شبح الحرب الأهلية يُقلق لبنان
على السطح تزهو لبنان بجمال شواطئها وجبالها، تعبق كما دائماً بحب أهلها للحياة؛ فتبدو الأحداث في سورية والاشتباكات التي وقعت في عروس الشمال قبل أقل من أسبوع في عالم آخر بعيد جداً عن أيام وأمسيات مطاعم بيروت ومقاهيها.
على السطح فقط تبدو الأمور طبيعية؛ أما في الواقع فالقلق يملأ النفوس من انعكاس الصراع في سورية على شكل حرب أهلية ثانية، تفرّق هذه المرة بين شيعة وسنة من المسلمين، وحلفاء كل من الفريقين من المسيحيين.
الصدامات المسلحة في الشمال، والتي امتدت لوهلة قصيرة ولكن مميتة إلى الطريق الجديدة في بيروت، تُنذر بأن الأزمة قابلة للتفجير إذا لم تلجأ الأطراف إلى حوار وطني يحل المسائل العالقة التي أضحت مزمنة، قبل أن يحاول أحد الطرفين أو كلاهما حسمها بالسلاح.
المسألة في حيثياتها معقدة، ولكن من الواضح أن الوضع السوري عمّق الشق بين الفريقين السياسيين في لبنان، أي 14 آذار، وهم تيار المستقبل وحلفاؤه الكتائب والقوات اللبنانية ، و8 آذار وهم حزب الله وأمل وحليفهما التيار الحر.
الجديد في الموضوع أن الطابع الطائفي للمنافسة بين تيار المستقبل وحزب الله أصبح الوجه الأكثر وضوحاً وهيمنة على الشارعين السني والشيعي تباعاً، مما يثير المخاوف من مجابهات طائفية مسلحة تمتد إلى كل أرجاء لبنان وربوعه.
لكن المسألة تبقى في جوهرها سياسية؛ باختصار فقد وجد حزب المستقبل وحلفاؤه بدعم من أطراف خليجية، فرصة سانحة في انشغال النظام السوري بوضعه الداخلي، وخسارة حزب الله جزءاً من وهجه العربي نتيجة دعمه لحكومة دمشق، لتحقيق مكاسب سياسية تؤدي إلى نزع سلاح الحزب أو تحجيمه.
أي أن إشعال الجبهة الطرابلسية لم يكن صدفة بل خطوة محسوبة في جميع جوانبها؛ فإيقاد الصراع الموجود دائما بين أهل جبل محسن، معقل العلويين المدعوم من النظام السوري، وبين درب التبانة السني الذي أصبح معقلاً للسلفيين، المدعومين من حزب المستقبل وأطراف خليجية، يخدم أهداف إضعاف كل من النظام السوري وحزب الله.
إضافة إلى ذلك فإن الاشتباكات في طرابلس تأتي ضمن محاولات فرض هيمنة قوة طائفية سنية على الانتفاضة الشعبية السورية وتفريغها من أي محتوى اقتصادي اجتماعي بما يصب في مصلحة أطراف إقليمية ودولية.
لبنانياً ، يعتقد بعض المحللين، أن حزب المستقبل ومن ورائه قوى خليجية نجح ، ولكن في حدود، إلى خلق قوى مسلحة في مقابل سلاح حزب الله، لكنه نجاح يدخل في سياق القدرة على جر حزب الله إلى اشتباكات مسلحة، وبالتالي توريطه في نزاع طائفي، وهي لعبة خطيرة سترتد على الجميع في حال تطورها إلى حرب أهلية.
لكن الهدف المباشر، كما قال لي وزير سابق شغل مسؤولية مهمة ، هو إفشال حكومة نجيب ميقاتي الحالية المحسوبة سياسياً على فريق 8آذار، وإسقاطها، وهو هدف يتناسق مع زيادة عزلة النظام السوري.
أطراف فريق 14 آذار، تعتقد أن خسارة النظام السوري لفئات سياسية لبنانية يسارية ووطنية انحازت إلى الثورة السورية،أحدث خرقا بين صفوف هذه الشخصيات والفئات العلمانية التي وقفت في جانب حزب الله تاريخيا باعتباره حزب المقاومة وقوة الردع الأساسية ضد إسرائيل دفاعاً عن الأراضي اللبنانية.
لكن حسابات هذه الأطراف غير دقيقة، إذ أن النقد لموقف حزب الله من الوضع السوري لا يعني أنه خسر موقعه،من حيث إنه الطرف الأكثر قدرةً واستعداداً لردع ومجابهة أية محاولة إسرائيلية عدوانية ضد لبنان ، أي أن التحالفات في لبنان وإن أثّر عليها الوضع السوري لم تتغير إلى حد يتيح لقوى 14 آذار نزع سلاح حزب الله بدعوى ضمان سيطرة الدولة على جميع مناطق لبنان.
حزب الله وبذكاء قائده السيد حسن نصر الله ، حاول في مطلع الأسبوع قلب الطاولة ، من خلال الدعوة إلى استئناف الحوار الوطني وطرح التمثيل النسبي للتيارات اللبنانية كمدخل إلى إيجاد حل سياسي توافقي للأزمة التي تزداد نارها اشتعالاً بعد كل اشتباك مسلح.
فالأمور تغيرت، وحزب الله ما زال يستطيع فرض سيطرته العسكرية على الأرض كما فعل في 7 أيار 2008، عندما حاولت الحكومة حينها حرمانه من شبكة الاتصال اللاسلكية،الضرورية في مجابهته مع إسرائيل، لكن هذه المرة ستكون عملية مكلفة، إذ أن أية محاولة مماثلة ستدخله في صراع طائفي ستستغله أطراف إقليمية، وتجرده ، أو على أقل تقدير، تضعف مكانته السياسية، كحركة سياسية مٌقاومة في لبنان والعالم العربي.
مبادرة حزب الله وجدت بعض الترحيب في الصحافة اللبنانية، خاصة أن نصر الله نجح في وضع الأصبع على الجرح عندما دعا إلى معالجة المسألة الاقتصادية الاجتماعية لبؤر التوتر في لبنان، إذ إن الفقر والبطالة في كل من جبل محسن ودرب التبانة جعلا سكانهما عرضة للسيطرة من الفئات المحلية الإقليمية المتصارعة، فالانضمام إلى المليشيات المسلحة هو مصدر الرزق المتوفر للمحرومين من أبنائهما وهم الأغلبية.
لكن كتلة 14 آذار تحلّق في واد مختلف، فهي قد تكون مستعدة للجلوس إلى طاولة الحوار بهدف السعي إلى مقايضة ما تراه بقاء أو نزع سلاح الشمال "السني" بسلاح الجنوب "الشيعي"، وتجريد 8 آذار من موقع الثلث المعطل في الحكومة.وهي مطالب حاول نصر الله استباقها باقتراحه معادلة التمثيل النسبي للأطراف السياسية، الطائفية في جوهرها.
في المحصلة النهائية الوضع مرشح للتصعيد، ولا حل لا يعتمد الطائفي كمرجع يلوح في الأفق، والثورة على الطائفية، ليست إلا حلماً يخيّم عليه ويعيقه شبح حرب أهلية.