كيف يدير صغار الموظفين احتياجاتهم للاقتراض المالي؟

في الحالة الأردنية، يستطيع صاحب الدخل المحدود المنتظم مهما كانت قيمته متدنية الحصول على فرصة الاقتراض من القطاع المصرفي الرسمي، غير أن الممارسات العملية عبر الزمن، قادت إلى ترسيخ فكرة في الثقافة المالية "الشعبية" تقول إن "الاقتراض من البنوك قد يتحول إلى "ورطة" يصعب التخلص منها".
السطور التالية تحاول التعرف على الوسائل التي يعتمدها قطاع الموظفين الصغار في مواجهة احتياجاتهم المالية بعيدا عن الدخول في علاقة اقتراض من القطاع المصرفي الرسمي، وستلقي هذه الملاحظات ضوءا على البدائل المحتملة للحصول على تمويل بمواصفات مناسبة قليلة التكلفة وسوف نأخذ فئة المعلمين كمثال.
طريقة جمع المعلومات
تم جمع المعلومات التي اعتمدت عليها الملاحظات والاستنتاجات عبر وسيلتين ؛
الأولى هي إجراء مقابلتين جماعيتين مفتوحتين ؛
المقابلة الأولى: جرت في واحدة من أكبر المدارس الحكومية للذكور في العاصمة عمان (تضم 72 معلماً وحوالي 1200 طالب)، وقد حضر المقابلة حوالي 15 معلما.
المقابلة الثانية: تمت في مدرسة من القطاع الخاص في العاصمة أيضاً (وهي مدرسة مختلطة مع أغلبية في الاناث) متوسطة المستوى من ناحية الامكانيات والرواتب تقع في منطقة طبربور، وشاركت في المقابلة أربع مدرسات.
أما الوسيلة الثانية تمثلت بإجراء مقابلات فردية مع معلمين ومعلمات في محافظة إربد كنموذج على الحالة في مدارس تقع خارج العاصمة، إذ ينتمي المعلمون الى بعض القرى والبلدات الصغيرة.
وقد يكون من المفيد الإشارة أولا إلى ما يلي: يبلغ عدد معلمي القطاع العام حوالي مائة ألف معلم، بينما يبلغ عدد معلمي القطاع الخاص حوالي 30 ألفا منهم حوالي 20 ألفا في عمان يتوزعون على 500 مدرسة (وهذا إحصاء تقديري غير رسمي لكنه مقبول).
وتتراوح رواتب المعلمين في مدارس القطاع العام (في المدرسة التي أجريت فيها المقابلة مثلاً) بين 350 إلى 800 دينار وفقا لعدد سنوات خدمة المعلم وخبرته.
بينما تتراوح رواتب المعلمين في القطاع الخاص بين الحد الأدنى للأجور وتصل لغاية 500 دينار، ولكنها تصل في المدارس الخاصة الكبرى الى ألف دينار، وقد تتدنى في المدارس الصغيرة الى ما هو أدنى من الحد الأدنى للأجور، وقد احتجّت بعض المدارس على إلزامها بالحد الأدنى للأجور، ويقوم بعضها بإجبار المعلم على التوقيع على استلام راتب يختلف عن المبلغ الفعلي الذي يتقاضاه.
بصورة عامة أمكن رصد الملاحظات والأفكار التالية:
•تعتبر فئة المعلمين من الفئات المدبّرة، ويجري المعلم حساباته بشكل دقيق وتفصيلي إلى حد كبير، فحتى الإنفاق اليومي البسيط أثناء ساعات الدوام، على الشاي والقهوة مثلا، فإنه يكون وفق حساب مفصل ومضبوط.
•المعلمون في القطاع العام يعتبرون من الفئات المستهدفة من قبل القطاع المصرفي، وتقوم بعض البنوك بحملات ترويج لقروضها مباشرة على المعلمين في المدارس، وذلك نظرا لاستقرار راتب المعلم وديمومته، حيث تضمن القوانين أن لا يجري فصل المعلم بعد تثبيته في وظيفته.
•تعطي البنوك قروضا بسقوف عالية نسبيا لموظفي القطاع العام، وهي في حالة القروض "الاستهلاكية" قد تصل إلى 20 ضعف الراتب، وقد تصل في القروض الإسكانية إلى 40 ضعف الراتب.
•المعلمون من الفئات التي تتردد في الاقدام على الاقتراض من البنوك لأسباب مختلفة بعضها ديني وبعضها يعود الى الريبة من "التورط بالبنوك"، وخاصة عند معلمي الأطراف في القرى والبلدات الصغيرة.
•ينخرط المعلمون في جمعيات خاصة بين زملاء العمل من معلمي نفس المدرس، تضم كل جمعية ما بين 10 الى 15 عضوا، وتتوفر فرصة الدخول في جمعية على مدار السنة وفق مبادرات يقوم بها الأفراد، ويكون المبلغ الذي توفره الجمعية بمثابة قرض بلا فوائد، مع أن نقطة ضعفه الوحيدة تكمن في ضبط الدّور أي تسلسل قابضي الجمعية، وهو تسلسل يخضع عادة للمساومات وعادة ما يصل أعضاء الجمعيات إلى توافق خاصة مع مرورهم بأكثر من تجربة.
•تعد جمعيات المعلمات أكبر حجما ماليا، بسبب أن المعلمات في الغالب لديهن حرية التصرف بالراتب أكثر من المعلمين الرجال (الأزواج)، ولذلك فإن هناك جمعيات بين المعلمات قد تصل قيمتها الى أربعة آلاف دينار، وتكون لأهداف كبيرة نسبيا مثل الانفاق على شراء سيارة أو تجديد مطبخ او تسديد رسوم جامعية للاولاد.
•يستفيد المعلمون من "الجمعيات الاستهلاكية" المنتشرة عبر مخازنها ومتاجرها، والتي توفر السلع الدائمة (الكهربائيات) للموظفين عن طريق نظام "المرابحة".
•في بعض المواقع هناك جمعيات تعاونية مسجلة للمعلمين، يجري العمل فيها من خلال اقتطاع منظم بشكل شهري (عادة بحدود 25 دينارا) ويجري تنظيم عمليات إقراض لمن يرغب وفق مبدأ المرابحة، ويضاف إلى ذلك أنه في كل عام يستفيد عضو الجمعية من أرباح سنوية بسيطة تأتي من عوائد الإقراض وتوزع على الأعضاء، وذلك إضافة الى حق عضو الجمعية نفسه بالاقتراض.
•يقوم معلمون فرادى (ممن يتوفر لديهم المال لسبب أو لآخر) بإدارة تمويل عمليات شراء لزملائهم مقابل أرباح نسبتها 15 % وذلك لتمويل المشتريات على أن يتم التسديد بالكفالة الشخصية وتوثيق ذلك من خلال كمبيالات، غير أن الكفالة تعتمد أساسا على العلاقات الشخصية، ويكون هناك مجال لبعض المرونة في التسديد، ومن أمثلة ذلك ما أفاد به محدثونا من تجربة يقوم بها خمسة معلمين في مدارس مختلفة في عمان الشرقية، أصبحوا مع الزمن معروفين من قبل زملائهم، وهم يستثمرون في بيع السلع للزملاء، وهي طريقة ذاتية لتنظيم البيع بالتقسيط بشروط وظروف مناسبة تعتمد بالأساس على شبكة العلاقات الشخصية.
•إن أولويات المعلمين في الحصول على المال تتسلسل كالتالي: في الدرجة الأولى تأتي "الجمعية" لأنها توفر ما يشبه القرض بلا فوائد إطلاقا، ثم تأتي وسيلة الاقتراض الشخصي من المعارف والأصدقاء، ثم تأتي البنوك.
لكن اللجوء إلى البنوك يتم بتردد شديد ما عدا ما يتعلق بقروض الإسكان (شراء شقة) لأن حجم القرض الإسكاني كبير نسبيا ويصعب توفيره من مصادر إقراض شخصية.
وبكل الأحوال إن قرار الاقتراض تجري دراسته والتفكير به نظرا لمحدودية امكانيات التسديد.
•يقوم المعلمون في كثير من الأحيان بأعمال أخرى إضافية، أشهرها الدروس الخصوصية ولكن ذلك يقتصر على بعض التخصصات المطلوبة، ولهذا يعمد باقي المعلمين الى العمل في مواقع أخرى بشكل دوام جزئي، منهم من يعمل في محلات تجارية (خاصة في المولات كباعة أو كموظفي أمن وحماية داخلية) أو في مطاعم أو كسائقي تاكسي أو أي أعمال غير رسمية أخرى.
•لا يثق المعلمون (وفق كلام محدثينا على الأقل) بإعلانات الصحف حول الخدمات الإقراضية من قبل شركات الوساطة، أو شركات الإقراض الصغيرة، وقد تكرر هذا الموقف عند المعلمين الذكور والإناث.
•فيما يتصل بمعلمي القطاع الخاص، تعتمد ثقة البنوك بهم على اسم المدرسة وحجمها، وفي حالة انتظام المعلم في عمله فيها فإن البنك يمنحه القرض ولكن الأمر يتم عادة بشروط أصعب قليلا من شروط المعلم الحكومي، فمعلم القطاع الخاص قد يحتاج الى وجود كفيل.
•هناك بعض الحالات وخاصة في بعض قرى الشمال، حيث لا تتوفر فرصة التعليم الاضافي بنفس الاتساع في المدن الكبيرة، يقوم المعلمون بأعمال تسهم في توفير دخل إضافي، مثل ضمان قطعة أرض وزراعتها، أو ضمان مزرعة قائمة، بحيث يعتمد عمل المعلم فيها على إشراك أفراد أسرته، أي أنها أعمال لا تتطلب رأس المال، بل تعتمد على عنصر العمل بالدرجة الأولى.
•صندوق التنمية والتشغيل لا يتعامل معهم كمقترضين لأنهم موظفون، بينما يمكن قبولهم ككفلاء لمقترضين، أما صندوق أموال اليتيم فالتعامل معه يكون صعبا لكثرة الإجراءات، وذلك باعتبار أن هذين المنفذين أقل تكلفة.
•رغم تعدد شركات ومؤسسات الإقراض الصغير، إلا أن ممارساتها في الواقع تتنافى مع فلسفة الإقراض الصغير "المثالية" من حيث شروطه وتكلفته على المقترض، حيث الملاحظ أن فوائد القروض الصغيرة مرتفعة، لا تقل عن 18 % مع تلاعب في المسميات الفنية، وقد تتجاوز في بعض القروض نسبة 25 % إضافة إلى شروطها الأخرى الصعبة.
بحيث أن دخول الموظف/ المعلم في علاقة مع هذه الشركات ينطوي على مخاطرة تحويله من "مُدبّر" متوازن، إلى مَدين مأزوم، وهو ما يتنافى مع الأهداف المعلنة (على الورق) في قطاع الإقراض الصغير.
ومن المؤسف أن مؤسسات الإقراض الصغير عموما تضع (في الممارسة) الهدف التنموي في آخر سلم أهدافها وتحوله إلى شعار، وتحولت إلى مؤسسات تعنى بنفسها وبنجاحها كمؤسسة، أكثر من عنايتها بنجاحها في تحقيق فكرتها التي هي في الأصل تنموية ذات بعد أخلاقي/ اجتماعي.
•لكن الملاحظة الأهم أن المعلمين (والموظفين عموما) تمكنوا من إبداع ممارسات "مصرفية" بسيطة ولكنها ذات محتوى إنساني يتلاءم مع ظروفهم، والملاحظ أن هذه الممارسات ناجحة بدلالة استمرارها، وعموما لا تكاد تجد معلما في أي مدرسة خارج واحدة أو أكثر من هذه الممارسات.