قصة الشاعر الذي أحرق أهله قصائده ورفضوا تشييع جنازته!
فهد العسكر، الشاعر والمثقف الذي جرعته الحياة كأسها المر مرتين عندما عاش عزلة اجتماعية مرهقة فرضت عليه لجنوحه عن الأعراف السائدة وعدم إذعانه للموروث حتى اتهم بالزندقة والكفر البواح، والمرة الثانية حين تلاشى الضوء من عينيه وكف بصره، فحاصرته العزلة والعتمة إلى أن رحل، ويصادف الشهر الحالي الذكرى الـ67 لرحيله.
مولده
اختلف في تاريخ مولده في عدد من المراجع، وذلك لأن عرب الجزيرة العربية كانوا يؤرخون ميلاد أبنائهم وفقاً للحوادث الصحية والمناخية والسياسية، إلا أن الأقرب وفقاً لبعض المراجع والروايات كان عام 1917. وينحدر العسكر من أسرة نجدية قدمت إلى الكويت من الرياض، والمؤكد في ولادته أنه أطلق صرخته الأولى في "سكة عنزة" بالكويت ببيت اشتراه والده صالح العسكر الذي عمل محصلاً في الجمارك بعد أن كان إماماً لمسجد "الفهد".
صراع التدين والانفتاح
نشأ العسكر في بيئة متدينة وفي منزل يتمسك بالعادات والتقاليد، وأب يحرص على أبنائه مرافقته إلى المسجد. تعلم في سن مبكرة القرآن الكريم والتجويد في "الكتاتيب"، ثم أكمل تعليمه في المدرسة "المباركية" عام 1922 التي تعد أول مدرسة نظامية في تاريخ الكويت، حيث درس فيها الحساب واللغة العربية والأدب، فأصبح مولعاً بدواوين الشعراء الفحول كالمتنبي وأبي تمام والفرزدق. وساهمت هذه المرحلة في بنائه اللغوي جيداً حتى بدأ يكتب الشعر ويؤسس لنفسه خطاً مختلفاً عن مجايليه في اللغة والأسلوب بإشراف من معلمه محمود شوقي. روحه الوثابة للمعرفة كانت المحرض الغريزي له للانغماس في كتب الأديان والفلسفة والتحولات الاجتماعية والسياسية، وكان زبوناً دائماً لمكتبة "ابن رويّخ" التي تعير الكتب بمقابل رمزي. هذا الانفتاح بدأ يظهر جلياً على قصائده التي أخذت في الانعتاق شيئاً فشيئاً من قيود المجتمع. ونتيجة لذلك بدأ العسكر في الاصطدام مع الناس الذين استنكروا أغراض شعره ومعانيها، ولم يرضخ لتلك النظرة الدونية المحيطة به أو يتورع عن هتك أستار الحسان وهو يسقيهن من أقداح شعره تحت ضوء القمر. وإذا ما أخذنا العسكر كحالة لغوية بعيداً عن الدخول إلى نفق المعيار الديني والأخلاقي الذي يجب أن تخضع فيه القصيدة لدى البعض للتفتيش قبل عبوره، فإن العسكر شاعر مطبوع بديع، له لغة عميقة السبك والحبك، وقصيدته متّقدة ذات شخصية قوية متماسكة تتسم بالتمرد والتفرد، أجاد الوصف والتأوه والشكوى.
تكفيره وعزلته
يقول عبدالله زكريا الأنصاري في كتابه عن "فهد العسكر.. حياته وشعره": "كان رحمه الله رقيق الإحساس حاد الشعور شديد العاطفة، وقد مر بأطوار مختلفة في حياته فمن تدين قوي إلى تحرر منطلق من جميع القيود التي تتطلبها العادات". وتابع في موضع آخر: "أخذ يضمن شعره بعض آرائه في الدين والحياة، ويأتي بآراء وأفكار تحررية، لم يعهدها الناس عنده، إلى أن فقد التدين تماماً.. وعند ذلك رماه الناس بالكفر والجحود، ولم يكن كافراً ولا جاحداً، ورموه أيضاً بالإلحاد والفسق والفجور، ولم يكن ملحداً ولا فاسقاً ولا فاجراً واستمر في هذا الوضع إلى أن نبذه أهله".
هذه العزلة القسرية التي عاشها الشاعر فهد العسكر بعد أن فاح من شعره وفكره نزعة وجودية كما يدعي خصومه، آلمته نفسياً فعاقر "الصهباء" أو كما يسميها "بنت النخيل" وتغزل بها في قصائده وزادت من تبقى من الأصحاب نفوراً منه. ويقول في مطلع أشهر قصائده التي تغنى بها المطرب شادي الخليج عام 1963:
كُفِّي الملام وعلليني
الشكُّ أودى باليقين
وتناهبت كبدي الشجون
فمن مجيري من شجوني؟
وأنا السجين بعقر داري
فاسمعي شكوى السجين
المرض والعتمة
وأكمل الباقي من عمره في غرفة مظلمة في إحدى البنايات القريبة من "سوق واجف" وأخذت صحته في التدهور، وبدأ يضعف بصره شيئاً فشيئاً والشيء بالشيء يذكر، فقد أصيب والده بالعمى في آخر أيامه. هذه العيشة البائسة دفعت شقيقه خالد للعطف عليه وأخذه إلى بيته وأقام عنده 3 أشهر قبل أن تزداد حالته سوءاً وينقل إلى المستشفى الأميري، وهناك أمضى ما يزيد عن شهرين فتك فيهما "الدرن" برئتيه وأرخت وفاته بيوم 15 آب/أغسطس من عام 1951.
لا تصلوا عليه.. وأحرقوا شعره
وبعد وفاته نقل جثمان الشاعر #فهد_العسكر للصلاة عليه في مسجد "المديرس"، وهناك كان الأمر مفزعاً من الناس حيث يروي الأنصاري في كتابه: "أفاد السيد عثمان عيسى العصفور (إمام المسجد) بأنه هو الذي صلى عليه في مسجد المديرس.. أما الذين صلوا عليه فلم يزد عددهم على خمسة، وحملوه بعد الصلاة إلى المقبرة العامة في غياب تام لذويه وأقاربه وأصحابه".
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ففزع أقاربه إلى أشعاره وأحرقوها حتى تمحى سيرته ويطويها النسيان. ولولا احتفاظ الأصدقاء ببعض قصائده ما تبقى لنا شيء من نتاجه الأدبي. كما خلدت الدراما قصة الشاعر فهد العسكر في مسلسل "الرحلة والرحيل" الذي حمل اسمه وتم إنتاجه عام 1979 من بطولة أحمد الصالح، علي المفيدي، خالد العبيد، منصور المنصور وآخرين، وكان من تأليف مصطفى بهجت وإخراج كاظم القلاف، إضافة إلى عدد من الكتب والأطروحات التي تناولت شاعريته والشقاء الذي كبّله جسداً ولم يكبل حمائم الحب واللهفة بداخله، وأصدرت الكويت عام 2009 طوابع تذكارية تحمل صورته.