يوميات رجل في خريف العمر
تكتشف فجأة أنك هرمت.. وأن ابناءك الذين كانوا بالامس حجم برعم كبروا، وصاروا أطول منك، وأن فتاة الحي التي لوعت قلبك وهي تتمختر مثلما غزالة ذات عهد بعيد تخاله الأمس، عقدت قران ابنتها قبل يومين ! .. فَتدرك أن الزمن غافلك دون علم ٍ منك، واختلس عمرك..
فجأة فجأة .. ترى الأشياء بمنظور آخر، واهتمامات أخرى، ومقاييس مختلفة.. فالذي كان يدهشك بالأمس يضحي عاديًا، روتينيًا، ويمر أمام ناظريك دونما لهفة ولا شهقة.
تختلف العلاقات التي كنت تلملمها من أزقة الفراغ والصدفة .. تختفي .. تتلاشى مئات الوجوه التي عبرت مشوار عمرك دون ان تخلّف على صفحاته.. بصمة.
تكتشف معايير جديدة للعلاقات.. مفاهيم جديدة للحب، تعيشه منزوياً بأوراقك ومخيالك، مكتفياً، وربما لن تكتفي !..
تلتقي ذات صدفة مع ذاتك .. تكتشف أن فيك صديقاً قديماً طالما عشت معاه وعاش فيك طوال عمرك، دون ان تتعارفا، أو تلتقيا، أو تبثا همومكما لبعضكما، فيصبح صديقك الوحيد في خريف العمر .. نفسك ! .
تعاود أكتشاف الليل، السهر .. متعة الوحدة، الموسيقى، أصوات العصافير التي تزقزق كل فجر على أهداب نافذتك.. توقظك من حلم صباحي لذيذ على تغريدة ألذ، وبقايا حلم لوعك بالأمس يداعب رمشك : صباح الخير حبيبي ..
تتعرف من جديد على صوت إيقاع زخات المطر .. رائحة الخبز الساخن الطازج.. نشوة فنجان قهوة صباحية يعّلم ثغرك فنّ الغواية، مثلما قبلة جنونية مباغتة من شفتين دحنونيتين لا أشهى ..
ترجعُ علاقتك مع الكتب العتيقة التي هَجرتَ مخدعها، قبل ربع قرن مضى، ومضيت.. وما زالت وفية لك، تترقب احتضانك وأنفاسك اللاهثة، وعينيك المفتونتين برواية - بَعدُ عَذراءَ - لم تُقرأ، تكتشف صفحاتها ومفرداتها بنظراتك المدهوشتين لأول مرة
فجأة ورغمًا عنك، يتوقف بك الزمان.. يصبح الحاضر والقادم خاليان من اللهفة .. خاويان من التفاصيل الصغيرة التي تشدك وتثير فضولك ودهشتك .. تصل الى "نقطة ارتكاز العمر"، حيث ما فات، ربما يكون أجمل مما هو آت، رغم قهره وأحزانه والآمه وعذاباته ..
تدرك فجأة ..أن كل شيء حولك تغير ..
الناس، المباني، الطرقات، المركبات، الاغنيات، العلاقات، الابتسامات، نكهة السجائر، وسائل التواصل، الغزل، الحب، الجنس، النساء، والرجال الذين ما عادوا رجالا .. كل شيء في المدينة التي يعتريها الذهول تغير .. حتى انت !.
تلمح نفسك ذات صباح بالمرآة القديمة ذاتها .. لتتعرف على شخص جديد، بملامح جديدة.. وخطوط زمنية بدأت ترتسم على ثنايا وجهك، وشعرات بيضاء أخذت تزاحم سواد رأسك ..
وحدها المرايا لا تكذب، ولا تتغير..
لو كانت ناصية الوقت بيدي.. لأعدت عقارب الساعة ثلاثون عامًا للوراء .. ورميت بي في حضن أمي وبكيت .. غفوت .. وأوقفت عقارب الزمن عند تلك اللحظة تمامًا ..
آه ٍ لو كان الامر بيدي !.