القُدس، مِلحُ، وسُكّر، وتوابل، وأزقة، وحنين

هو شعر لنزار قباني، غُنيّ بصوت أم كلثوم، يقول: “عشرون عاماً، وأنا أبحث عن أرض وعن هويّة”. كان ذلك في الذكرى العشرين للنكبة، وفي هذه الأيام نحتفل بالذكرى الخامسة والأربعين للنكسة، وأحبّ، هنا، أن أنشر جزءاً من مقدمة كتابي المقبل، احتفالاً بالقدس، حبيبتي التي غادرتها في مثل هذا الأسبوع، قبل خمس وأربعين سنة.

تقول المقدّمة:

لم ألتفت إلى الوراء، حين غادرت القدس.

لم أفعل مثل أبي عبد الله الصغير، بعد أن سلّم مفاتيح غرناطة، فصار رمز مهزلة تاريخية، ولم أفعل مثل زوجة لوط حين تطلّعت خلفها، فاستحالت عموداً من الملح، فذلك الطفل، الصبي، لم يكن ليعي أنّ مدينته ستسقط بعد قليل، وأيضاً، فقد كانت هناك مُغامرة، هي أوّل مهام عمري بأن أقود قائد الشاحنة التي تحمل متاع البيت، من مكان هو مسقط رأسي، وحنيني الآتي، المزمن، إلى مكان سيكون مسقط قلبي، ومكمن متعبي.

لم أبك، أو حتّى أُدمع، فلم أكن أعرف مجاهيل العُمر الآتية، ولا سبب الرحيل المفاجئ، فقد تملّكتني دهشة الذهاب إلى مكان أحبّه، يعيش فيه كلّ أقاربي، ولو عاد بي العُمر أكثر من خمسة وأربعين عاماً لوقفت أمام والدي، وأعلنتُ رفضي الخروج، ولكنه هو أيضاً لم يكن يعرف أنه يذهب إلى المجهول، وسيغادر برغبته مدينة أحبها، ولن يعود إليها هي: القُدس، كما غادر رغماً عن أنفه، وأنف ضمير البشرية، مدينته التي عشقها هي يافا.

كُنتُ سأقول: لا، وذلك ترف لم أملكه، ولا يُمكن أن أملكه الآن بأثر رجعي، فالقدس التي تعبق روائح توابلها وبخوراتها أنفي كلّ ما مشيت في سوق عتيق، ما زالت تسكنني، وقد سكنتُ الكثير غيرها، الكثير الكثير.

كُنّا نُثرثر، حين ظنّ صديقي أنّه يُقدّم لي رقماً قياسياً في ترحاله بين المدن، وبيوتها، فقال إنه سكن كذا وعشرين بيتاً، ونام على عشرات الأسرة، ولهذا فهو رحّالة أبدي. خاب ظنّه لمّا أخذت في العدّ، وعندما وصلت إلى الثلاثين بيتاً رفع العلم الأبيض، واستسلم. كُنتُ أعدّ: ثلاثة بيوت في القدس، سبعة في عمّان، ستة عشر في القاهرة، أربعة في دبي، وهنا قال غلبتني.

وأخذتني حالة الترحال في الذكريات، فذهبت إلى أبعد من البيوت، وعبثاً بدأت في عدّ الأسرّة التي نمت عليها، فكان الأمر أشبه بعدّ النجوم في ليلة صافية على شاطئ البحر الميت. أتطلع إلى حياتي فأراها تنقلاً وإرتحالات: مدن وأماكن وبيوت وفنادق، ولعلّ هذه الدائرة النفسية المفتوحة على التشتت، أرادت أن تُغلق بوجودي في دبين، هذه الغابة الآسرة ألأخاذة الساحرة، التي حققت لي قليلاً من العزلة، وكثيراً من الإستقرار.

وتلك أكثر من قصّة، ،أقلّ من رواية.

فلم أعش، في حياتي، سنوات استقرار متصلة، بمعنى أن يكون بيتي الذي ولدت به هو بيتي الذي سأموت فيه. ذلك ترف يعرفه أبناء المدن التاريخية الكبيرة، والمجتمعات المستقرة، وبالتأكيد، فهو مفقود بالنسبة لواحد مثلي عاش طفولته يستمع إلى قصص الخروج من يافا، وشهد فيها أيضاً خروجه من القدس.

فهي القُدس، إذن، البداية؟

ولكن، كيف يكون المرء سعيداً بالهجرة من القدس؟ ولكنّني كنت أطير من الفرح، وأنا أجلس إلى جانب قائد الشاحنة التي حملت أثاث بيتنا متوجهة من وادي الجوز المقدسي إلى جبل اللويبدة العمّاني: من بيتنا في القدس، إلى بيتنا في عمان.

كنت في الحادية عشرة من عمري إلاّ قليلاً، وكانت عمان تحمل في ذهني نقطة العودة للإلتقاء في بيت واحد مع والدي، ومع العائلة الكبيرة أيضاً، كان ابراهيم تركنا قبل ذلك بثلاثة أشهر للعمل في عمان بعد أن أغلقت صحيفة “فلسطين” التي عمل فيها في يافا والقدس، ومثّلت حتى رحيله له بيته الدائم الضياع، وفجأة هاتفنا من عمان ليلقي علينا خبر الرحيل المحتوم إلى عمان، ووصلنا صباحاً مع شاحنة حملتني مع أثاثنا، وهو ووالدتي وأختي في سيارة أجرة، واتفق مع السائق على مكان لقاء على مشارف عمان.

لا أتذكّر أنني تطلعت ورائي إلى مشهد القدس الذي كنت سأراه لحظتها لآخر مرة عربياً، كما يكون في الأفلام الدرامية المحزنة، ولكنّ الدراما الحقيقية كانت بعد ذلك بأقلّ من سنة، حين بكيت وأنا أدخل إلى مشارف القدس، ومن بعيد بدت قبّة الصخرة وكأنها تبوح بأنها لم تعد لي، وأن الآتي لن يكون أبداً كما الفائت، وأن طفولتي انتهت مبكّرة.

القدس رحلت يوم الإثنين الأسود، وكان رحيلنا منها يوم الجمعة،، قبل ثلاثة أيام من جريمة الجرائم، ولست أدري هل هو حظ عاثر أن لا أكون هناك حينها لتظلّ هويتي المقدسية الرسمية قائمة مدى الحياة، أم أن الحظ خدمني فأعفاني من مشهد الجنود الإسرائيليين يقتحمون بيتي، في غفلتي وغياب الزمن،.

في يوم أردت تجديد جواز سفري، فذهبت إلى دائرة الأحوال المدنية ليستقبلني هناك مديرها، ويسهّل عليّ الإجراءات. عاد إليه الموظف المعني بالملف، فبدا المدير وكأنه قد فوجئ، وسألني: هل أنت مواليد عمان؟ أجبته: لا، فأنا مولود في القدس. ردّ: هكذا تقول شهادة الميلاد، ولكنّ ملفّك يفيد بأنك مواليد عمّان، وكذلك جواز سفرك المنتهي، فماذا تريد أن نكتب؟ كان سؤاله خبيثاً، ويحمل مضامين الإنتماء في وقت إرتبكت فيه الهويات، فأجبته: القدس طبعاً، فأنا ولدت فيها! القصّة أن إجراءات أول جواز سفر لي قام بها زميل لوالدي، وظنّ أنني من مواليد عمان، فكتبً ذلك على الإستمارة، وذلك ما كان، ولسنوات طويلة، إلى أن تمّ التصويب.

وفي يوم قلت في لقاء تلفزيوني: القدس مسقط رأسي، وعمان مسقط قلبي، فزعل مني الكثيرون، من هنا وهناك، ولكنّ كنت صادقاً مع نفسي، فهذا هو واقع الحال تماماً، وتلك قصّة أخرى!

وفي يوم، كنت وصلت إلى واشنطن، في دعوة من الخارجية الأميركية، لقضاء شهر بين الولايات والتعرف على التجارب الرائدة في عمل المنظمات غير الحكومية، وفوجئت بالملف الذي يعرّفني على غيري من المشاركين من إحدى عشرة دولة بأنني فلان بن فلان، أردني من مواليد القدس في إسرائيل. كان الأمر غير محتمل، وغير قابل للسكوت، وعلى الرغم من أن الساعة تجاوزت الحادية عشرة مساء، إتّصلت بالمسؤولة المذكور إسمها على هاتف الطوارئ، وأوصلت لها غضبي الواضح من الأمر. وهدّدتها بالعودة إلى عمان إذا تمّ تعريفي بهذه الصورة الوقحة في الاجتماع الأول عند التاسعة صباحاً.

ردّت بصوت نائم بارد: وماذا تريد أن نكتب، فأنت أردني، ومولود في القدس التي هي في إسرائيل. لم تكن جوديث تُقدّر أو حتى تعرف، ربما، أن الأمر أكبر من جهلها، وجهل الإجراءات الروتينية، وأن هذا الآتي من بلاد دخلت مرحلة سلام مزعوم مع إسرائيل، لا يمكن أن يتنازل حتى عن الشكليات. صرخت: حين ولدت في القدس كانت من المملكة الأردنية الهاشمية، وإذا كنت لا تعرفين، ووزارة خارجيتك هذا الموضوع فهذه مشكلتكم، ولن تكون مشكلتي، وإذا كنت لا تعرفين ولا وزارة خارجيتك تعرف أن الموقف الأميركي نفسه لا يعترف بضمّ القدس لكذا إسرائيل، وقلت كلمة وقحة وقاسية، فهذه مأساة وكارثة، وسأعود إلى عمان صباحاً، وأكتب عن الموضوع. بدا واضحاً أن جوديث فوجئت بموقفي القاسي، وباعتبارها دبلوماسية قالت: سأتحقق عن الموضوع، وأعاود الإتصال بك. “

عادت فعلاً، قبل أن تمضي نصف الساعة، فأبلغتني إعتذارها عن الموقف المؤسف غير المقصود، وأن التصويب سيكون صباحاً واضحاً، وهذا ما تمّ فعلاً، فقد تمّ تعريفي بعد سحب الأوراق، بأنني أردني من مواليد القدس/ الأردن. فرحت، وظننت أنني حررت القدس، ولو في ذهني فقط، ولكن جاء من يوقظني من حلمي القصير، ووهمي الناقص: تال كورمان، اليهودية الإسرائيلية: أهلها مهاجرون ولكنها لا تعرف غير إسرائيل وطناً، مديرة لمنظمة غير حكومية تعتني بحقوق النساء، دون تمييز بين يهود وعرب، وتلك قصّة، من قصص، ستُروى...