ثقافة الكدح مقابل ثقافة الفقر.. قصة ثلاثة أجيال من أسرة واحدة

بقدر كبير من التسرع، يُستخدم في خطاب التنمية والفقر في بلدنا مفهومُ "ثقافة الفقر"، وذلك في سياق موقف يتبنى تحميل الفقراء المسؤولية (أو جانباً كبيرا من المسؤولية) عن فقرهم. فمفهوم "ثقافة الفقر" ينطلق أساساً من فكرة تقول بأن الفقراء يدخلون في دائرة مغلقة بسبب استسلامهم واستكانتهم وسلبيتهم تجاه أوضاعهم، بل أحياناً بسبب نفورهم وامتناعهم عن التفاعل مع الجهود الرسمية الموجهة لمكافحة فقرهم.
قلتُ إن هذا الاستخدام للمفهوم "متسرع" لأن أحدا من مستخدميه لم يقدم دليلاً فعليا ميدانياً على الظاهرة. إن مفهوم "ثقافة الفقر" مفهوم جذاب ومريح ويعطي الفاعلين في ميدان مكافحة الفقر قدرا من الاسترخاء، لا سيما إذا كانت نتائج عملهم متواضعة، فالمفهوم جاهز ليزيح المسؤولية نحو الفقراء أنفسهم.
ما هي "ثقافة الفقر"
خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت، تابع باحث شهير اسمه (اوسكار لويس)، سيرة تفصيلية لخمس أسر مكيسكية فقيرة، وسجل آليات خلق الفقر الذاتية في بيئة حضرية (مدينية).
لقد توصل الباحث إلى مفهوم "ثقافة الفقر" بعد أن لاحظ وجود آليات مشتركة بين فقراء الحضر يتفاعلون من خلالها مع ظروف الاقتصاد الحديث، ومع الوقت يتشكل لديهم (الفقراء) استنتاجات محددة مسبقاً للتكيف مع هذه الظروف، تتميز بالسلبية والتحلل من الضوابط الاجتماعية، والميل لعدم الاندماج مع مؤسسات المجتمع الرسمية (صحة وتعليم وثقافة ومشاركة سياسية وغيرها)، ويشرع الفقراء في إدارة حياتهم يوما بيوم من دون أي تخطيط. وسوف ينتقل هذا النمط من جيل إلى آخر، ويتحول إلى "أسلوب تنشئة" في مجتمع فرعي أو ثقافة فرعية يبنونها حولهم، وباختصار يدخل الفقراء في تلك الدائرة المسماة "ثقافة الفقر" التي تتحول على المستوى الوطني إلى مأزق عام. ظهر المفهوم في أدبيات التنمية في أواخر ستينيات القرن العشرين، ثم تعرض لنقد شديد، ثم أجرى مبتكره الكثيرَ من المراجعات له، وتوصل إلى أن "عوامل الإدامة الذاتية للفقر أقل أهمية مقارنة مع البيئة الرئيسية للمجتمع ككل".
هل توجد ثقافة فقر في الأردن؟
لكن المهم بالنسبة لنا هنا، أن احدا لم يقدم لنا أية شواهد على "ثقافة فقر" أو "مجتمع فقر" مغلق في الأردن.
في الواقع، وبحكم عوامل كثيرة اجتماعية وثقافية خاصة بمجتمعنا، فإنه حتى الآن يصعب الحديث عن ظاهرة انغلاق كلية لمجموعة بشرية أو لموقع جغرافي معين. هناك بعض البؤر الصغيرة في العاصمة (وفي مدينة الزرقاء) في طور التشكل، لكن انغلاقها نسبي، وهي غير مقطوعة الصلة بمحيطها.
على العموم، حتى الآن، فإن كل فئات المجتمع تعترف وتتعامل مع مؤسسات التعليم والصحة، وهما القطاعان الأساسيان للتنمية في أي بلد، وهناك اعتراف بالسلطات الأمنية والقضائية، وهناك مستوى من المشاركة السياسية (مع أن أصحابها لا يسمونها كذلك) فهم يقومون بها كواجب اجتماعي او قرابي... إلخ.
هذه المواصفات لفقراء بلدنا ينبغي أن نتعامل معها كعنصر "إيجابي" بالنسبة للمخطط أو للمنفذ المسؤول، فهي تعني أن بلدنا يخلو من "المجاهل" الاجتماعية الثقافية. وتلك مشكلة كبرى في المجتمعات المعقدة التي دخلت في مآزق تنموية (في بعض الدول كثيفة السكان التي شهدت موجات تحضر وهجرة كثيفة إلى المدن، بالأحرى أطراف المدن).
علينا أن ننتبه إلى خريطة توزع الفقر جغرافيا في الأردن تشير إلى تركزه في المحافظات بعيدا عن العاصمة (تتواجد أغلب جيوب الفقر في مناطق البادية والأغوار). ولكن ذلك لا يعكس الكثافة العددية للفقراء التي تتواجد بالطبع في المدن بسبب الكثافة السكانية عموماً. ولكن فقر المدن في بلدنا لا يزال حتى هذه اللحظة "تحت نظر" المسؤول الذي يرغب بالنظر! ولم يتحول فقر المدن بعد إلى ظاهرة "مجهولة"، كما لم يتحول إلى ثقافة مغلقة. مع الإشارة إلى أن هذه "الميزة" ليست ثابتة، فهي قابلة للتلاشي، بل هناك مؤشرات على بدء تلاشيها في بعض البؤر كما أشرت منذ قليل.
أتابع منذ عقدين من السنين، أساليب الفقراء الأردنيين في مواجهة فقرهم، أو ما يمكن تسميته "الاستراتيجيات الذاتية" للفقراء في مكافحة فقرهم. وهناك في كل المناطق، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، نماذج لا تحصى، في الجد والمثابرة، لم تجد طريقها إلى العرض كقصص "نجاح" في المؤتمرات والفنادق، بل إن اصحابها لا ينظرون إلى حياتهم كقصص نجاح، ولا يستخدمون الكلمة أصلاً، فهي عندهم أقدار عليهم مواجهتها، وامتحانات في الدنيا عليهم خوضها، وواجبات تجاه أسرهم عليهم تأديتها، ثم هي سعي ورضى بالمقسوم ومواجهة جَوْر الزمان...إلخ.
ثلاثة أجيال لأسرة واحدة
في السطور التالية نناقش أنموذجا، أو حالة، لثقافة مضادة لثقافة الفقر، اقترحت في العنوان تسميتها "ثقافة الكدح"، أي ثقافة العمل والسعي والكسب ولكن بمشقة وتعب!
وسوف أشرك القارئ في قصة تعرفي على شخوص هذه الحالة:
فقد عرفت (عدنان) ابن الخمسين عاماً الآن، عندما كان شابا في الثلاثين من عمره عام 1997، ودونت قصته مع إخوانه الثلاثة العاملين حينها في "البسطات" في وسط عمان.
عدنان هو الأخ الثاني ويصغره شقيقان، توفي أحدهما منذ ثلاث سنوات. كان لوالدهم محل في "سوق اليمانية" وهو اقدم سوق للملابس المستعملة "البالة" في وسط عمان، تأسس عام 1943 كسوق للفقراء، ولا يزال قائماً. أي أن الوالد كان يعمل في قطاع قريب.
توفي الوالد مبكرا، عام 1980، كان أكبر الإخوة في الثالثة عشرة من عمره، ولم يتمكن من أن يحل مكان أبيه. ودخلت الأسرة في مسيرة من الكدح المتواصل لغاية الآن.
عمل عدنان في صنعة لحام الأكسجين، ولأسباب صحية اضطر لتركها، ونزل إلى سوق البسطات مع أخيه الأكبر في عام 1990 عندما كان في الثالثة والعشرين، وفي عام 1997 كان الإخوة الأربعة يعملون معاً على بسطات.
ومما سجلته على لسان عدنان قبل 20 عاماً ما يلي (وهو موثق في بحث): "نعرف أن سمعة المهنة سيئة، وسمعة الشارع سيئة، لكننا نقوم بعملنا بشرف ونعامل الناس "كويّس"، لي الآن بسطة خاصة مستقلة عن إخوتي، وأرى أن مصيري قد تحدد نهائيا في سوق البسطات".
كنت طيلة العشرين عاماً الماضية أشاهد عدنان وأتوقف معه قليلاً من دون تفاصيل، إلى يوم الخميس الماضي 30 تشرين الثاني، استأذنته بالاستفسار عما جرى خلال هذه المدة، وبالتحديد ماذا حصل للجيل الجديد من الأسرة، أي أولاده واولاد أشقائه.
الأخ الأكبر، لا يزال على البسطة إلى جانب عدنان، لقد صمدا في السوق، الأخ الثالث رحل إلى سحاب وتمكن من فتح محل خاص للبقالة، والأخ الرابع توفي بمرض، وله ابنان، اشتغلا على بسطة "كل شيء بنصف دينار" ثم وسعا عملهما وافتتحا محلا بالتخصص نفسه "كل شيء بنصف دينار".
لعدنان ابن واحد وثلاث بنات تزوجن، لكنه لم يرغب بأن يدخل الابن مجال البسطات، لهذا دفعه للعمل في كراج دهان وتجليس سيارات. يقول عدنان: إن سوق البسطات أصبح صعباً الآن، وأخلاقيات السوق تغيرت، والملاحقة والعقوبات أصبحت أشد، ويصعب علينا أن نقبل دخول أبنائنا إليه. لقد أمضيت 27 سنة من عمري على هذه البسطة، واعتدت عليها وعلى جيراني وعلى التجار وعلى مفتشي الأمانة والشرطة.
يقول عدنان إنه وإخوانه سعوا لأن يواصل أبناؤهم التعليم، لكنهم لم يوفقوا، تركوا المدارس واتجهوا للعمل، ولكنهم حرصوا على تربيتهم جيدا وإبعادهم عن "المشاكل".
كما تلاحظون نحن بصدد حالة أسرة لا تزال تواصل الكدح لثلاثة أجيال، فالجد يعمل في البالة، والأبناء على بسطات، والأحفاد في مجالات شبيهة. لم يستسلموا لحالهم، لم يقاطعوا المؤسسات الرسمية او ينغلقوا عنها (المدارس، والعيادات الصحية، وباقي السلطات)، بالنتيجة هناك درجة من الاستقرار النسبي، اجتماعيا وثقافياً. هناك بعض الأثر لظروف الأسرة على الأبناء، ولكنها لم تتحول إلى "ثقافة فقر" مدانة، بقدر ما أصبحت "ثقافة كدح" محترمة.