الجسر

جرت العادة في الزمن الجميل المنصرم أن تصطحب الأم صبيتها إلى بعض مجالس الكبار لتعرّف ابنتها على مجتمعها متباهية بتفوقها أو جمالها أو مواهبها، تجلس الفتاة بكل أدب واحترام منفّذة تعاليم أمها في آداب الحديث أو الصمت مُختزنة في عقلها الصغير ما يدور في أحاديث الكبار من أمثال وحكم وطرق تربوية مما يزيد في معرفتها ويسارع في نُضجها وثقافتها فتشبّ مكتملة الأنوثة والثقافة، فمعاشرة الصغار من عمرها لا يضيف لها ما يلزمها بل يسليها وهذا لا يكفي..
كذلك لا يصدق الأب متى يشّب ابنه عن الطوق فيصبح شابا ًيملأ العين والعقل فيصطحبه معه لمجالس الرجال يُعرّفهم عليه متباهياً بأخلاقه بعلمه بنبوغه ليُتقن الشاب التسلق على أولى درجات سلّم الرجولة..يجلس الفتى الغض محتشماً يترك المجال للكبار ليتحدثوا فيغّب منهم فضائلهم ويتعلم سلوكيات المجالس وأدبها كمقدمة للإنخراط في عالم الكبار عندما يحين الوقت يزداد نضجاً، معرفة، ثقافة، وهذه اللقاءات تساهم في بناء رجولة مكتملة وشخصية ناضجة..
ما دعاني إلى طرق هذا الموضوع المهم هو انسلاخ البنات عن أمهاتهن، والأولاد عن آبائهم والاكتفاء بمجتمع الصغار الذي لا يزيد في معرفتهم ولا يضيف لهم شيئاً يُذكر,بل يُبقيهم في خانة المحدودية، وهنا يأتي دور الأهل في تجميل صورة الكبار في أعينهم كي لا يهابوهم ويستثقلوا جلساتهم التي لا تتعدى التوجيه والموعظة بل على الأهل اختيار الشخصية الكارزمية التي تشّد الجيل الشاب إليها بأحاديث طرية خفيفة الظلّ تأتي بشكل عفوي غير مبرمج ليتقبلها الشاب ويسعى هو إليها، ومع مجالسة هذا النوع من الناس ينفتح أمام الشاب آفاقاً لا تنكشف له في مخالطة الصغار..إن ما يحصل عليه الشباب من هذه المجالس لا تدخل في مناهج المدارس ولا نقرأها في الكتب، إنها عالم من المعرفة الحياتية التي يحتاجها الشاب والصبية في حياتهم العملية ولا توفر لهم مستقبلاً عندما يفوتهم زمن الأعمام والأخوال والأجداد وأصدقاؤهم..
إنها مهمة ملقاة على عاتق الآباء ببناء جسر يصل الصغار بالكبار,جسر متين القواعد عماده الأهل والأحبة، وصلة لا تكون على حساب طفولتهم أو شبابهم، ولا تحّد من معاشرة من هم في جيلهم بل تكون مكمّلة لنضجهم الصحيح المكتمل..
أذكر حواراً جرى مع جدّتي رحمها الله حينما رفضت السفر مع زوجي في رحلة عمل قصيرة له متذرعة بجهلي فيمن سيقابلهم،قالت لي : اّذهبي وتعلمي ممن هم دونك، وممن هم أعلى شأناً منك، تعلمي من الجاهل لتثقفي نفسك،ومن المتعلم لتزيدي في علمك وثقافتك، ومن المتخلف لتتحضري، ومن الذكي لتشحذي فكرك وعودي بمجموعة كنوز وحصيلة معرفة تُفيدك في أيامك، هكذا يتعلم الإنسان..!!
ما يُدهشني أن كثيراً من صديقاتنا المُقربات يكدن لا يعرفن عدد بناتهن او أبنائهن،وكأننا جيل منسلخ عن جيل لا يمتّ لنا بصلة، جيل جديد غارق في مُفرزات العصر بكل إيجابياته وسلبياته،يحتضن «اللاب توب» أكثر مما يحتضن أمه وأباه،ويعيش في النوادي والمقاهي أكثر مما يعيش في بيت العائلة، يأكل الوجبات السريعة ويُفضلها على حواضر البيت، ينحصر عالمه بين التكنولوجيا والرفاق، يكاد لا يفقه شيئاً من أمور الحياة الضرورية إلا القليل القليل..
على الطرفين تقع مسؤولية بناء الجسر الفاصل بين الأجيال لربط القديم بالجديد،والتراثي بالعصري، ومفاهيم القيم بمفاهيم الحرية، لا مستقبل بلا حاضر ولا حاضر بلا ماضي،نحن لم نأت من فراغ، بل من أمة غنية بماض مشّرف وعلى كل الصعد، والجسور خلقت لتُقريب المسافات، وردم الفجوات التي تزداد اتساعاً كلما ازددنا تحضّراً..!!

Gado46yahoo.com