رسمية حكومية، منظمة أو مرتجلة عند الأزمات، أو على شكل إعفاءات لمستثمرين لدفعهم للتوجه إلى معان، أو من طرف بعض الشركات العاملة في المنطقة، وخاصة "الفوسفات" التي كان يطلب منها رسميا، بين الأزمة والأخرى، المساهمة في تقديم الدعم المالي والتدريب والتوظيف.
لكن أحدا في المدينة وخارجها اليوم لا يجادل في حقيقة ضعف المردود التنموي لهذا الإنفاق الكبير؛ بل أحيانا يكون له أثر سلبي لجهة زيادة نسبة انعدام الثقة بقرارات المركز، أو الاحساس بأن هناك أطرافا خارج المدينة تستفيد من الإنفاق على معان، وخاصة فيما يتصل بإدارات المشاريع الكبرى التي يقيم أعضاؤها خارج المحافظة، في عمان غالبا، ويتلقون أجورا عالية على حساب المشاريع.
مرة أخرى، وكما هو حاصل في كثير من المناطق، فإن التفكير التنموي يجري بعيدا عن واقع المدينة وتجربتها ومتطلباتها الحقيقية، ومن دون تواصل عميق مع الاحتياجات الفعلية، وهو ما يجعل الأفكار والمشاريع تبدأ وهي محاطة بالكثير من التشكيك.
نتناول فيما يلي إحدى تجارب المبادرات التنموية الأهلية، ثم نتتبع باختصار دور التدخلات الرسمية، وهو كما سنرى كان إيجابيا حينا وخاصة في السنوات الأولى، ثم تحول إلى سلبي في بعض الحالات.
قصة جمعية الجنوب
وهي تجربة تنموية محلية نالها قسط كبير من النجاح، وهي زمنيا سابقة لنشوء ما صار يعرف بـ"أزمة معان".
إنها قصة "جمعية الجنوب الخيرية" التي بدأت في الأصل كجمعية لرعاية المعوقين سمعيا العام 1986 وما تزال الخدمة قائمة ولكن الجمعية ككل نمت وتطورت بشكل كبير في الامكانيات وفي مجالات العمل.
بدأت الجمعية العمل العام 1986 في مبنى صغير مكون من غرفتين، ثم جرى عليها توسعات كبرى نسبيا، وهي اليوم تشغل عدة مبان وعيادات للطب النسائي والأنف والأذن والحنجرة، ومدرسة للصم ومشغل لتصنيع الأحجار الكريمة، يوظِّف (المشغل) خريجي المدرسة من الصم، ومدرسة للصفوف الأولى، وتقدم خدمات التوجيه والإرشاد النفسي والتربوي، وتملك الجمعية سيارتين طبيتين مجهزتين كعيادة متنقلة لمعالجة حالات الصم (لا تعملان بسبب عدم توفر كلفة التشغيل) وتقدم الجمعية القروض الدوارة لتمويل احتياجات معينة.
كانت الجمعية في ذروة عملها، تخدم المعاقين سمعيا وحركيا في مدينة معان وفي قرى المحافظة الأخرى، وهي إلى سنوات قليلة مضت، كانت تخدم حوالي 700 حالة موزعين على مختلف المناطق، وكانت تشغل 6 باصات لنقل الطلاب، وقد اضطرت لتقليص العدد إلى 2 ولاقتصار الخدمة على مدينة معان، بسبب صعوبة النقل للقرى البعيدة، بعد تقلص الواردات.
تقدم الجمعية خدمة "القرض الدوار" من خلال صندوق مدعوم بمنحة، وتقدم القروض مقابل اقتطاعات محولة وبلا فائدة، حيث يدفع المستفيد رسم معاملة مقداره 20 دينارا.
ويمول المشروع وحدات طاقة شمسية بالاتفاق مع شركة تقدم الخدمة أخفض من السوق، ويتم التعامل ماليا مع الشركة المنفذة لغايات ضمان الالتزام بالتنفيذ.
كما تمول الجمعية مشاريع الحصاد المائي بما يتناسب مع جغرافيا وجيولوجيا المنطقة: ففي معان والمنطقة المحيطة، يعرف الناس بحكم خبرتهم ما يعرف بـ"البئر النزاز"، (عن طريق الحفر على عمق عدة امتار لتبدأ المياه تنز في قاع البئر)، والبئر الواحد قد يعطي 10 متر مكعب يوميا، لغايات الاستخدام في المزارع والمشاغل الصغيرة ويكلف بحدود 10 آلاف دينار، وهناك متخصصون في تجهيزه، وتقوم الجمعية بتمويل نسبة من التكاليف.
في الجمعية عيادة للأمراض النسائية والتوليد، تديره طبيبة مختصة من بنات المنطقة مقابل 40 % من العائد للجمعية.
وتملك الجمعية مشغلا لتصنيع الأحجار الكريمة، حيث يتم تدريب خريجي مدرسة الصم والإعاقات فيه. وقد أحضرت الجمعية مدربَين (2) من مصر لتدريب تلاميذ معان الصم على العمل.
تُشغّل الجمعية حاليا حوالي 35 موظفا ثلثهم موظفين منتدبين من مؤسسات ودوائر حكومية تُدفع رواتبهم من قبل مؤسساتهم وقد ارتفع عدد الموظفين خلال 3 سنوات من 25 إلى 35.
أما المشروع الرئيسي للجمعية المتمثل بمدرسة الصم والإعاقات الحركية فقد كانت تخدم 700 حالة في المنطقة ككل، اليوم تقلصت امكانيات الجمعية ولم تعد قادرة على تحمل مسؤولياتها.
مباني الجمعية نظيفة ومرتبة لدرجة مفاجئة ومذهلة، رغم ان العاملين يشتغلون في ظروف مالية صعبة، وأحيانا تتأخر رواتبهم، لكنك تلاحظ الضبط والترتيب في كل مكان وفي كل غرفة وفي الساحات.
أنشأت الجمعية مبنيين سكنيين مخصصين لطالبات جامعة الحسين من خارج معان، وذلك بالاتفاق أو التنسيق والتعاقد مع إدارة الجامعة، ويتكون المبنيان من 132 غرفة، ويبلغ مردود الجمعية من إيجار المبنيين حوالي 50 ألف دينار سنوياً، وهي تشكل جزءا مهما من دخل الجمعية.
منذ مطلع العام 2013 بدأت "شركة تطوير معان" بتشغيل مجمعين سكنيين خاصين بها أقامتهما مقابل مقر الجامعة، وهو ما أدى إلى قيام الجامعة بإلغاء العقود مع أصحاب مباني السكن الجامعي من أهالي معان ومن بينهم جمعية الجنوب، التي أفرغ المبنيان العائدان لها، وحرمت بالتالي من الدخل الناتج عنهما.
وبعد سنوات تمكنت الجمعية من تأجير أحد المبنيين، فيما بقي المبنى الثاني فارغا لغاية الآن.
الجدير بالذكر، أن المباني السكنية الجديدة التي انتقل اليها الطلاب ذات كلفة تشغيلية عالية، وتضطر الجامعة للإسهام بتمويل جزء من اجور السكن المرتفعة أصلا، وبالتالي فإن ما حصل في الواقع هو تشغيل سكن الشركة من دون عائد للجامعة، وفي الوقت ذاته حُرم المستثمرون في قطاع الاسكان (من الأهالي والجمعية) من دخل كانوا يتلقونه لسنوات.
من جهة أخرى، كان الاتحاد العام للمعاقين يقدم دعما ماليا للجمعية، وقد تقلص إلى درجة كبيرة: من 70 ألفا إلى 12 ألفا وذلك بعد تحديث التعليمات والقوانين الخاصة بالاتحاد وهو ما أثر على أداء الجمعية وقاد إلى اضطرارها لتقليص نطاق خدماتها على مدينة معان لوحدها دون القرى المحيطة.
ملاحظة ختامية
من الواضح أننا أمام تجربة تنموية مبنية على المبادرة الأهلية والتفاعل مع أوساط واسعة من السكان، ويديرها ويشرف عليها "خبراء حقيقيون" يعرفون مدينتهم ومنطقتهم ويحبونها ويعرفون تفاصيلها ويسكنون فيها، وهي شروط أساسية للعمل التنموي الناجح.
واستطاعت الجميعة أن تتطور ويكبر حجمها ويتسع نطاق خدماتها، بحيث شكّلت اختراقا إيجابيا في العلاقات مع المنطقة المحيطة (مجال خدمة المعوقين في قرى البادية) وهذا بحد ذاته يعد في المنطقة أمرا مهما في جوانب الاندماج والتواصل بين السكان في مناطق شاسعة ممتدة، والمعروف أن محافظة معان تشغل ثلث مساحة المملكة.
لكن؛ بالمقابل كان الأداء الرسمي معيقا لعمل الجمعية في بعض الحالات مثل حالة إلغاء عقود السكن الجامعي معها، وتقليص دعم اتحاد المعوقين، وهو ما قاد إلى تقليص نطاق الخدمات واقتصارها على مدينة معان، وتعطيل عمل عيادة متنقلة حديثة يمكنها توفير خدمات للمعاقين سمعيا إلى القرى البعيدة حيث هم في قراهم.
مرة أخرى نحن أمام تجربة في ضعف التجاوب مع المبادرات الأهلية، والاكتفاء بمشاريع صممت عن بعد اعتمادا على خبرات ضعيفة الصلة بالواقع الذي تخطط له.
وبالطبع، فإن حالة الجمعية ليست الاستثناء الوحيد، ذلك أن حقيقة التخطيط عن بعد، قد تكون العنصر المشترك في فشل جهود التنمية في معان وغيرها.