"حديث البلد" في زمن الثرثرات والترهات: سكّر الكلام!

الكتابة عن برنامج "حديث البلد" ومقدمته الإعلامية منى أبو حمزة لزوم ما لا يلزم. صحيحٌ أن النقد لا يعني أبداً انتقاداً وسبراً للسلبيات وحسب، بل أيضاً اضاءات على الإيجابي والمثمر، لكنّ مديح مادة ارتقت إلى التفوّق، حشو أضيف عنوة إلى رائعة أدبية، فإن حُذف، لما تغيّر شيء واما انُتقصت الروعة. لكننا في زمن التجاذبات الشرسة والمناكفات بين الشاشات. وزمن فورة البرامج المعتمدة على مواضيع وقضايا تشغل الرأي العام. وزمن البرامج التي تنتقد مثيلاتها وسواها مما يقدم على محطات منافسة. ولهو أيضاً زمن "الرايتينغ" وتمنين المشاهد، بل وتذكيره بترف النقر على "الريموت كونترول"، في محاولة للإيحاء بأن الإعلام ما عاد تلك الرسالة أو الأداة القادرة على التأثير (سلباً أو ايجاباً) في لاوعي الرأي العام!

كلّ هذا وأكثر، يدفع إلى تسليط الضوء على برامج مثل "حديث البلد" بعيداً من المقارنة غير العادلة بخاصة وأن الـ"فورما" تتباين بين برنامج وآخر.

"مسا الخير ورجعنا بالحلقة 216 من حديث البلد(the is talk of the town) "، بهذه العبارة تستهلّ بو حمزة الحلقة الأولى من الموسم الثامن. لا حاجة لمقدمات وتمهيدات بعد غياب عام (2016)، فالعودة كفيلة بتبديد الشوق وملء الفراغ. يأبى الممثل وصديق البرنامج ميشال بو سليمان ألا يسترجع الذكريات بصور من مواسم عابرة وعابقة. لا شيء تغيّر، باستثناء جرعات إضافية من الأمل بعام أبيض والألوان في الاستوديو. لكنّ قوس القزح الطالع علينا من عيني تلك الجميلة، ما زال متمسكاً بخصائصه رغم سوداوية الظلم الذي ينخر الداخل وعبثاً يُسمح له بالظهور. لن تسمح حرفية بو حمزة بزجّ الأمور الشخصية، وإن استحالت قضية (أقلّه بالنسبة إليها) أو "حديث البلد" في "صفحات" برنامجها. هكذا، تُفرج عن ابتسامات عفويّة الشكل ولا تدع الحنجرة تعتصر حتّى حينما يرجو ضيوفها الفرج عن زوجها. محنةُ، لو أصابت بعض مقدمي البرامج لحوّلوا المنابر ساحات قتال أو بكاء أو نميمة، فهم اعتادوا خلط "الحابل بالنابل" وإشراك المشاهدين بمشاكلهم الشخصية وعلاقاتهم المتأزمة وعقدهم! فهل من يتعظّ؟!

بنات الجنرال، الإعلامي جورج قرداحي، الشاعر نزار فرنسيس من ضمن ضيوف الحلقة الأولى من هذا الموسم. لا يزال "حديث البلد" مجلة اجتماعية، فنيّة، ثقافية، سياسية (...) تُحسن الانتقاء والمعالجة، كما اعتدناه. وسواء كان الضيوف قيمة أو "شغلاً شاغلاً" ولو مرحلياً، فإن الحوار وطريقة خوضه يظلّان أبداً ميزة وعلامة فارقة ونقطة قوّة، بل "ماركة مسجلة" باسم سيّدة تفيض جمالاً شكلاً ومضموناً وإحساساً ولغة وثقافة. غريبٌ سرّ هذه "المُنى" التي تأسر القلوب والعقول بطرفة تحرّك الشفاه لا الغرائز. بخاطرة فلسفية أو أدبية أو فكرية تُستهلك رغم عمقها. بفقرات ترفيه وألعاب وأسئلة وليس بتهريج وسيل من السخافات. ببساطة الومضات وقوّتها. الأغرب، إجماع روّاد مواقع التواصل الاجتماعي على تنصيبها "ملكة الشاشة" و"حديث كلّ البلدان" وإغراق برنامجها بسيل من المديح والثناء في وقت يصرّ كثيرون من العاملين في مهنة الإعلام، وفي معرض دفاعهم عن السطحيات والترهات، على نظرية "الجمهور عاوز كده"! حسناً، يبدو أنه حان وقت مراجعة هذه الحسابات...

أمرٌ لم تغفل عنه بو حمزة في برنامجها، اذ أثارت قضية الانحدار الإعلامي والواقع الأليم الذي آل إليه هذا القطاع مؤخراً، فطرحت الموضوع بطريقة ذكية لم تتوّسل التبجح بالنفس (أو بالمحطة التي تعمل بها)، سائلة قرداحي، أحد أعمدة الإعلام الرصين، رأيه ونصائحه. ولعلّ موقف الأخير من ضرورة استمرار قيام وزارة الإعلام وتعزيز دورها في الرقابة اللاحقة والمسبقة لا يعجب كثيرين من المطالبين "بتحرير" هذا القطاع من مُطلق أي "قيود"، إلا أنّ كلامه عن قباحة توّسل الابتذال والإثارة من أجل رفع "الرايتينغ"، قاعدة ذهبية يؤمل أن يُعمل بها. فهذا الموضوع بالذات ما انفكّ يثير نقاشاً وجدلاً من دون التوّصل الى خلاصة مفيدة للأسف، ذلك أن السائد والشائع هو اعتبار "الرايتينغ" أداة قياس لنجاح البرنامج وبالتالي زيادة المردود الناتج من الإعلانات. لكن هل تبقى هذه الأداة فعّالة مع توّسل أساليب "هجينة" (على حدّ وصف بو حمزة)؟ لعلّها تبقى كذلك بالنسبة إلى أصحاب المحطات والمعلنين، لكنها حتماً لن تقيس، وحدها، رقيّ البرنامج ونجاحه على الصعيد الأخلاقي والمجتمعي والإعلامي...

المفارقة أن برنامج "حديث البلد" بحدّ ذاته، يؤكد هذه المعادلة، بشهادة الجمهور الذي أثبت مرّة جديدة أنه توّاق إلى مواد إعلاميّة تمدّه بما هو جديد ومفيد وترفيهي في الوقت عينه. "رايتينغ" ورقيّ...وكثير من "سكّر الكلام"!