ما يطلبه السائقون.. زبائن من نوع خاص تلزمهم طرق بيع خاصة
منذ مطلع العام 2014 لا يتوقف النقاش حول أكشاك بيع سلع السائقين (قهوة وشاي وأعشاب وحليب ودخان.. الخ). وبعض النقاش رافقته حملات وملاحقات ووعود وقرارات وتراجع عن قرارات، وحتى تفصيلة مثل التلويح بالصواني كأسلوب ترويج وإعلان طالها الكثير من التعليقات والكلام والقرارات، وقد ضمت إلى قائمة "السلوك غير الحضاري" الشهيرة.
أحاول في السطور التالية معالجة الأمر من زاوية أن الظاهرة تشكل ما يشبه سوقا فرعيا هامشيا، يمكن اعتباره شراكة بين القطاعين الرسمي وغير الرسمي، فهو يمارس علنا في أماكن معلنة مرخصة في كثير من الحالات وغير مرخصة في حالات أخرى. ولكن طبيعة السوق وزبائنه تتطلب قدرا من "المرونة"! فالعاملون في هذه الأكشاك مضطرون لتوسيع نطاق عملهم بضعة أمتار، تماما كما تفعل المنشآت الأخرى الكبيرة (مع حفظ الألقاب الاقتصادية) التي "تزحف" إلى الشوارع والساحات وتحصل على التسهيلات، وتضغط للحصول على استثناءات... إلخ. إذ من الناحية التنموية والإنسانية والحقوقية، فإننا بصدد مسألة واحدة، ولا فرق إلا فيما يتعلق بالحجوم!
بالطبع، لا يعني ذلك دعوة منا لأي شكل من أشكال تجاوز القوانين والأنظمة، غير أن زاوية النظر هذه لوحدها لا تكفي لنقاش ما يتعلق بهذا السوق وأشباهه من نشاطات تقوم على هامش النشاط الاقتصادي الرسمي بشقيه العام والخاص.
زبون من نوع خاص
من منظور استهلاكي، فإن السائق، أي الزبون الرئيسي في هذا السوق، وخاصة من فئة سائقي سيارات الأجرة والسرفيس والباصات، الذين يمضي الواحد منهم ساعات نهاره وجزءا من ساعات ليله على رأس عمله سائقا خلف مقود سيارته، هو مستهلك من نوع خاص.. إن وقته ليس ملكا له، فهو لا يستطيع التوقف كيفما يريد ووقتما يريد، وعليه أن يراعي مصلحة الركاب وظروفهم، واحتمال وجود شرطي سير في المكان.
لتلبية رغبات وطلبات هؤلاء السائقين، تتكاثر على الطرق أكشاك وبسطات وعربات تعرض السلع التي يحتاجونها، وخاصة القهوة والشاي والمشروبات الباردة والماء والدخان وبعض المأكولات الخفيفة كالشوكلاتة والبسكويت وما شابه.
هنا تجري الأمور بسلاسة وسرعة، فما أن يتوقف السائق أمام أحد هذه المنشآت الصغيرة حتى يتم الاستفسار عن الطلب وتلبيته خلال لحظات.
ينقسم الزبائن إلى أصناف، منهم الزبون معروف المزاج مسبقا، وذلك بحكم طول العلاقة معه، ومثل هذا الزبون "المخلص"، ما إن يتوقف أمام الكشك حتى يسرع العامل حاملا إليه طلبه. فهذا سائق يشرب الشاي مع النعناع، وآخر يشرب القهوة سادة، وآخر يريدها حلوة.. والأول يدخن هذا الصنف وزميله يدخن صنفا آخر.
في أغلب الأكشاك تجد ثلاث دِلال كبيرة، الأولى فيها قهوة سادة، والثانية فيها قهوة محلاة كثيرة السكر، والثالثة فيها ماء ساخن، وبقربهما إناء فيه المزيد من السكر، وبضع عُلب من الحليب السائل، وباكيتات الشاي "ميداليات".. وكومة من النعناع أو الميرمية.
هذا الوضع يتيح تشكيل عدة خيارات حسب الطلب، وإلى جانب هذه المشروبات شبه الجاهزة، هناك مصدر للنار؛ غاز أو كاز يما يتيح تلبية الطلب الخاص من القهوة "غَلِيْ" لبعض الزبائن الذين لديهم متسع من الوقت للانتظار.
لغة إشارة خاصة
طرفا العلاقة؛ أي الباعة والزبائن، كوّنا مع الزمن لغة إشارة يفهمانها جيدا، وعن بعد؛ فضَمُّ اليد مع رفع الإبهام للأعلى، يعني أن القهوة "مزبوط" أي حلوة كثيرا، بينما قَلْب الإبهام للأسفل يعني ان القهوة المطلوبة "سادة" بلا سكر، أما تحريك اليد أفقيا وهي مفتوحة فيعني القهوة "وَسَط"، فيما يكون للشاي حركة خاصة وذلك بضم الإبهام إلى السبابة ثم تحريك اليد للأعلى والأسفل، في إشارة إلى "الميدالية" أي عبوة الشاي.
هذه الإشارات التي تهدف لتسريع العمل، وهو غاية الطرفين، لم تعجب الجهات المعنية التي حاولت وقف تقديم الخدمة للسائق من وضعية الوقوف المؤقت، وقد استجابت الأكشاك ووضعت يافطات كبيرة تقول "الخدمة ذاتية.. بناء على طلب الأمانة"، ولكن هذا الإجراء لم يكن عمليا وخاصة بالنظر لصعوبة العثور على موقف قريب، مع ما يرافق ذلك من احتجاج متوقع للركاب، وبالتدريج سحبت هذه اليافطات، وعاد العاملون إلى أسلوب ترويجهم وخدمتهم الذي "طوروه" مع الزمن.
الدنيا أرزاق
(أبو أحمد) الذي التقيناه عند كشكه المرخّص، يقول إنه يفتح في أيام الصيف حوالي 20 ساعة في اليوم، لأن موقعه هو على خط سير رئيسي حيث لا تتوقف الحركة فيه على مدار الساعة، ولكن ساعات الدوام تقل في الشتاء.
لقد نظّم أبو أحمد علاقته بزبائنه وكوّن معهم علاقة جيدة، لكنه يشكو من بعض الزبائن المتطفلين، سواء ممن يشترون بالدَّين ويَعِدون بالتسديد، ثم لا يعودون، وأحيانا لا يترددون عن تكرار السلوك نفسه، كما يشكو مِنْ بعض المصانع القريبة التي تنفث روائحها بشكل لا يطاق أحيانا.
يعرف أبو أحمد زملاءه في الصنعة في المنطقة القريبة، ويقول إن "الدنيا أرزاق"، وحتى غير المرخصين من الزملاء، فإن العلاقة معهم عادية، وهم يتعاونون معا، ويلبون الحاجات الملحة لبعضهم بعضا، خاصة إذا حصل نقص في الأدوات والمواد.
أطرف ما شاهدناه في كشك أبو أحمد، هو وجود أحد الزبائن من أصدقائه الشخصيين يعمل في مصنع قريب للميلامين، يقوم بتزويده بما يتوفر في المصنع من صوان مُكَسّرة أو قطع ميلامين فيها خلل مصنعي من تلك التي يقرر المصنع إتلافها، فيحضرها هذا الزبون إلى أبو أحمد الذي يستعملها في توصيل الطلبات إلى المحلات القريبة كصينية "غير مرتجعة"، لأن توصيل الطلبات (وفق شروط العمل في هذا الكشك) ليست مهمة أبو احمد، بل يقوم بها المشتري نفسه، وتسهيلا للأمر، فإن الصينية غير مرتجعة ومن دون أن تشكل تكلفة إضافية على الكشك.
كما تلاحظون، وكما هي العادة في هذه القطاعات الشعبية، هناك درجة عالية من الرّشاد في استخدام الموارد المالية والبشرية.