" لقد قتلناه يا غبي " .. هكذا اغتلنا المهندس عياش

(أشهر وأخطر عمليات الاغتيال التي نفذها الشاباك الإسرائيلي)


سطوع نجم عياش المغمور ومرحلة المطاردة في الضفة

 

"ألوو يحيى"، فتح الأب الخط مع ابنه.

بينما في الطرف الآخر من الخط الهاتفي ساد صمت ثقيل وغامض.

الأب حاول مجدداً: "يحيى؟ يحيى؟"

انقطع صوت يحيى، وبعدها أصدر انقطاع خط الهاتف صفيراً مزعجاً ومتواصلاً.

حدث هذا يوم الجمعة ٥ -١-١٩٩٦، في الساعة ٩:٠٥.

الأب يدعى عبد اللطيف عياش، يقيم في قرية رفات شمال الضفة، والهدف من الاتصال أنه كان يريد أن يهنئ ابنه المحبوب بولادة حفيده الجديد الذي ولد قبلها بيومين فقط.

الجد الفخور والذي لم يرَ ابنه الذي تسلل خفية إلى قطاع غزة منذ أشهر، أصيب بخيبة أمل لأنه لم يتمكن من تهنئة ابنه المطارد بمولوده الجديد.

يحيى عياش كان أحد أخطر المطلوبين الذين عرفتهم دولة إسرائيل ممن خرجتهم حركة حماس، وهو يعتبر المسؤول المباشر عن سلسلة من العمليات الاستشهادية في المدن الإسرائيلية، والتي أدت إلى مقتل ٨٢ إسرائيلياً.

في ١٩ أيلول ١٩٩٤ فجر استشهادي نفسه في باص في تل أبيب، في هذا الانفجار الذي وقع على بعد أمتار من شارع ديزنجوف قتل ٢٢ إسرائيلياً، وأصيب أكثر من ١٠٠ آخرين.

بعد ثلاثة أيام فقط من الحادث جمع رئيس الوزراء إسحاق رابين في مكتبه في تل أبيب رؤساء أجهزة الأمن، ووضع على جدول الأعمال هدفاً واحداً ووحيداً وهو: كيفية مواجهة عمليات حماس الاستشهادية!

رؤساء أجهزة الأمن وقادة الشاباك أطلعوا رابين على المواد المستخدمة في التفجيرات، وقالوا له إنها تشير إلى بصمات المهندس.

(المهندس) هو اللقب الذي عرف به خبير المتفجرات في حركة حماس، وهو ذاته يحيى عياش.

عياش كان يصنع المواد المتفجرة التي استخدمت في تنفيذ العمليات الاستشهادية في العفولة والخضيرة، بالإضافة إلى كونه المسؤول عن تهريب استشهاديين داخل إسرائيل وعلى أجسادهم أحزمة ناسفة، لمضاعفة عدد القتلى والقدرة التدميرية التي تخلفها هذه العمليات.

الشاباك قدم لرابين معلومات تفصيلية عن من يكون يحيى عياش.

جاء في التقرير الذي استمع رابين لكل كلمه فيه باهتمام أن عياش من مواليد العام ١٩٦٦، وأنه أنهى دراسته الثانوية بتفوق، وأكمل تعليمه الجامعي في تخصص الهندسة في جامعة بيرزيت، وأن أحداث الانتفاضة الأولى أعاقت قدرته على استكماله لتعليمه الجامعي، وعندما فكر في السفر وتوجه بطلب إذن خروج للأردن رفض الشاباك طلبه.

عياش الذي أصيب بخيبة أمل من الرفض الإسرائيلي توجه لتخصص آخر وهو (الإرهاب).

في بداية العام ١٩٩٢ جند عياش للخلية العسكرية الأولى لكتائب الشهيد عز الدين القسام في الضفة الغربية، وهناك أخرج موهبته النادرة ومعرفته في إعداد وتجهيز عبوات ناسفة من مواد بسيطة ومتوفرة في كل مكان.

في عامه الأول تورط عياش في محاولة تفجير سيارة في مدينة بيح تكفا، لكن ألقي القبض عليها قبل أن تصل إلى هدفها.

خلايا حماس في الضفة بدأت بعد هذه المحاولة تسمع لأول مرة باسم يحيى عياش وعن قدرته في تصنيع المتفجرات، ومعها أيضاً وصل اسمه لقادة الشاباك الذين وضعوه على رأس قائمة أخطر المطلوبين، وبدأوا في ملاحقته.

رئيس جهاز الشاباك يعقوب بيري يقول إن عائلة عياش عائلة ريفية فقيرة، الوالد رجل صامت ومنطوٍ، بخلاف الأم الصدامية ذات الشخصية القوية، والتي اعتادت أن تشتم إسرائيل بمناسبة ومن دون مناسبة، وأنها هي التي أورثت يحيى هذا الحقد على إسرائيل.

راكم عياش خبرة كبيرة في تصنيع الأحزمة الناسفة، واستطاع أن يطور عبوات ذات قدرة تفجيرية عالية زود بها الاستشهاديين الذين كان يجهزهم لتنفيذ عمليات داخل إسرائيل. لم يكن عياش يكتفي بالجانب التقني لإنجاح عملياته، بل بالجانب الكاريزماتي والجذاب في شخصيته التي مكنته من إقناع الاستشهاديين للخروج والتضحية بأنفسهم وتنفيذ عمليات استشهادية، وكان أيضاً يعلمهم كيف يوقعون أكبر عدد ممكن من القتلى.

معظم الاستشهاديين كانوا ممن ينتمون إلى الطبقات الفقيرة، وكان حلمهم الأكبر أن يصبحوا شهداء والفوز بالجنة.

رابين كان يستمع باهتمام للتقارير، وكان يمطر قادة أجهزة الأمن بالأسئلة عن عياش دون أن يترك السيجارة المشتعلة من يده من شدة العصبية والانفعال أمام ما كان يسمعه من قادة أمنه.

توقف رابين عن الأسئلة ليسود الاجتماع جو ثقيل من الصمت، ممزوج بشعور بالإحباط جراء الفشل المتكرر في إلقاء القبض على المهندس.

فجأة قال رابين لبيري رئيس الشاباك: أريدك أن تحضر لي عياش.

أعين قادة الأجهزة توجهت نحو بيري الذي كان يعرف جيداً أن هذه المهمة صعبة جداً، وأن كل رؤساء جهازه سيضطرون إلى ترك كل شيء والتفرغ للإمساك بالمطارد الذي نجح، ليس في الإفلات من أجهزة الأمن فقط، بل وتضليلهم والتسبب في إهدارهم الكثير من الجهد والموارد، لدرجة أصبح فيها كل جندي وضابط في الجيش، وكل مسؤول في الضفة من مسؤولي وضباط جهاز الشاباك ممن يخدمون في الضفة الغربية لا يسير إلا وهو يحمل صورة لعياش في جيبه، دون أن يتمكنوا من الإمساك به.

عرف عياش كيف يتخفى وكيف يتملص من متعقبيه الكثر.

كل ليلة كان يبيت في مكان مختلف، ومعظم الليالي كان ينام في مغر وبيوت مهجورة وفي الأحراش والحقول النائية، كان مقلّاً جداً وشديد الحذر في التعامل مع أجهزة الاتصال، بينما لا يعرف عنه مساعدوه إلا القليل، في المقابل كان يتلقى المساعدة من السكان المحليين الذي نظروا إليه بإعجاب.

مرة تلو الأخرى استطاع عياش أن يفلت من المداهمات التي كان يقوم بها الجيش للإمساك به، والتي استخدم فيها خيرة وحداته الخاصة وأكثرها تدريباً، والتي كانت تستند إلى معلومات استخباراتية دقيقة كادت إحداها أن تنجح في القبض عليه عندما اكتشف الجنود أن فراشه لا يزال ساخناً، وأنه لم يغادر سوى منذ دقائق بفضل الحس الأمني الحاد الذي تمتع به.

في أواسط العام ١٩٩٥ شعر عياش أن الحبل يقترب من عنقه، فاختفت آثاره فجأة من الضفة ليتبين أنه هرب إلى قطاع غزة على متن شاحنة خضار، وأنه يقيم في بلدة بيت لاهيا والتحق بحركة حماس في القطاع، واستطاع أن يجتمع مع الشاب محمد ضيف الذي سيتحول إلى تلميذه المميز بكل ما له علاقة بالإرهاب.

غزة لم تكن تحت سيطرة إسرائيل الأمنية، وهذا سهل على عياش الاختباء، وبينما واصل عياش العمل من مخبئه في غزة بحرية، أصبحت مهمة الشباك في إلقاء القبض عليه أصعب بكثير.

 

 

كيف وصل الشاباك إلى عياش في غزة؟

بماذا هدد رابين عرفات؟ وأي مقترح حمل رئيس الشاباك لدحلان

 

في آذار ١٩٩٥ أنهى يعقوف بيري مهمته كرئيس لجهاز الشاباك، ولكنه لا يزال يشعر إلى اليوم أن الفشل الذي سيحمله معه دوماً هو الفشل في الإمساك بيحيى عياش.

مكان بيري عين رابين كرمي جيلون رئيساً للشاباك، والذي أدرك أن ثقل مسؤولية إلقاء القبض على المهندس وقع على كاهله.

في كل جلسة أسبوعية بينه وبين رئيس الوزراء تردد على مسامعه السؤال عن آخر التطورات في ملاحقة عياش، وإن كان هناك أي تقدم.

 

"هل وصلتم إلى معلومات جديدة؟"

وإن كان لا يزال في الضفة، أم أنه نجح في الفرار إلى غزة؟

رابين أراد نتائج فورية، وأراد أكثر من أي شيء اغتيال المهندس، وفي كل مرة كان يتلقى نفس الجواب، وأن عياش لا زال حراً لم يستطع أن يخفي خيبة أمله.

 

"منذ توليت مهمتي الجديدة" يقول جيلون "قررت أن أدير عملية الملاحقة بنفسي، كنت أنام مع عياش وأفيق من أجل عياش، التفجيرات الكبيرة التي وقف خلفها جعلتني أنمي حاسة خاصة تجاهه، لا أعرف إن كنت أكرهه، لكنني أعلم جيداً أن علي أن أمسك به قبل أن يقتل المزيد من الإسرائيليين الذين سيعلق دمهم في رقبتي، لقد خصصنا مجموعة كاملة في الشاباك ممن لم يفعلوا أي شيء سوى الانشغال بهذا الشخص".

 

جراء شعوره بالعجز توجه جيلون لعرفات الذي كان يسيطر على غزة، وقال له: يحيى عياش في منطقتك وأنا أريده.

 

عرفات مثل دور الساذج، وقال: حقاً! لم أكن أعرف، هذا دعني أفحص الأمر.

 

بعد ثلاثة أيام عاد جيلون للقاء عرفات الذي قال له: أجريت فحصاً وتبين أن عياش في السودان، نعم في السودان.

 

رئيس الشاباك الذي كان يعلم علم اليقين أن عياش في غزة وأن عرفات يكذب عليه، نقل لرابين رد عرفات.

 

رابين طار إلى إيريز واجتمع بعرفات، وقال له بغضب: أنا أعرف أنه عندك، وإذا لم تسلمني إياه سأعتبر كافة الاتفاقيات بيننا لاغية، وسأفرض الحصار على غزة.

 

عرفات لم يتأثر، وكرر ما قاله لرئيس الشاباك بأن عياش في السودان.

 

عياش تحول إلى بطل في نظر الجمهور الفلسطيني، ولم يتوقف عن تصنيع عبوات ومواد متفجرة للاستشهاديين، بينما الشاباك بدأ يشعر باليأس واكتفى أن يغادر المسرح ولم يعد يتمسك بمطلب الإمساك به، وهذا الاقتراح حمل إلى دحلان الذي كان يرأس جهاز أمن في غزة، لكنه ورفضه.

 

جيلون قال: لم يكن يهمني أن يعتقله عرفات أم يرحله من غزة إلى ليبيا أو ميامي، المهم أن نضمن أنه لن يلمس المواد المتفجرة التي يفجرها بيننا، فهو يعتبر في نظرنا العدو الأخطر في تاريخ حربنا مع الإرهاب.

لم يبق أمام الشاباك سوى خيار واحد: التخلص من عياش بأنفسهم.

 

المهندس أدرك أن إسرائيل تطارده وتفرض عليه حصاراً شاملاً، لذا فقد اتخذ احتياطات أمنية مشدده: استبدل شقق التخفي، امتنع عن استخدام الهاتف، ولم يثق في إنسان باستثناء اثنين من مقربيه، اللذين تحولا إلى صلته الوحيدة مع العالم الخارجي.

 

بالمقابل قام الشاباك أيضاً بتكثيف جهوده وزيادة الضغط، لدرجه أن عملاءه في غزة جندوا جميعهم لهذه المهمة.

حرب أدمغة حقيقية دارت بين الطرفين، إنه شيء أشبه بلعبة شطرنج على الحياة أو الموت.

 

المعلومة التي كادت أن توقع به، والتي قادت لحملة مدروسة بأدق التفاصيل، انتهت إلى الفشل بعد أن نجح في الإفلات مرة أخرى.

 

الاختراق

 

مكالمات عياش مع زوجته وتواطؤ الشباك في تهريبها إلى غزة

 

الاختراق الحقيقي الذي أوصل الشاباك للمهندس لم يأتِ من غزة، بل بعيداً عنها، وتحديداً من بيته في رافات.

 

على مدى أشهر تنصت الشاباك على مكالمات عائلة عياش في قرية رافات، وتبين أنه اتصل أكثر من مرة وتحدث مع زوجته ووالديه، ولكن، وبما أنه عرف أن التلفون مراقب، فإن المكالمة لم تستغرق وقتاً، وأراد منها أن يطمئن عنهم فقط.

 

من المكالمات التي سجلها الشاباك تبين مدى اشتياق عياش لزوجته وابنه الصغير.

 

الشاباك اعتبرها من أكثر المكالمات روتينية ولا جدوى لها، إلى أن لمعت الفكرة في ذهن أحد الضباط:

إذا كان عياش مشتاق لزوجته وابنه، لماذا لا نمكنه من الاجتماع بهم؟ عندما تكون زوجته في غزة فلا بد أن يجتمع بها، قال الضابط.

جيلون أحب الفكرة وقرر إخراجها إلى حيز التنفيذ.

 

بهدف دفع زوجة عياش إلى الهرب إلى غزة، اعتقل الشاباك والدته، والتي اعتبرت الشخصية القوية والأكثر حيوية التي تدير العائلة.

الهدف من الاعتقال كان الفصل بين الأم والزوجة وإخافتها، ودفعها للتفكير بالهرب إلى مكان اختباء زوجها.

اعتقال الأم أربك الزوجة، وفي المكالمة القصيرة التي دارت بينهما وعد عياش زوجته الخائفة أن يهتم بأمرها.

 

من ناحيته اعتبر الشاباك أن الزوجة وقعت في المصيدة، وأن حماس ستحاول تهريبها مع ابنها إلى القطاع، لكن هذه مهمة ليست سهلة على الإطلاق لأن الطريق بين غزة والضفة كانت مليئة بالحواجز، لهذا فقد استغرقت العملية أربعة شهور متواصلة حتى نجحت حماس في تهريب الزوجة وابنها إلى القطاع.

في شهر آذار ١٩٩٥ وصلت تقارير أولية تفيد أن الزوجة وصلت القطاع مع ابنها، وبعد أيام عرف أن عنوانها في بيت لاهيا.

 

عملاء الشاباك شرعوا في مراقبة كل خطوة تخطوها على أمل أن تخرج (العقرب) من جحره، ولكنهم صدموا عندما اكتشفوا أنها حامل، وأنها تزور أخصائية نسائية، علماً أن أياً من العملاء لم يلحظ أن أحداً يدخل البيت الذي تقيم فيه.

 

العودة لملفات جامعة بيرزيت

 

الشاباك لن يستسلم، وافترض أن عياش موجود في نفس الحي، وأنه يقيم في بيت أحد عناصر حماس بالقرب من زوجته.

من أجل معرفة هذا الشخص صادر الشاباك ملفات وصور دفعة تخرج بيرزيت، وبحثوا بين الأسماء عمن درس في تلك الدفعة من القطاع في الجامعة، وظهر بين الأسماء اسم أسامة كامل حماد، والذي تبين أنه يقيم في بيت والده على بعد ١٢٠٠ متر من البيت الذي تقيم فيه زوجة وابن عياش.

 

التقديرات لدى الشاباك أن عياش يختبئ في بيت أسامة، وأن زوجته تأتي لزيارته هناك.

 

بدأت عملية البحث في سيرة أسامة وأفراد أسرته ليكتشفوا أن عمه مقاول ناجح، فلدية ممتلكات وأعمال في إسرائيل، وأنه يتنقل في سيارته الفاخرة بين القطاع وإسرائيل، وأنه يتحدث العبرية بطلاقة، وأن له علاقات جيدة مع رجال أعمال عرب ويهود.



كان خال أسامة الثري يعيش حياة مرفّهة هو وزوجاته الثلاث وأبناؤه الـ18، وقد اعتاد أن يبيت في فندق في تل أبيب بين الفينة والأخرى، والسفر إلى الخارج بشكل حرّ.

الشاباك قدر أنّ الضغط المالي على الخال هو ما يمكن أن يوصلهم إلى أسامة وتقصير الطريق للوصول إلى عياش.

معلومة ذهبية جديدة وصلت إلى أذن الشاباك قرّبته أكثر من أيِّ وقت مضى من عياش، وهي أنّ رجلاً ملتحيًا شبيهًا بعياش يقيم في غرفة جانبية في بيت أسامة، هذا الشخص الغامض يطلق عليه اسم حسن أبو محمد، ولم يشاهده أحد يغادر غرفته على الإطلاق منذ اللحظة التي دخلها فيها،لا في النهار ولا في الليل من البوابة الرئيسة.

الشاباك أراد أن يرسل وحدة مختاره من الجيش لتصفية من يعتقد أنه عياش وجهًا لوجه، ولكن تعقيدات العملية وحساسية وضع السلطة جعلته يتراجع.

خبر آخر، لا يقل إثارة، وصل أيضًا للشاباك، أفاد أن عياش يشتاق للحديث مع والده الذي تركه خلفه في قرية رافات في الضفة، وأنه لم يستخدم مطلقًا الهاتف الخليوي للتواصل معه، واكتفى بالخط الأرضي الذي بدأ الشاباك يشوش مكالماته عليه وأحاطها بالضوضاء، الأمر الذي جعل عملية التواصل وفهم الحديث مستحيلة.

رابين الذي كان يطلب كلَّ فترة أن يسمع خبر إعدام عياش، مستغربًا من عدم قدرة الشاباك في الوصول إليه، جاء مستوطن يهودي يطلق عليه يغال عمير وقتله، دون أن يمكنه من مشاهدة المشهد الختامي الذي انتظره أكثر من أي شيء آخر في تلك الفترة في مسلسل مطاردة عياش.

جهاز الشاباك الذي عاش الأزمة الأعقد في تاريخه، بسبب فشله في تأمين وحماية حياة رئيس الوزراء، لم يغفل في ذروة الأزمة عن عياش لحظة واحدة، كما أن رئيس الجهاز الذي يفترض أن يستقيل بسبب الفشل الذي حدث، قرر أنه سيكمل المهمة التي بدأها، وأن يقدم رأس عياش كهدية وداع لرابين.

حرب التخفي بين عياش والشاباك تواصلت:

المقاول كمال حماد دُعي إلى لقاء عمل في أحد فنادق تل أبيب، وعندما نزل إلى اللوبي وجد في انتظاره ضباط من جهاز الشاباك، الذين قبل أن يقوم بأيِّ رد فعل قالوا له: إن مثل هذه اللقاءات روتينية ويجريها الجهاز مع رجال الأعمال الفلسطينيين بشكل دوري، وأن لديهم طلبًا صغيرًا منه.

أنت تعرف، قال له الضابط، أن هناك شخصًا يعدُّ "صوفة حمراء" في عائلتك، وأن لديه خططًا وأفكارًا سوف تؤثّر عليك وعلى أعمالك، ونحن نريد منك أن تدخله إلى عالمك، وأن تبعده عن أفكاره المتطرفة.

المقاول خشي على أعماله الكثيرة في إسرائيل، وإنّ معارضة الشاباك ستعني نهايته؛ لذا أبدى موافقته، ولكن قبل أن ينهض ليغادر قال له الضابط: إن عليه أن يقتني جهاز اتصال خليويًّا، وأن يعطيه لابن أخته.

المقاول استغرب من الطلب، فقال له الضابط: إنهم يريدون أن يتأكدوا بأنفسهم أنه ترك أفكاره الضّارة، وأن هذا يعني أن يحضر إليهم الخليوي كلَّ فترة لفحصه.

أيام قليلة بعد اللقاء ذهب الخال إلى مكان بيع أجهزة اتصال، واقتنى جهازًا برقم إسرائيلي (050507497) وقدمه لابن أخته، الذي تمَّ تعيينه بشكل مفاجئ لمدير أعمال خاله في القطاع.

أسامة كان واثقًاأن خاله اشترى له الخليوي من أحد محلات البيع في القطاع، لذا لم يتَّخذ أيَّإجراء احتياطي،أو اشتبه بشيء وهو ذات السلوك الذي سيقوم به المهندس بعد فترة قصيرة.

قام ضابط الشاباك بالاتصال بالمقاول بين الفينة والأخرى؛ ليطمئنه على ابن أخته، وأنه ترك فعلاً الأفكار الضارة، وتخلّى عن حركة حماس، وفي كلِّ مرة كان يتصل به فيها كان يطلب منه أن يحضر معه الخليوي من أجل تفقده وإعادته بعد وقت قصير دون أن يعي أنّه جزء من مخطط معقّد وكبير.

كانت لقاءات الشاباك المهمة التي خُصصت لملاحقة عياش، تعقد في مكتب رئيس الجهاز كرمي ايلون، بحضور رؤساء الأقسام وبمشاركة رئيس وحدة العمليات نداف ارجمان الذي أصبح رئيس الجهاز بعدها، وفي أحدها الذي عقد قبل ميلاد ابن عياش الجديد، طُلِب الخليوي من المقاول.

50 غرامًا متفجرات قرب الرأس

أُعيد الخليوي لأسامة، ولكن هذه المرة بعد أن وضع داخله 50غرامًا من المواد المتفجّرة، وهي كمية صغيرة جدًّا قادرة على قتل الشخص فقط في حالة واحدة، إذا كانت لحظة انفجارها قريبة جدًّا من رأسه.

العبوة الصغيرة التي وضعت في الخليوي يتمُّ التحكم بها عن بعد بواسطة طائرة من فوق المنزل.

انتظرت قيادة الشاباك بأكملها يوم2512-1995-موعد ولادة زوجة عياش في مستشفى الشفاء في غزة، وهي فرصة لن تتكرر، وطال انتظارها تسعةأشهر كاملة عاشوها بقلق وترقب مشوب بالخوف.

أراد الشاباك أن يتأكد أن المهندس هو من سيتحدث في الخليوي، وليس أيّ شخص آخر، لذا طلب تقريرًا مفصّلًا عن المولود في غزة، وساد شعور أن العملية شارفت على النهاية.

في الليلة نفسهااتصل عياش وهو في غاية الانفعال والتأثر من الهاتف الأرضي بوالده؛ ليبشره بولادة حفيده الجديد، بينما على الخطّ بين بيت أسامة ومنزل الوالد في رافات كان ضباط الشاباك يتنصتون، واستطاعوا تسجيل المكالمة والتشويش عليها وحولوها إلى تعذيب ومعاناة للاثنين، لدرجة طلب فيها الأب المحبط من ابنه أن يتحدث إليه من مكان آخر.

يحيى الفَرِح بولادة ابنه الجديد لذلك تصرّف بحذرٍأقلَّ على غير عادته، فقام بإعطاء والده رقم الخليوي الخاص بأسامة واتفقا أن يتحدثا يوم الجمعة القادم.

جلس رئيس الشاباك في غرفة العمليات التي وُضعت في منطقة قريبة من الحدود مع قطاع غزة في يوم الجمعة المُنتظَر، وفكّر في شخص واحد تمنّى لو أنه موجود، وهو رابين الذي أراد أكثر من أيِّ شخص آخر موت عياش.

حوالي الساعة التاسعة اتصل الأب بابنه من الهاتف الأرضي في بيت أسامة، كما اتفق مع ابنه، أسامة ردَّ على الهاتف هذه المرة، وتلقّى طلبًا في الحديث مع ابنه، لكنه لم يستطع أن يكمل الجملة بسبب التشويش والضوضاء، عندها طلب منه ابنه أن يعاود الاتصال على الرقم الذي أعطاه إياه في الأسبوع الماضي.

اتصل الأب فرد عليه عياش:

أبي، هذاأنت؟

الضابط الذي كان يستمع للمكالمة ميّز صوت عياش بشكل قطعي، وقام بإبلاغ غرفة العمليات التي أعطت الأمر بالضغط على زر التفجير.

لم يُسمع صوت انفجار، ولم ينفجر الجهاز؛ لأن خللاً تقنيًّا أصاب الخليوي، وكل ما خُطط له على مدى شهور ذهب أدراج الرياح.

"لقد كانت لحظة عصيبة" وفق ما رواه افي ديختر الذي كان رئيس الجبهة الجنوبية في الشاباك": نظرت حولي ورأيت أن كلّ من كان في غرفة العمليات،وكأنه في حداد، وساد شعور بخيبة الأمل".

بعد زوال الصدمة الأولية بسبب فشل العملية عقدت قيادة الشاباك اجتماعًا مطولًا لم يتوقف إلا بسبب دخول السبت، في محاولة لمعرفة لماذا وكيف حدث هذا الخلل، وفي الخلفية كان يضغط عامل الزمن.

في المكالمة التي فشلت فيها محاولة الاغتيال اتفق عياش ووالده على إجراء مكالمة أخرى الأسبوع التالي بالموعدنفسه.

الشاباك أحضر الخليوي رغم دخول السبت من غزة، وقام خبراء المتفجرات بفحصه، واكتشفوا الخلل، وتمَّ إصلاحه، وأُعيد إلى غزة بواسطة المقاول، الذي سلمه لأسامة دون أن يلاحظ أحد أو يشكَّ بشيء.

لقد قتلناه يا غبي

يوم الجمعة، استنفرت قيادة الشاباك من جديد، وكأنها تستعد لمعركة جديدة، ولكن هذه المرة قرر جيلون ألا يجلس في غرفة العمليات على الحدود مع غزة؛ لأنه اعتقد أنه سبب النحس الذي حدث في الأسبوع الذي سبق، كونها المرة الأولى التي يشارك فيها، ويحضر شخصيًّا لغرفة العمليات رغم محاولات افي ديختر إقناعه أن لا علاقة له بالخلل الذي حدث.

في صبيحة الجمعة15-6-1999 اتصل والد عياش مرة أخرى من الخطّ الأرضي، ولكنه لم يتمكن من الحديث بسبب التشويش القوي؛ ما اضطره للاتصال على الرقم الآخر.

أسامة فتح الخطّ، وأعطى الخليوي ليحيى، وفي اللحظة صدر فيها صوت يحيى، وتأكدوا أنه هو، ضغط الشاباك على زر التفجير.

في البيت سُمِع اهتزاز بسيط، مثل طرق الباب، ولم ينتبه أحد حتى ابنه وزوجته اللذان جلسا في الطابق السفلي، وأحد ضباط الشاباك توجه إلىديختر، وهو محبط قائلاً:أنه نجا مرة أخرى.

ديختر صرخ به قائلاً: لقد قتلناه يا غبي.

بالفعل فقد انفجرت العبوة قرب أذن يحيى عياش مباشرة.

انتظر الشاباك بتوتر إلىأن أعلنت حماس بشكل رسمي عن استشهاد المهندس، لتتأكد أنه مات ولم يصب فقط؛ لأن الشاباك علم أن الخليوي انفجر، ولكن كلَّ قيادة الشاباك جلست وانتظرت معلومة مؤكدة حول مصيره.

ساعات بعد الاغتيال توجه رئيس الشاباك كرمي جيلونإلى مكتب وزير الجيش شمعون بيرس الذي شغل منصب رئيس الوزراء ووزير الجيش مكان رابين، وقال له:

"يحيى عياش مات"

جيلون بعد أن أنهى هذه الجملة أنهى مهمته معها، وأوفى بعهده لرئيسه الذي فشل في حمايته، وقُتل قبل أن يرى هذه النتيجة، واستطاع أن يقدّم استقالته بعدها بشهر.