العمل النقابي ينتقل من الجهد الفردي الى الجهد الجماعي لضمان حفظ الحقوق

جراءة نيوز -  العمل النقابي يستند إلى مبدأ هام وهو الانتقال من الجهد الفردي إلى الجهد الجماعي لضمان الحفاظ على حقوق طرف من أطراف الإنتاج الرئيسية في مواجهة طرف أو أطراف إنتاجية أخرى تتمتع بالقوة والقدرة على التحكم في شروط العمل المختلفة بما فيها الأجر، وعملياً فإن ملكية كل طرف من أطراف الإنتاج هي التي تحدد قوته وقدراته فأصحاب العمل يملكون وسائل الإنتاج ورأس المال وهي العناصر التي تحقق الربح بينما لا يملك العمال سوى قوة عملهم وجهدهم اليدوي والعقلي، ولأن ثمن قوة العقل أي الأجر وحقوق العاملين الأخرى لها تأثير كبير على حجم الأرباح فإن لكل طرف من أطراف الإنتاج العمال وأصحاب العمل والحكومة مصلحة خاصة مختلفة عن مصلحة الطرف الآخر وهذا ما يدفع العمال تاريخياً للتوحد والتجمع في نقابات بدأت عملياً على شكل جمعيات من أجل المحافظة على حقوقهم.
بدأت محاولات تشكيل النقابات العمالية منذ تبلور تقسيم عناصر الإنتاج بين رأس المال والعمل، وقد لعبت الثورة الصناعية دوراً كبيراً في هذا المجال حيث حلت الآلة مكان الإنسان في زيادة الإنتاج وأثر ذلك بشكل كبير على ظروف وشروط العمل وبدا العمال يشعرون بالحاجة إلى التوحد لمواجهة عملية الاستغلال الكبيرة التي تعرضوا لها ونتيجة لذلك ظهرت بوادر تشكيل النقابات العمالية بداية في بريطانيا. وفي سنة 1720 حاول عمال الخياطة في المدن البريطانية وعددهم حوالي 700 عامل تأليف جمعية لزيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل بمقدار ساعة واحدة يومياً ورغم أن هذه المحاولة باءت بالفشل إلا أن المحاولات استمرت بتشكيل جمعيات مستقلة عندما انتشرت الاضطرابات بين عمال النسيج مما دفع البرلمان البريطاني لإقرار نص قانوني ينص على معاقبة أي تكتل عمالي وقد استمر هذا الوضع حتى عام 1826 عندما رفع الحظر القانوني عن العمالية فأصبحت مرخصة وتمارس حق التفاوض الجماعي.
في ألمانيا بدأت محاولات تأسيس نقابات عمالية متأخرة عن بريطانيا وذلك من عام 1830 وحتى عام 1865 عندما تأسست نقابة عمال التبغ في هامبورغ، أما في فرنسا فقد ظهر العمل النقابي على شكل تعاونيات منذ عام 1791 وكان هدفها زيادة أجرة يوم العمل وقد تطورات هذه التعاونيات لتأخذ شكل غرف نقابية واستمر عمل هذه الغرف حتى أقر البرلمان الألماني عام 1882 أول قانون يسمح للعمال بحق تنظيم النقابات.
في الولايات المتحدة الأمريكية بدأت محاولات تشكيل النقابات العمالية في أواخر القرن الثامن عشر عندما ازدادت اضطرابات عمالية بين عمال المطابع في فيلادليفيا ونشأ من ذلك تأسيس نقابة عمال المطابع في نيويورك ونقابة عمال الخياطين في بالتيمور، وفي عام 1879 تم تنظيم إضراب عمالي في قطاع سكك الحديد ارتفع بعده عدد المنتسبين إلى النقابات من 120 ألف إلى 700 ألف منتسب سنة 1886 وذلك في نفس العام الذي تم به تأسيس الاتحاد الأمريكي للعمل بدلاً من النقابة المسماة فرسان العمل.
ارتبط تشكيل النقابات العمالية العربية في المشرق والمغرب العربي وبلاد الشام بالنضال ضد الاستعمار وقد تراوح تأسيس هذه النقابات من حيث البداية بين نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقد تميز تشكيل هذه النقابات ودورها بالترابط مع النضال الجماهيري العام وأصبحت النقابات العمالية العربية جزء من حركة التحرر الوطني وقدمت هذه النقابات في العديد من الدول العربية العديد من الشهداء خلال فترة النضال ضد المستعمرين جنباً إلى جنب مع دورها المطلبي وأكبر مثال على هذا الدور هو ما قامت به هذه النقابات العربية خلال فترة العدوان الثلاثي على مصر واحتلال بور سعيد.
خلال هذه الفترة كانت بعض هذه النقابات مرتبطة مع النقابات العمالية في بعض الدول المستعمرة نفسها والتي كان بعضها يتضامن مع شعوب الدول المستعمرة ويقف ضد حكوماته، وقد تجلى ذلك بشكل واضح في بعض دول المغرب العربي وبعد الاستقلال السياسي تحولت هذه النقابات أو الاتحادات العمالية إلى مؤسسات جماهيرية ضخمة وقوية لا يزال بعضها يلعب دوراً هاماً في حياة شعوبها سواء من حيث دورها السياسي أو دورها المطلبي بين صفوف العمال.
شكل تأسيس منظمة العمل الدولية سنة 1919 دعماً قوياً للنقابات العمالية وذلك من خلال تكريس مجموعة من المبادئ والأسس التي تحكم عمل هذه النقابات، وفي سياق النشاط الذي تقوم به المنظمة والذي يستند على التمثيل الثلاثي عمالاً وأصحاب عمل وحكومات بدأت المنظمة بإصدار اتفاقياتها السنوية التي اتفق على تسميتها بمعايير العمل الدولية وهي عبارة عن اتفاقيات تنظم حقوق العمال وآلية تطبيقها واستناداً لهذه المعايير والاتفاقيات وإلى الأسس الموضوعة التي تشكلت النقابات على أساسها فإن للنقابات العمالية دور هام جداً في الدفاع عن العمال وفي تنظيم العلاقة بينهم وبين أصحاب العمل ويأخذ هذا الدور أشكالاً متعددة أهمها:
حق التنظيم والمفاوضة الجماعية:
وهذا الحق هو أحد أهم جوانب نشاط النقابات العمالية ويتعلق بالتفاوض مع أصحاب العمل من أجل تأكيد حق العمال في التنظيم النقابي أولاً وثانياً من أجل تحسين شروط العمل وتأخذ المفاوضة أشكالاً رئيسة أبرزها: 
1ـ المفاوضة بشأن الأجور اليومية والشهرية وهذا الشكل من التفاوض يتعلق بعدد من الظروف منها:
ـ أجر العامل الأساسي.
ـ الحوافز والامتيازات والحقوق الأخرى.
ـ الظروف المختلفة التي تحكم الوضع الاقتصادي بشكل عام ووضع المؤسسة التي يعمل بها العامل ومن هذه الظروف:
أـ التضخم.
ب ـ ربحية المنشأة
ت ـ إنتاجية العامل
ث ـ مقارنة المهن والأجور
ج ـ تزايد الخبرة
2 ـ التفاوض حول الحقوق والامتيازات خارج نطاق الأجور وتشمل العمل على تحسين جوانب عديدة أخرى من شروط العمل وأهمها:
ـ ظروف وبيئة العمل
ـ ساعات العمل
ـ الإجازات
ـ السلامة والصحة المهنية
ـ التدريب المهني
ـ تخفيض أعداد العاملين
ـ نوعية الحياة
ـ العلاقات الصناعية
ـ إجراءات تسوية الشكاوي
ـ التشاور على المستوى الصناعي والوطني
ـ المشاركة في اتخاذ القرارات على مستوى المنشأة
ـ حقوق ممثلي العمال والتفرغ النقابي
ـ خصم اشتراك النقابة
ـ حقوق المرأة الخاصة
ـ الحد الأدنى للأجور
ـ الأجر المتساوي للعمل المتساوي
ـ بعض الاتفاقيات الخاصة والهامة التي أكدت على الحقوق النقابية للعمال في بعض جوانب العمل النقابي.
التحديات التي تواجه العمال والنقابات العمالية:
تواجه النقابات العمالية ويواجه العمال في سياق نضالهم من أجل تحصيل حقوقهم عدداً من التحديات الكبيرة التي تعيق هذا النضال وتنقسم هذه التحديات إلى محورين رئيسيين وذلك على الشكل التالي:
ـ التحديات الذاتية:
وتتعلق هذه التحديات بالوضع النقابي للنقابات وبظروفها الخاصة وبتركيبتها وبظروف قادتها والعمال أنفسهم بشكل خاص ومن أهم هذه التحديات:
1ـ ضرورة توسع قاعدة التنظيم النقابي وزيادة قوة النقابات العمالية وضم مزيد من العمال إلى هذه النقابات:
وهذا التحدي هو من أهم التحديات التي تواجهها النقابات حيث أن قوتها تأتي من عدد المنتسبين إليها ومن مستوى التزامهم وتمسكهم بنقاباتهم ويندرج ضمن هذا التحدي تمثيل النقابات العمالية للعاملين في كافة القطاعات الإنتاجية سواء كان ذلك في القطاع الخاص أو في القطاع العام حيث أن بعض الدول وخاصة تلك التي لم توقع على اتفاقية الحريات النقابية رقم 87 لعام 1948 لا تعطي العاملين في القطاع الحق بتشكيل نقاباتهم الخاصة بهم.
2ـ إشراك المرأة في التنظيم النقابي:
وهذا التحدي يعتبر من التحديات الذاتية التي تقف أمام الحركة النقابية ولكنها ترتبط بظروف مختلفة أخرى قد تعيق انتساب المرأة إلى النقابات ومن هذه الظروف ما يتعلق بالعادات الاجتماعية أو التشريعات أو بمستوى التعليم وأيضاً بطبيعة القطاعات الإنتاجية الموجودة في كل مجتمع من المجتمعات.
في جانب مهم أخر من هذا التحدي لا تقف القضية عند حدود مشاركة المرأة ومستواه في العمل النقابي من خلال الانتساب إلى النقابات والمشاركة في القواعد النقابية بل تتعداه إلى مستوى مشاركتها في القيادات النقابية حيث أن للمرأة مشاكلها وقضاياها الخاصة التي يساعد كثيراً في حلها والتصدي إليها بشكل فعال وجود المرأة وتمثيلها في قيادات النقابات العمالية والاتحادات المختلفة الممثلة لها.
3ـ استقلالية الحركة النقابية:
تعتبر استقلالية الحركة النقابية من أكبر التحديات التي تواجهها النقابات والاتحادات العمالية القطرية وبدون هذه الاستقلالية فإن النقابات العمالية لا تستطيع أن تمارس دورها بحرية كما أنها لا تستطيع أن تحقق الإنجازات المطلوبة لمنتسبيها، واستقلالية الحركة النقابية بطبيعة الحال تعنى الاستقلالية عن كل ما يمكن أن يعيق قدرتها على اتخاذ القرار الخاص بدون أي تأثير خارجي وتتنوع الجهات والجوانب التي يجب أن تتوفر للنقابات العمالية الاستقلالية عنها سواء كان ذلك على مستوى النقابات العمالية أو الاتحادات وهذه الجهات والجوانب هي التالية:
أ ـ الاستقلال المالي:
لا تستطيع النقابات العمالية أن تمارس دورها الحقيقي بدون استقلال كامل من الناحية المالية وهذا الاستقلال يوفر للنقابات القدرة على أن تأخذ قرارها الخاص الذي يخدم مصالح منتسبيها بدون أن يكون هذا القرار مرهوناً بموقف أو رأي أي جهة خارجية ذات علاقة بتمويل النقابات مالياً، ومن الناحية العملية فإن التمويل المالي للنقابات يجب أن يأتي بالأساس من مساهمات منتسبيها وتختلف القدرة على تأمين مثل هذا التمويل بين نقابة وأخرى وبين قطاع وأخر وبين بلد وأخر، على أن ذلك لا يمنع من أن تتضمن التشريعات الوطنية نصوصاً تمنح بموجبها بدون قيد ولا شرط المعونات والمساعدات النقدية للنقابات العمالية وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية شريطة أن لا يكون هذا الدعم أو التمويل مشروطاً بأي شرط، وفي العديد من الحالات وخاصة في الدول المتقدمة فإن للنقابات استثماراتها الخاصة التي تساعدها على القيام بنشاطاتها المختلفة وبشكل خاص خلال فترة الإضرابات العمالية.
ب ـ الاستقلال عن أصحاب العمل:
يواجه العمال ونقاباتهم العمالية خطراً كبيراً يهدد قدرة هذه النقابات على القيام بدورها بشكل كامل ويتمثل هذا الخطر بمحاولات أصحاب العمل ومنظماتهم السيطرة على نقابات العمال والتحكم في قراراتها بالشكل الذي يخدم هؤلاء أكثر مما يخدم العمال ويتم ذلك من خلال وسيلتين رئيستين أولاهما دعم أصحاب العمل لمن يمثلهم أو يأتمر بأمرهم للوصول إلى قيادات النقابات وتوجيههم واستغلالهم لهم بعد ذلك أو باستقطاب هؤلاء القادة بعد انتخابهم وذلك بتقديم وسائل الإغراء وشراء الذمم المعروفة وفي حال استطاع أصحاب العمل أو منظماتهم الوصول إلى ذلك فإن النقابات العمالية تفقد عند ذلك القدرة الحقيقية على تمثيل العمال وتصبح أداة في يد أصحاب العمل ويمكن أن تأخذ قرارات في صالح أصحاب العمل أكثر مما هي في صالح العمال.
ج ـ الاستقلال عن الحكومات:
الحكومات كما هو معروف وخاصة قبل موجة الخصخصة التي اجتاحت العالم هي أكبر صاحب عمل في البلاد (السلطة التنفيذية) وبهذه الصفة يمكن أن تكون قادرة على احتواء النقابات العمالية وتوجيهها بالشكل الذي ينسجم مع توجهات وقرارات الحكومة لأن العديد من السياسات والقرارات الحكومية تصطدم بمصالح العمال وخاصة ما يتعلق منها بالأسعار وتعديل التشريعات ومواجهة دور النقابات في تحسين أجور وامتيازات العمال.
د ـ الاستقلالية عن الأحزاب السياسية:
حيث من المعروف أن دور الأحزاب السياسية في أوروبا ودول المغرب العربي وحتى في دول المشرق كان دوراً هاماً في تأسيس النقابات العمالية والتأثير على قراراتها وكان هذا الدور في مرحلة من المراحل مرتبط بالنضال ضد الاستعمار وفي سبيل التحرر الوطني وقد استمرت العلاقة بين الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات العمالية في بعض دول أوروبا الصناعية المتقدمة علاقة قوية حتى أصبح لكل حزب أو تيار سياسي اتحاداته ونقاباته العمالية الخاصة وساعد على ذلك ظهور منظومة الدول الاشتراكية في بداية القرن العشرين وحكمها لما يزيد عن ثلث الكرة الأرضية لفترة تزيد عن سبعين عاماً.
على أن هذا الشكل من الترابط بين الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات العمالية بدأ بالتراجع حديثاً وذلك لأن مصلحة هذه الاتحادات تتمثل في توسيع قاعدتها بشكل يضمن انتساب العمال من كافة الأطياف إليها، أما في الدول النامية فإن دور الأحزاب كان دوراً إيجابياً بشكل عام في بناء النقابات وتقويتها ودعمها بالمناضلين الذين رسخوا قوة وصلابة هذه النقابات ومن الواضح أن مشاركة المناضلين الحزبيين في النقابات العمالية هو عنصر إيجابي أما المطلوب فهو أن لا تكون إرادة النقابة العمالية أو الاتحاد العمالي مرهونة بقرارات الحزب الخاصة التي تأخذ في بعض الأحيان مصلحة الحزب أكثر من مصلحة العمال أو النقابة.التحديات الموضوعية:
تتمثل هذه التحديات بالظروف الخارجية التي تسود المجتمع بشكل عام والتي لا علاقة للحركة النقابية والعمال فيها وتعتبر هذه التحديات من أكثر التحديات خطورة لأن تجاوزها والخلاص منها لا يتعلق أو يعتمد على النقابات نفسها فقط بل على كافة مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والقوى الاجتماعية المختلفة، وعلى كل حال فإنه من الصحيح القول بإنه وإن لم يكن تجاوز هذه التحديات يعتمد على واقع وإمكانات الحركة النقابية فإن هذه الحركة يمكن أن تساهم من خلال نقاباتها وتحسين ظروفها أن تتجاوز هذه التحديات وتتغلب عليها بالشكل الذي يحقق مصالحها الذاتية.