الطلب على الصناعة التحويلية: دفع التنمية الصناعية الشاملة والمستدامة
تعد اليونيدو تقريرا تنمويا سنويا حول القضايا الحيوية على الساحة العالمية، وركز تقريرها الجديد على دفع التنمية الصناعية الشاملة والمستدامة في العالم، فتناول أسس تحريك عجلة الحلقة التنموية المثمرة للصناعة، وسبُل تحقيق الدخل من الطلب المحلي والأجنبي، وجعل التنوع بمتناول الجميع.
وأشار إلى أهمية زيادة كفاءة الإنتاج في القطاعات الصناعية الجديدة ودوره في تقليص الأسعار، واتاحة الفرص للمنتجين لتغطية الطلب المحلي على السلع المنتجة، وتصدير المنتجات إلى الأسواق الخارجية لتحريك عجلة النمو الاقتصادي، وزيادة الدخل للدولة وللعاملين بالصناعة.
وخلص التقرير إلى أن الاقتصادات الصناعية هي الاقتصادات الأكثر اعتمادا عموما على الطلب الأجنبي، في حين أن البلدان الأقل نموا تُظهر اعتمادا أكبر على الطلب المحلي. إذ أن انطلاق الصناعة للأسواق الخارجية وزيادة التبادل التجاري الدولي له انعكاسات يجابية على الصناعة التحويلية في الدولة، وعلى القوة الشرائية للعاملين بها، وخاصة للعاملين بالصناعة ذاتها. فينبغي أن ينظر إلى الأجور على أنها ليست مجرد تكلفة إنتاج على المصانع ومؤسسات الأعمال، بل هي محرك أساسي للطلب الكلي في الاقتصاد. وعليه، فلا بد من أن تتوافر القدرات الصناعية المتنامية لكي يتمكن المنتجون من تلبية الطلب المتنامي الداخلي والخارجي، وهذا يعني بالضرورة، أن على البلدان اتخاذ خطوات فعّالة وعملية لتعزيز القوة الشرائية لمواطنيها، ويأتي ذلك بداية من توفير ظروف العمل المناسبة والبيئة الصحية لمؤسسات الأعمال، وتحفيز العاملين، وحسن إدارة العملية الانتاجية، ومتابعة تطوير أساليب الانتاج، وهندسته، وحساب الكميات باستمرار، وتقدير التكاليف لكل مرحلة انتاجية للتعرّف إلى كفاءة العمل الانتاجي، وتطويره باستمرار.
لذلك، فإن النظر إلى عملية الانتاج ككل متكامل تتفاعل فيها عناصر الانتاج المادية، والبشرية، والبيئية الاجتماعية لمؤسسة الأعمال كوحدة متكاملة ومتوازنة يؤثر فيها كل عنصر على الآخر، وفقا للنظريات الاقتصادية الحديثة لدالة الانتاج.
دور الحكومات والخطوات الممكن اتخاذها
تؤدي الحكومة، كما يرى التقرير، أربعة أدوار أساسية لأهداف شاملة ومستدامة للتصنيع وهي: التنظيم، والوساطة، والتعزيز الفعال للابتكار الصناعي، وشراء للسلع للقطاع العام (الانفاق العام)، إذ أن السياسات الصناعية المرتكزة على الطلب قابلة للتعديل حتى تلائم أدوار الحكومة والنتائج المتوخاة من التنمية.
وقد تتدخل الحكومة في النظام الاقتصادي مباشرة لدعمه وتنمية دوره، أو لتعزيز الشراكات فيما بين القطاعات الثلاثة: القطاع العام ، والقطاع الخاص، وقطاع مؤسسات المجتمع المدني، أو تعمل بفعالية على تعزز دور القطاع الخاص في تحفيز التصنيع وتطويره. ولا شكّ بأن من أهم الأدوار التي يمكن لعبها على المستوى الاقتصادي-الاجتماعي هو توجيه الدخل نحو شرائح المجتمع الأكثر فقرا، وجعل التنوع بمتناول الجميع.
كيفية الحفاظ على انطلاقة التنمية الصناعية
من الأهمية التأكيد على أن انطلاق التنمية الصناعية يبدأ من حجم حيوي من الطلب على السلع التامة الصنع، لأن ذلك يشمل توليد الدخل، وتنويع الطلب، وتعزيز الاستهلاك عل نطاق واسع. ومن المعروف أن الطلب يبدأ من السلع الضرورية إلى السلع الأكثر رفاهية وتطورا جنبا إلى جنب مع نمو الدخل، ففي حال توافر القدرات الصناعية الكافية يمكن أن تشكل عملية التنويع محركا قويا للتنمية الصناعية ببروز قطاعات صناعية جديدة. وعليه، فإنّ:
- تعزيز ونمو الصناعات التحويلية يؤدي إلى زيادة كفاءة الانتاج، وبالتالي انخفاض الأسعار (في حال تحقيق الأرباح العادية في ظلّ سوق المنافسة الكاملة)؛ وهذا يفسح المجال للانتشار الواسع للسلع التامة الصنع في الأسواق.
- زيادة كفاءة الانتاج تساهم في تحسين القوة الشرائية للمستهلكين؛ مما يؤدي إلى توليد دخل جديد قابل للانفاق. وهذا يحافظ على استمرار دوران حلقة الدخل في الاقتصاد.
- تبرز قطاعات صناعية وتتلاشى أخرى وفقا لطبيعة مدار الحلقات الانتاجية والتبادلية، ويتم توليد مصادر جديدة لكل من المستهلكين، والعاملين، ورواد الأعمال.
- دراسة الصناعة التحويلية من جانب الطلب تقدّم فهما أعمق لنمو القطاع، ويفسح التفاعل فيما بين العرض والطلب. فالمجال مفتوح أمام انتشار سلع جديدة، أفضل وأرخص ثمنا بالنسبة إلى المستهلكين، فالحلقة المثمرة للتنمية الصناعية من توليد الدخل، وتنويع الطلب، وتعزيز الاستهلاك على نطاق واسع تبقى متجددة ومتواصلة النمو.
- تكمن إحدى السمات البارزة التي تميز السلع الدارجة التامة الصنع في انتشارها الواسع النطاق في أوساط الأسر والمناطق في العالم. فما يهم المستهلكون ليس حصة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي، وإنما استحداث سلع جديدة تامة الصنع تصبح أفضل وأرخص ثمنا مع مرور الوقت.
ولكون الصناعة التحويلية تمثل الجزء الأكبر من نفقات الاستهلاك. فكلما ازداد الدخل، بات الطلب متنوعا، وابتعد عن السلع والخدمات الضرورية باتجاه سلع وخدمات أخرى: أي يتجه الى السلع الكمالية والسلع الفارهة.
وعلى اعتبار أن السلع من الكماليات أو الضروريات تختلف باختلاف مستويات متوسط دخل الفرد في الدولة، فانه ومع مرور الوقت يزداد الطلب حين تصبح السلع الكمالية التي لم تكن متاحة سوى لعدد قليل من الأسر سلعا ضرورية يستهلكها الجميع؛ فبعد مستوى معين، يميل الطلب إلى أن يكون مشبعا مما يؤدي هذا إلى قيادة دفة التغيير الهيكلي. وبفضل تقدّم الإنتاجية والمنافسة والابتكار تميل هذه السلع إلى أن تكون أرخص ثمنا، وبالتالي أكثر استهلاكا وتداولا.
لا بد من التركيز على الطلب المحلي
هذا التوجه الحيوي، ينبغي أن يكون هم الحكومة ومسعاها الجاد لتحقيقه، وهذا يتطلب رسم سياسات استثمارية قادرة على تفعيل نجاح الحلقة المثمرة واستدامتها؛ فتوليد الدخل الحقيقي في الاقتصاد يحتاج إلى توزيعه بشكل عادل (وهنا نقصد الدخل المتولد من عناصر الانتاج وهي: العمل وعائده الأجر، ورأس المال وعائده الفائدة، والأرض والعقار وعائدهما الريع، والإدارة وعائدها الربح)، وهذا الشرط هو أساس للوصول إلى الحلقة المثمرة للتنمية.
ولذلك، فإنه لايجاد الأطر والحلقات التنموية المثمرة، لا بدّ من توفير التالي:
- امتلاك مستوى حيوي من القدرات الصناعية لكي يتمكن المنتجون المحليون من تلبية طلب المستهلكين المتزايد على السلع المتطورة على الصعيدين الوطني والعالمي.
- توزيع المكاسب بشكل شمولي يراعي بيئة العاملين، والمجتمع من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
- تعزيز الدخل القابل للتصّرف حتى تمكّن أفراد المجتمع من تلبية طلباتهم من السلع والخدمات المنتجة محليا، وهذا ما سيعزز انتاج الصناعة التحويلية ويطورها.
- زيادة الإنتاجية للصناعة ذو أهمية كبيرة في تمكين المستهلكين من شراء السلع والخدمات المحلية الصنع بأسعار أقل، وبالتالي يزيد عمليا من القدرة الشرائية للعملة الوطنية، ويدفع بالدخل الحقيقي إلى الأعلى، وهذا يعني فسح المجال أمام تعزيز الطلب على نطاق واسع؛ مما يتيح للمنتجين فرصا جديدة أكبر للانتاج.
- لا شكّ بأن القدرة على اقتناء السلع وخاصة المعمرة منها يخفف من وطأة الفقر، ولتحسّن رفاهية المستهلكين، كما أن توفير المنتجات الغذائية الجديدة ذات القيمة تساهم في تحقيق الأمن الغذائي.
- إنّ الطلب العالمي يكون في الوقت نفسه مصدرا قويا لتوليد الدخل، إذ أن توليد الدخل يتوقف على من يلبي الطلب النهائي، سواء المحلي أو الخارجي، وهذا يستلزم الوصول إلى الأسواق الخارجية. وبقراءة واقع الاقتصادات العالمية، فإن الاقتصادات الصناعية تعدّ الأكثر اعتمادا عموماً على الطلب الأجنبي، في حين أن أقل البلدان النامية تُظهر اعتمادا أكبر على الطلب المحلي. لذلك، فإن الانعكاسات الإيجابية التي يحملها التصنيع القائم على التبادلات التجارية، تكون سببا في تقدم الدول وتطورها اقتصاديا واجتماعيا.
أهمية تنامي الأجور والرواتب
حقيقة، لا تعني الأجور مجرّد تكلفة إنتاج بل تعدّ محركا أساسيا للطلب الكلي. ولذلك يتعيّن على الدولة اتخاذ خطوات لتعزيز القوة الشرائية للدخل المتولد في الاقتصاد، كما ان التمتع بظروف عمل جيدة وببيئة صحية، يعتبر أساسا في وضع خطة للتصنيع تقوم في جوهرها على التعزيز الاقتصادي- الاجتماعية للمواطنين. ولا بد من أن تتوافر القدرات الصناعية لكي يتمكن المنتجون من تلبية الطلب المتنامي، فمنذ العقد السابع من القرن العشرين، يستهلك العالم الموارد الطبيعية بسرعة أكبر مما تنتجها الأرض، وهذا يجعل من الضرورة متابعة توفير حاجات البشرية من السلع والخدمات الجديدة.