فرصة تجاوز الفقر في قضاء عرجان لم تضع بعد

دخل قضاء عرجان إلى قائمة جيوب الفقر منذ إحصاءات العام 2006 وما يزال، ضمن هذه الجيوب، حتى آخر إحصاء منشور، وبلغت نسبة الفقر فيه 344 %، بينما بلغت نسبة الفقر في محافظة عجلون ككل 25.6 %، وهي ثاني أكثر المحافظات فقرا بعد محافظة معان 26.6 %.
قرية عرجان تشكل مركزا لقضاء يحمل الاسم. وتعرف المنطقة شعبيا باسم "خيط اللبن الشرقي"، وتضم أربع قرى هي بالإضافة إلى عرجان: راسون وأوصرة وباعون. وتبلغ المسافة الطولية بين القرى الأربع 10 كم، كما تبلغ المسافة بين مركز المحافظة؛ مدينة عجلون، ومركز القضاء في قرية عرجان 12 كم.
تعد المنطقة تاريخيا "منطقة خَيْر" وفق التعبير الدارج، وهي من أجمل مناطق الأردن، وتنطوي على مُمْكنات وفرص متعددة، ولها سيرة "تنموية" تستحق الدراسة، فقد وصلت في عقود ماضية إلى ما يشبه الاكتفاء الذاتي، على الأقل فيما يتصل بالغذاء.
بعض جوانب السيرة التنموية للمنطقة
المنطقة مأهولة منذ القدم، وذلك سواء أنظرنا إلى التاريخ القديم أو المعاصر، وهناك في كل قرية العديد من الدلائل على ذلك (مناطق أثرية ومتبقيات لعمران سابق)، كما يحفظ السكان الكثير من الروايات التي يعتزون بها عن أسلافهم وعن قراهم.
بل إن قرية راسون الحالية أقيمت بمجملها فوق قرية أخرى قديمة تحمل الاسم ذاته مع بعض التعديل (ريسون) مُقامة في المغاور تحت الأرض حيث تتوفر كهوف ومغاور واسعة، وما تزال بعض فتحاتها ظاهرة في بعض السفوح المجاورة.
تقطن المنطقة عشائر متعددة، لكنها متعادلة في الحضور الاجتماعي؛ فلا توجد عشائر "شيخة" أو عشائر مُسيطرة مقابل أخرى أقل شأنا أو خاضعة.
تعد أراضي هذه القرى الأربع منطقة زراعية ممتازة، وذلك وفق التصنيفات الرسمية والأهلية معا. فالوثائق الحكومية تقول ذلك، أما السكان، فما يزالون بالإجمال يعتبرون أنفسهم مزارعين، ويعتبرون منطقتهم زراعية، وتتجلى خبرتهم في زراعة الأشجار المثمرة (رمان وتين وعنب وأجاص..) إضافة إلى الزيتون، سواء القديم (الرومي) أو الجديد، وهم يعتزون بشهرة منتجاتهم من هذه المزروعات، وكانوا وما زالوا ينتجون لغايات التجارة والتبادل وليس فقط الاستهلاك. كما يزرعون بعض الخضار كالفول والفاصولياء والبازيلاء للاستهلاك والتجارة. يضاف إلى ذلك أن أهل المنطقة زرعوا الحبوب (كالقمح والعدس) لغايات الاستهلاك، ولكن زراعة الحبوب توقفت منذ أكثر من عقد نهائيا.
يمارس السكان الزراعة البعلية والمروية، لكن الملكيات محدودة المساحة وصغيرة نسبيا رغم خصوبتها، ونظرا لأهمية الزراعة المروية فإن التعاون والتعاضد كانا ضرورة ملحة بالنسبة للسكان، وما يزالان كذلك لغاية الآن. فهم بحاجة إلى تنظيم دَوْر الري بينهم، وإلى رعاية وصيانة قنوات الري، وهو ما انعكس على نمط العلاقات ومستوى التعاون بين أبناء القرية الواحدة، أو حتى بين أبناء القرى المجاورة.
تقع الأراضي الزراعية على جوانب الأودية، وخاصة وادي عرجان. وهناك قسم من الأراضي تزرع بعلا، بما فيها أراض تزرع بالأشجار المثمرة.
مر زمن طويل كانت الزراعة فيه مجدية، وكثير من الأسر استطاعت بناء ذاتها وتصعيد أفرادها وتقديمهم للحياة، اعتمادا على الزراعة. كان هناك درجة من الاكتفاء المستند إلى الانتاج الزراعي. وحتى فترة متأخرة، كانت اعداد كبيرة من سكان شمال المملكة، يحضرون إلى منطقة عرجان في مواسم الزيتون ويقيمون فيها ويبيتون في بيوت سكان قراها، وفي مزارعهم لفترة طويلة؛ يعملون ويشاركون في القطاف، ويأخذون نصيبهم أو حصتهم من الزيت والزيتون والتين والرمان.
في المنطقة عيون ماء كثيرة، ومنها سميت البلدية "العيون"، وقد استمرت هذه العيون في خدمة السكان حتى أواخر السبعينيات، عندما بدأ التقنين على المزارعين، ثم اشتد مع الوقت. والآن، كل هذه القرى وخاصة عرجان ذاتها، تعاني من نقص في مياه الشرب، ومن اللافت مثلا أن أول احتجاج شعبي تشهده القرية في حياتها، كان ضد الحرمان من المياه التي تنبع من أرضهم ولكنها تسقي غيرهم!
موسم الزراعة ما يزال قائماً، ووفق الوثائق الرسمية، فإن 75 % من السكان يعتمدون جزئيا على الزراعة كمصدر للدخل، وفي الواقع إن السكان أنفسهم يقدّرون نسبة من "يتعكز" على الموسم الزراعي بأكثر من 50 %. إن استخدام كلمة "يتعكز" من قبل المبحوثين أنفسهم، يعود إلى أن الزراعة لوحدها لم تعد تكفي كمصدر دخل لأي أسرة، ولكن مواسم جميع أنواع المزروعات ما تزال قائمة، وتشكل عنصر إسناد في دخل الأسر.
واليوم تستطيع كل صباح ومساء أن ترى مشهد المزارعين وهم يذهبون إلى حقولهم أو يعودون منها، ويشارك أفراد أسرة المزارع في العمل؛ الأطفال والشباب والشابات والزوجات..حدثني أحد المزارعين وهو يقف إلى جانب منتوجه المعد للبيع في الشارع العام قائلا: لقد اشتغل في قطف هذه الثمار مهندسون وجامعيون.. ودكتورة، وهو يقصد ابنته، وعندما قلت له: لعلهم بذلك يتسلّون! قال لي: لا بل يعملون، وأضاف: هكذا عودتهم.
إن المشكلة الأبرز في قطاع الزراعة في المنطقة حاليا، تكمن في آلية تسويق المنتجات، التي تعطي المزارع حصة زهيدة محزنة في كثير من الأحيان. ولدى كل المزارعين قصصا يروونها بأسى عن العائد الذي يتلقونه في آخر النهار يوميا أو في آخر الموسم سنويا.
وحتى بالنسبة لمنتجات عالية السعر في الأسواق مثل المشمش والخوخ مثلا، فإن تعدد مراحل البيع، يجعل العائد على المزارع متدنيا لدرجة لا تصدق.
بالنتيجة أخذ بعض المزارعين يحمل منتجاته يوميا ويبيعها في السوق مباشرة، وتنتشر على الطرقات المحيطة بالمحافظة عشرات محطات البيع (معرشات صغيرة) يقوم فيها المنتجون بالبيع المباشر، وذلك تحت طائلة المطاردة ومصادرة البضاعة.
لكن أفضل إجراء توصل اليه المزارعون (وهو الأقل ظلما لغاية الآن)، هو إقامة سوق لمدة 2-3 ساعات صباحية في ساحة قرية عرجان؛ يحضر إليه تجار متوسطون أو صغار من عمان أو الزرقاء، ويشترون مباشرة من المزارع فور عودته من حقله.
هذا السوق خاص أساسا بموسم التين والعنب والرمان. ويمتد من تموز (يونيو) وحتى أيلول (سبتمبر). يبدأ التجار بالحضور بسيارتهم منذ السادسة، فيما يبدأ المزارعون بالتوافد، بعد أن يكونوا عملوا في القطاف منذ ساعات الفجر الأولى. وتجري عمليات المزاودة البسيطة على البضاعة المعروضة. ويعتبر هذا السوق أفضل خيار لهم، أو الأقل ضرراً. ومع هذا فإن المشهد يدفع على البؤس؛ يكون المزارع قد اصطحب أفراد أسرته منذ الصباح، وحضر إلى السوق بعدد يتراوح عادة بين 10-20 صندوق من التين مثلا، ويقبض ثمنها ما بين 12- 20 دينارا (بحسب صنف منتوجه).
العلاقة مع السلطة المركزية
إن حضور السلطة المركزية في المنطقة حديث نسبيا، وكانت القرى تُدار ذاتيا من قبل المخاتير الذين يشرفون على مختلف الشؤون الشخصية والعامة.
ومنذ الستينيات وخاصة منذ السبعينيات، بدأت عملية الالتحاق بالقوات المسلحة، وهي -في مجمل قرى المنطقة- تميزت بالاتساع والاستمرارية، وهو ما يلقي بظلاله على تصورات الناس لحياتهم، وبالمقابل، فهو ما يفرض على المُخطِّط أو صاحب القرار التنموي أن يأخذه بالاعتبار عند معالجة القضايا التنموية لهذه المناطق.
يتزايد الشعور في المنطقة في السنوات الأخيرة بالظلم في التمثيل والحضور السياسي، فالمنطقة تابعة إداريا لعجلون، ويشعر السكان أن العشائر الكبرى في المحافظة تسيطر على كامل الحضور على مستوى الدولة. لهذا كان هناك على الدوام، عند سكان هذه القرى الأربع، سعي لتحقيق ما يسمونه: "وحدة خيط اللبن".
وفي مجال الانتخابات النيابية بالذات، جرت عدة محاولات لتوحيد أصوات القرى الأربع، وللأهالي هنا انتخابات داخلية أكثر "رقيا" مقارنة مع أغلب التجارب المماثلة؛ فهم يتفقون أولا على اختيار هيئة انتخابية تتمثل فيها القرى بالتساوي، أي بعدد متساو من الأعضاء لكل قرية بغض النظر عن اختلاف عدد سكان كل من هذه القرى، وذلك لكي لا يكون الاختيار محسوما لأبناء القرية الأكبر (عرجان).
المتقاعدون
التقاعد من الجيش هو مصدر دخل ومصدر كرامة وشعور بالمواطنة والانتماء للبلد. ولا يكاد يخلو بيت من متقاعد عسكري أو أكثر، وما تزال نسبة كبيرة من الشباب تسعى للالتحاق بالجيش.
لقد تحول الأمر إلى بعد ثقافي متأصل في الذهنية الجماعية والفردية للسكان؛ إن سيرة أي متقاعد، تمثل بالنسبة إليه اليوم، حصته من الذاكرة الوطنية. إن حديث ذكريات الخدمة العسكرية يتسلل إلى كل العلاقات الاجتماعية التي يعيشونها في قريتهم، بل ويعبر إلى كل تفاصيل علاقتهم بوطنهم.
على هذا فإن راتب التقاعد ليس مجرد دخل مالي، كما أن تآكل راتب التقاعد، أي ضعف قدرته الشرائية، ليس مجرد نقص أو تراجع في قيمة الدخل المادي. إنه يعكس قلقا على مجمل علاقتهم مع وطنهم. يتذكر الرجال أن قريتهم لم تكن حتى عقود قريبة "تأخذ من الدولة قرشا واحدا"، ولكن كل الأسر "تأخذ" الآن من الدولة.
لم يبدأ السكان بالتساؤل حول علاقتهم بالجيش، إلا بعد مشروع الكلية العسكرية (ساندهيرتس)، الذي سيقام على أرضهم، وخاصة على أرض عرجان. والواقع ان هناك قدرا كبيرا من "التشويش" في النقاش الشعبي حول الأمر، فهم أصلا لا يمكن أن يخطر ببالهم أن الجيش يمكن أن يسهم في مشروع يأتي عليهم بالضرر، ولكن مؤشرات الشك كثيرة، إنهم يتحدثون بقلق عن المشروع.
ولكن عندما تسأل عن تاريخ السخط على الحكومة، فإنهم جميعا يتحدثون عن السنوات العشر الأخيرة، وخاصة آخر خمس منها.
فقراء لكن مدبِّرون
لم يستطع أي من المبحوثين الذي جرت مقابلتهم خلال البحث أن يقدم تفسيرا واضحا حول تراجع مستوى المعيشة في منطقتهم الوارد في الأوراق والإحصاءات الرسمية. قسم منهم استغرب الكلام عن نسبة فقر بلغت 34 %.
الواقع أن أهل القرى تميزوا بقدرة عالية على "التدبير"، أي الإدارة الحصيفة لاقتصاديات الأسرة.
يتحدث السكان عن تراجع المداخيل من الزراعة، ولديهم الكثير من التفاصيل حول الأمر، ويدركون أن مصدر التوظيف الرئيسي في القطاع العام العسكري خاصة والمدني قد قلص من قدراته الاستيعابية. ولكنهم قلقون أكثر من تآكل رواتبهم التقاعدية. وقلقون من تقلص فرص العمل بالنسبة للخريجين من أبنائهم، غنهم يشعرون أن استثمارهم في تعليم أبنائهم قد يذهب سدى.
ربما تكون هذه القضايا الواردة في الفقرة أعلاه هي ما يشغل بال الناس، لكنهم في الواقع ليسوا مستكينين تجاه الأمر، لقد قابلت رجالا تجاوزوا الثمانين من اعمارهم، وما يزالون يفكرون ويجدون ويحثون أبناءهم على العمل.
هناك درجة تجاوب عالية مع كل الفرص والاحتمالات، ويمكن بسهولة وصف أهل هذه القرى بالمجدّين والجديين تجاه ظروف حياتهم. يندر ان تجد أحد المتقاعدين وقد استسلم للتقاعد، وقد صادفت كثيرين ممن عمل أو بحث عن العمل في مدن بعيدة وخاصة في العاصمة عمان.
خلال السنوات الأخيرة بدأ قطاع السياحة يحضر بشكل منظم، وخاصة في قرية راسون، وهي أكثر القرى تاهيلا للنشاط السياحي، وقد قادت وزارة السياحة بعض النشاطات في هذا الميدان، وأجرت الوزارة بحثا تفصيليا عن الفرص الممكنة.
الواقع أن الناس تجاوبوا حتى مع الأعمال التي لم تكن مقبولة اجتماعيا مثل استضافة الآخرين بالأجرة، او صنع الطعام وتقديمه مقابل أجر، وباقي أنشطة تقديم الخدمة للسياح. لكن الأمر سرعان ما اصبح مقبولا، وأبدى السكان تجاوبا سريعا في تغيير موقفهم في مسائل عادة ما تأخذ وقتا أطول.
وزارة الزراعة
يتحسر المزارعون والموظفون القدامى في وزارة الزراعة على الدور الذي كانت تقوم الوزارة في عقود سابقة حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي. لقد انتهى دور الوزارة المركزي في مجال الزراعة!
لقد تحولت مديرية زراعة عجلون إلى مكتب لمتابعة معاملات ومراجعات المواطنين. وإذا لم يحضر المزارع إلى الوزارة فإن الوزارة لا ترى أنها معنية به. بينما كانت سابقا تتابع القطاع جيدا، بحيث تكون المديرية على دراية تامة بتفاصيل القطاع الزراعي في منطقة عملها.
إن مديرية الزراعة، في المحافظة التي تصنف الأولى زراعيا، تفتقر إلى الآليات والكوادر والمعدات والعلاجات الزراعية اللازمة، ويشكواالمزارعون من سعي الوزارة لـ"تطفيش" المزارعين عن مراجعتها.
صحيح انها تقدم خدمة بأسعار رمزية، لكن في التطبيق فإن هذه الخدمة لا تصل إلا بمعاناة وتعب، ونظرا لقلة الامكانات فإن على المزارع أن ينتظر زمنا طويلا حتى يأتي دوره.
هناك منح ومشاريع بمسميات مختلفة، ولكنها تنفذ بشكل مرتجل، وأدارت وزارة الزراعة وأشرفت في السنوات العشر الأخيرة على عدة مشارع بأهداف تنموية بعضها عنوانه الفقر، أو تحسين دخل الأسر الزراعية، ومنها مشاريع وزعت من خلالها اغنام، أبقار، بيوت بلاستيكية، ولكن من النادر ان تعثر اليوم على أي منها.
باختصار، لقد انتهى دور وزارة الزراعة في المتابعة.. مثال:
قناة الري من عين التنور وهي قناة اسمنتية مقامة منذ أكثر من 30 عاماً. حصلت إحدى الجميعات على تمويل مد أنبوب داخل مجرى القناة وذلك بهدف تقنين استهلاك المياه وتقليل الفاقد، ولكن المشروع انهار سريعا، نتيجة عدم الدراسة الكافية له، فقد أغلقت الأتربة مجرى الأنبوب، مما دفع الناس إلى تكسير الأنبوب، وإزالته بطريقة عشوائية، وتحولت الأنابيب إلى عبء.
إن المزارعين كانوا قد توصلوا إلى طريقة مرنة وانسيابية في تنظيم دور الري، فعندما ينقطع المطر، وتبدأ مرحلة الري، يكفي أن يعلن أحدهم في المسجد أن الري "بالدّور" سيبدأ. ويعرف كل منهم وقته المخصص له.
إن أي تطوير او تدخل ينبغي دوما ان يلتقي مع خبرة الناس المتشكلة عبر الزمن، ويضيف إليها، لا أن يصطدم معها.
حالة المهندس الزراعي "هاني"
تخرج هاني من قسم الهندسة الزراعية في جامعة العلوم والتكنولوجيا فرع غابات ومراعي العام 2011.
هو عضو في أسرة مكونة من 9 أولاد وبنات إضافة للأبوين. يوجد ثلاثة إخوة في الخدمة العسكرية، الأخ الأصغر لهاني تخرج من كلية المحاسبة لا يعمل، اما الأخت فقد تخرجت من كلية التمريض تعمل وتساهم بالجزء الأكبر من دخل الأسرة. والأخت الثانية تخرجت من قسم "معلم صف" ولا تعمل.
يعرف أفراد الأسرة كافة مهارات العمل في الزراعة: التقنيب التطعيم العلاج والتعشيب والحراثة..
هم بذلك أسرة عاملة في الزراعة، رغم أنهم لا يملكون أراضي خاصة. يعتمدون على أسلوب ضمان الأرض من أصحابها (مقابل نسبة أو مبلغ مالي مقطوع)، بالنسبة لوالد هاني فهو يقوم بضمان البساتين مقابل مبلغ مالي يدفعه للمالك. وهو يمارس هذا العمل منذ أكثر من ثلاثين عاما، أي في آخر خدمته العسكرية، فهو متقاعد منذ 28 عاما.
زرتهم في يوم عمل، كان الأب والأم وعدد من الأولاد ما يزالون في عملهم في سقاية لأن دورهم صادف في ذلك الوقت، ولكن أيضا كان يوم قطاف للتين. كان قد عاد بعد أن باع ما قطفه بمبلغ 18 دينارا هي سعر 15 بكسة تين من الصنف الجيد.
يقول الأب إن مبدأ العمل لديه كالتالي: صحيح ان المردود في الموسم كله قد يصل في أحسن الأحوال إلى 400 دينار، لكن لو لم أشتغل لأصبح هذا المبلغ عبئا إضافيا.
المهندس هاني، حاول أن يطور امكاناته فدخل عدة دورات في مجال الزراعة، وعمل تطوعا في مشتل في جرش، وعمل لثلاثة أشهر في مشروع الحديقة الملكية، ثم فصل من عمله. عمله كان ضمن اتفاق بين نقابة المهندسين الزراعيين للعمل مدة ثلاثة أشهر تدفع النقابة نصف الأجرة 75 دينارا فيما يدفع صاحب العمل النصف الثاني خلال فترة التدريب، على أن يواصل العمل بعدها، ولكن ما حصل له ولآخرين، أن صاحب العمل يفصل عماله قبل اتمامهم الأشهر الثلاثة الأولى كي يكون فصلهم بلا حقوق ويستبدلهم بآخرين ليتخفف من أجورهم.
عمل في البيع المباشر في بعض السنوات وهو على مقاعد الدراسة الجامعية، واضطر لتأجيل الدراسة عدة فصول لأن الرسوم لم تكن متوفرة. وعمل في تصنيع دبس الرمان، وحاول البيع.
زرعت الأسرة الفاصوليا والفول، وتتذكر الأم بنظرة كلها حسرة نحو ابنها، أنها دبرت أحد أقساطه الجامعية من ثمن الفول الذي زرعته وباعته في أحد المواسم.
قصة بنات المنطقة مع العمل في المناطق المؤهلة لم يكن عمل الفتاة خارج الأسرة أمرا اعتياديا أو مقبولا إلى زمن قريب. وأول مجال واسع الانتشار لعمل الفتيات في مجمل قرى الشمال عموما، تحقق مع مدينة الحسن الصناعية (المناطق المؤهلة)، التي سعت لتوظيف العاملات في مصانع الخياطة بالدرجة الأولى.
التحقت العديد من الفتيات، غير أن العدد تراجع لأسباب يتعلق بعضها بالأجور وتدنيها. وكما في عدد من مناطق البلد، قامت بعض الشركات العاملة في صناعة الألبسة بافتتاح مشاغلها بالقرب من القرى بحيث يصبح التنقل سهلا. بالطبع يحصل المشغل على العديد من الإعفاءات الجمركية وتسعيرة الطاقة والمياه.. مقابل ذلك.
اقترحت جمعية نشيطة في بلدة "عنجرة"/ عجلون أن يقام المصنع فيها، وتم تأسيس مشغل يستخدم 250 عاملة من بنات المنطقة.
تروي مديرة الجمعية عن الاحتفال بالمصنع وكيف أن الأمهات كن يسهرن مع بناتهن حتى إنجاز العمل المطلوب وتحقيق المزيد. لعدة أشهر بقي المصنع ملتزماً بما يتطلبه الاهالي من تشغيل وتدريب يد عاملة محلية لغايات الصيانة والإشراف، لكنه بعد ذلك بدأ يخل بهذه الشروط، ويخشى من حصول تذمر واستياء.

استنتاجات أولية

• إن الجانب الأهم من المشكلة التنموية في هذه المنطقة، يتصل بالسياسات الاقتصادية على المستوى الكلي، ولهذا فإن المعالجة الجدية على المدى البعيد ينبغي أن تتخذ على هذا المستوى. والمقصود هنا ما يتصل بالاولويات الخاصة بادوار القطاعات المختلفة، ذلك ان تراجع قطاع الزراعة، بدا وكأنه سياسة مقصودة، وذلك وفق التصورات التنموية التي سادت مؤخراً.
• إن مجتمع هذه القرى نشيط وفعال، وهو يتمتع بقدر عال نسبيا من التماسك. وما تزال الأسرة وعلاقاتها حاضرة بقوة، ولعل مثل هذه العناصر تلعب دورا في مواجهة المشكلات الناجمة عن تراجع مستوى المعيشة. إن المجتمع المحلي ما يزال محتفظا بقدر عال من قدرته على توفير الحماية الاجتماعية الذاتية.
• لعل الملاحظة الأكثر مفاجأة، تتصل بالحضور القوي للمرأة في مجتمع هذه القرى. إن صورة المرأة الفلاحة المشاركة الحاضرة ما تزال واضحة. ففي كثير من الزيارات التي قمت بها للمنازل والمؤسسات، كانت المرأة مشاركة وغير مترددة. كما تتوفر نماذج معتبرة من النساء اللواتي برزن في ميادين مختلفة وخاصة فيما يتصل بالعمل التنموي والاجتماعي.
• من حسن الحظ، أن مستوى قطاعي الصحة والتعليم ما يزال جيدا بشهادة السكان، فهناك مراكز صحية حتى في القرى الصغيرة (التجمعات) التي تفرعت عن قرية راسون مثلا، كما أن المدارس متوفرة وبشروط جيدة مقارنة مع الحال على مستوى المحافظة أو المملكة ككل. كما أن الحرص على التعليم ما يزال ثقافة سائدة، ولعل قرب القرى من مركز محافظتين (عجلون وإربد) يجعل أمر الدراسة الجامعية أكثر يسرا في حال توفرت الأمكانيات. وهذا بالمحصلة يعني أن أرضية العمل التنموي متوفرة.
• لا بديل عن معالجة جوهرية لمسألة الزراعة، فهي ليست مجرد مصدر دخل أو مجال عمل يمكن البحث عن بدائل له، إن الأمر متعلق بمجمل صلة سكان هذه القرى بوطنهم وفهمهم لوجودهم ومستقبلهم. وإذا تدمرت هذه التركيبة المعقدة من العلاقة مع الزراعة، فإن التداعيات تتجاوز الأبعاد المالية والاقتصادية.
• رغم تنامي السخط والقلق تجاه السلطة المركزية، لكن المجتمع المحلي ما يزال محافظا على هدوئه، ولا تلاحظ أية مظاهر تطرف أو عنف اجتماعي أو ثقافي أو ديني أو سياسي. وهناك الكثير من الشواهد على ذلك.
• ينبغي أن لا تثير إحصاءات الفقر والتي تشير إلى زيادته في هذه المنطقة، الكثير من الفزع الآني، فما تزال الظاهرة قابلة للسيطرة والإدارة. إن الإحصاءات المتعلقة بالفقر عموما في البلد، تأخذ منحى تقنيا لا يراعي الخصائص الثقافية والاجتماعية.