في الاقتصاد الشعبي: كيف تدير "معرّش بطيخ"؟

"المعرشات" أشهر أشكال تسويق البطيخ، وتتفوق في هذا المجال على محلات بيع الخضار والفواكه، وعلى سيارات البطيخ المتجوّلة.
ويتكرر مشهد "المعرّشات" كل عام، مع تنويع وتطوير في الشكل، وقد كان الأمر في سنوات ماضية مقتصرا على الشوارع الرئيسية، لكن المتجول في عمان خاصة، وفي بقية المدن والطرق الواصلة فيما بينها، أثناء المواسم، يلاحظ الزيادة في عدد هذه المعرشات، ومع تكثيف علمية ضبط العملية أعيد توزيع مواقع المعرشات، وفي هذا العام، فإن تزامن الموسم مع شهر رمضان كان له أثره باعتبار الطبيخ سلعة مرغوبة للصائمين.
نحاول من خلال السطور التالية التعرف على الحياة الداخلية لـ"معرش البطيخ"، وعلى الطريقة التي يُدار بها مشروع كهذا، يستمر لمدة تتراوح عادة بين أربعة إلى خمسة أشهر، ويغيب في بقية أشهر السنة، وهو ما يعني أن العاملين في هذا المجال يضطرون إلى اتباع استراتيجيات عمل مختلفة عما هو حاصل في المشاريع التجارية العادية.
تعتمد الملاحظات التالية على حالتين دراسيتين، وبالطبع فإن أكثر العناصر التي سنراها، يمكن تعميمها على السوق، غير أن لكل موقع بعض الخصوصية.
سر الصنعة
أبو صهيب، رجل ثلاثيني، يعمل منذ أكثر من عشرين عاما مع ثلاثة إخوة له يكبرونه في العمر في البطيخ، ويعتبرونه كارهم الرئيسي، يشاركهم شباب صغار من أبناء الأقارب يتعلمون الصنعة تدريجيا، كما تعلم هو على يد أشقائه في طفولته وصباه.
انتقل معرش أسرة أبو صهيب من "أم أذينة" إلى "دير غبار"، وبعد 17 عاما انتقلوا شرقا إلى منطقة "أبو عليا" ثم إلى جبل الهاشمي والرصيفة. يقول أبو صهيب إن أهل عمان الغربية لم يعودوا "يَسْحَبون" جيدا في البطيخ، وكثيرا ما يأتي زبائن يطلبون بطيخة صغيرة بما يشبه الشهوة، أما في شرق عمان فالبطيخ مطلوب عند الجميع وعلى مدار الساعة.
في رمضان هذه الأيام يعمل أبو صهيب في المعرش حتى السحور، ويساعده ابن شقيقته الذي كان وقت المقابلة منهمكا في إعادة ترتيب الأكوام وإعادة توزيعها بحسب صنفها وحالته، وهو عمل يتكرر يوميا.
يقول أبو صهيب إن سر الصنعة يكمن في الخبرة والنظافة والترتيب وحسن التعامل والقدرة على استيعاب تنوع الأمزجة الغريب كما يقول، ويتذكر أنه ذات مساء جاءه في "معرش دير غبار" زبون يريد بطيخة بيضاء كالحليب! ودفع سلفاً عشرة دنانير بغض النظر عن حجم البطيخة، ويضيف: مكثت أكثر من ربع ساعة في تقليب البطيخ حتى وجدت طلبه.
نبدأ بغور الصافي ثم نعود إليه مع البطيخ "الرجعي"!
يعمل أبو صهيب وإخوته في البطيخ طيلة الموسم ثم ينتقلون إلى أصناف أخرى من الخضار والفواكه، لكن البطيخ "كارهم" الذي ينتظرون موسمه. يبدأون مع انتاج "غور الصافي" الذي ينضج أولا يليه منتج مزارع "وادي عربة" و"قريقرة" جنوبا ثم منطقة "أم رصاص" في الوسط، ثم ينتقل شمالا إلى مزارع المفرق والأزرق، رغم اختلاف البطيخ في الموقعين الأخيرين بسبب اختلاف المياه، وفي آخر الموسم يعود مجددا إلى منتج مزارع "غور الصافي" التي تزود السوق بالبطيخ "الرجعي"! ذلك أن مزارعي غور الصافي بعد أن ينتهوا من قطف محصولهم، يسارعون إلى زراعة حقولهم من جديد، وفي آخر الموسم يقطفون صنفاً متواضعا صغير الحجم له شكل مستطيل يستمر ذلك لأيام فتكون نهاية البطيخ المحلي، وفي سنوات سابقة كان يحضر إلى السوق "بطيخ حلب" المميز بحجمه الكبير وصنفه الممتاز.
الضغط مسموح على البطيخة ممنوع على الشمامة
يفضل مضيفنا "الثاني" أن نناديه أو نكتب عنه باسم "أبو وديع"، رغم أن الطفل وديع لم يكن قد حضر إلى هذه الدنيا عند إجراء المقابلة.
أبو وديع، شاب في الخامسة والعشرين من عمره، وهو ابن عائلة تعمل منذ عدة أجيال في مجال الخضار والفواكه، وفي البطيخ بشكل خاص. فهو يقول إن والده وجدّه، بل وجَدّ جدّه، عملوا بالبطيخ، وقد توارثت أجيال العائلة هذه الصنعة منذ "أيام البلاد" في فلسطين. وبالفعل فعلى بعد أقل من عشرين مترا من معرش أبو وديع، يوجد معرش آخر يديره ابن عمه، وهناك سبعة معرشات أخرى في مواقع مختلفة في العاصمة تعود لأقارب أبو وديع.
يبيت أبو وديع في المعرش مع العامل المستخدم لديه، وهو فتى في حوالي السادسة عشرة من عمره يقيم في مخيّم حطين شرق عمان، يستيقظان ما بين الثامنة والتاسعة صباحا، ويبدآن العمل حتى الثالثة من فجر اليوم التالي، ولكن كثيراً ما يحصل مع أبو وديع، أنْ يوقظه زبون اشتهى البطيخ بعد الثالثة فجراً، وهو يرحب بزبائنه في أي وقت، ويقول إن حُسْن التعامل مع الزبائن هو رأس المال الأساسي في معرش البطيخ.
غير أن يوم العمل في المعرش ينقسم إلى عدة أعمال؛ ففي الساعات الأخيرة من الليل مثلا، يتم القيام بأهم عملية وهي "بَرّ" البطيخ، أي إزالة "البْرارة" وهي رؤوس البطيخ شبه التالفة أو الناضجة جداً، ثم إعادة "توجيه" الأكوام، أي عرض الحبات الأفضل في المقدمة، ولتحقيق هذه الغاية يقوم أبو وديع وعامله بِقلْب أكوام البطيخ بشكل كامل والمرور عليها بالحبّة يومياً.
في معرش أبو وديع عدة أكوام، الأول يضم البطيخ ذا الحجم الكبير ثم الوسط ثم الصغير، وهناك كوم بطيخ إلى الخلف خاص بالحبّات التي نضجت، وبحسب أبو وديع فإن لهذا النوع من البطيخ زبائنه أيضاً من الفقراء أو أصحاب المزاج في البطيخ "المستوي". وبالإضافة إلى ذلك، يجري فرز البطيخ الذي لم يعد ممكنا تسويقه، وهو ما يتم بيعه لأصحاب سيارات البطيخ الجوالة (البكبات) التي تبيعه بالحبة في الحارات، ولكن دائما هناك بعض الحبّات التي تتلف نهائيا وتصبح غير صالحة للأكل، فيتم التخلص منها.
معرش رسمي ومرخص
منذ العام 2004، صار إنشاء معرش بحاجة إلى ترخيص رسمي، ويدفع كل معرش رسوما تتفاوت من سنة لأخرى لأمانة عمان "بَدَل أرضية"، كما يدفع كل صاحب معرش مبلغا يقرر حجمه كل عام كتأمين مسترد في حالة عدم حصول مخالفات مثل النظافة أو تجاوز المسافة المسموح بها عن الشارع، أو بيع سلع أخرى غير البطيخ والشمام وهما الصنفان الوحيدان المسموحان في المعرشات ما لم ينص الترخيص على غير ذلك. والملاحظ أن رسوم بدل الأرضية غير المستردة تميل إلى الانخفاض بينما يميل التأمين إلى الارتفاع.
يجوز لمعرض البطيخ تمديد خط كهرباء مؤقت للمعرش، مع تركيب عداد خاص مرخص، أما الماء فيتم إحضاره بوسائل متنوعة حسبما يتوفر؛ فقد يكون من خلال صهاريج نقل المياه أو من بيوت الجيران حيث تجري تعبئته في جالونات خاصة.
البيع هنا يخضع لقاعدة "عالسكين" المعروفة، وعندما يختار البائع (أبو وديع مثلاً) البطيخة فإن قاعدة "عالسكين" تعني إمكانية رفض البطيخة من قبل الزبون بعد فتحها، أما إذا اختارها الزبون بنفسه وطلب "تَعْليمها" أي فتحها "عالسّكين"، فإن الزبون هو من يتحمل المسؤولية لأنه لم يطلب نصيحة البائع. ويتقن أبو وديع اختيار المكان الذي يُدْخِل إليه سكينَه بحيث تخرج أفضل قطعة ممكنة تثبت للزبون دقة الاختيار.
ويطلق أبو وديع عدة أسماء على شكل وهيئة القطعة التي تخرج مع السكين، فهي قد تكون "قالِبْ"، وذلك عندما تخرج القطعة متماسكة حتى لبّ البطيخة، والاسم الثاني هو "مبروش"، وذلك عندما يبقى جزء من اللب ولا يخرج مع السكين، وبالطبع فإن "القالب" أفضل من "المبروش"، ولكن دائماً هناك اختلاف في الأذواق، فحتى البطيخة "المْرَمْلِة" أي التي تشبه الرّمل لها زبائنها، لأنها تكون قد نضجت كثيرا وازدادت حلاوتها.
أفضل الشمام "أناناس" وأدناه "بطاطا"
أما الشمام فيعد بالمرتبة الثانية في المعرّش، وينظر أبو وديع إلى زبائن الشمام باعتبارهم أصحاب شهوة في لحظة معينة، أما البطيخ فله السيادة وهو مطلوب على مدار الساعة، والشمام لا يباع "عالسكين"، غير أنه ظهر في بعض المواسم، من الزبائن من يصر على تطبيق قاعدة "عالسكين" على الشمام أيضا.
يشكو أبو وديع من بعض الزبائن الذين يفاصلون كثيرا، أو لا يثقون بالحبة التي اختارها لهم، وهو يستاء من الزبون الذي يعمد إلى الضغط بقوة على الحبة بعد اختيارها، والأمر يكون مستفزا بالنسبة للشمام بالذات، لأنه حّساس للضغط، وبحسب تقاليد البيع التي يوافق عليها أبو وديع، فإن الشمام يختبر عن طريق "الشّم" فقط وهو ما يسمح به للزبون، أما الضغط والرّبت فهو من حق زبون البطيخ فقط، ويطلق الناس على الشمام الحلو ذي الرائحة النفاذة "أناناس" بينما يسمى الشمام ذو الطعم الحيادي غير الحلو "بطاطا"، وبالطبع فإن أحداً لا يفضل أن يأكل "شمام بطاطا"، بينما الجميع يفضلون "شمام أناناس".
ولكن أبو وديع يتأسى وهو ينظر إلى بضع حبات من الشمام التي أفسدها ضغط الزبائن فوضعها جانبا مع حبات أخرى ناضجة كثيرة وطرية لا يشتريها الزبائن، فيقوم ببيعها إلى محلات بيع العصير الطازج حيث يمكن فيها استخدام الشمام الطري.
بنى أبو وديع نافورة صغيرة في مقدمة معرش البطيخ، ويقول أن منظرها جيد ومشجع للزبائن، غير أن جمالها يتجلى في آخر الليل مع "نَفَس أرجيلة".
أكثر ما يكرهه أبو وديع في هذه الصنعة هو الزبون الذي "يُبخّس" البضاعة ويدعي أن ما يشبهها يباع في السوق بسعر أقل كثيراً من سعر أبو وديع الذي يقول إن التبخيس "يكسر قلْب الزّلمه"، وهذا حرام.