عجائز "الوحدة"
كُنّا في مطالع الصبا نضحك كثيراً على السيّدات المُسنّات ونطلق عليهن لقب عجائز «الوحدة»، فكلما مررنا بسرب من « الحجّات» ممن يمشين معاً ويتعكّزن على بعضهن، كنا نبدأ بالقهقهة والتعليق دون أي سبب واضح لذلك! فإذا لمحنا مجموعة منهنّ في السوق ينصحن بعضهن بأقمشة معينة، أو يتوقفن لأكل قطعة حلوى أو ساندوش فلافل، كنا بسبب هوج تلك المرحلة العمرية – نضحك كمن يتفرّج على فيلم كوميدي!
لم أكن قد فكّرت ابداً بمعنى مصطلح عجائز الوحدة، الى أن ماتت جدتي لأمي –رحمها الله - هذا الربيع، ورأيت صديقاتها ورفيقات دربها كيف أمضين كل أيام العزاء في البكاء الحار عليها، وفي تذكّر فضائلها وطبخاتها وجمالها، وذلك الثوب «المقصّب» الذي أحضره جدي لها فطلبت نسخة منه لكل واحدة من رفيقاتها. ومع دموعهن الصادقة، وذكريات العمر الجميل قفز الى ذهني التفسير : انّهن عجائز الوحدة في أجمل صورها، وحدة المشاعر والفرح والحزن، وحدة المصير الذي ينتظرنا جميعاً على عجل.
أما نحن النساء الشابات فيجب أن يطلق علينا الجيل القادم- كما فعلنا بسالفاتنا – مصطلح» نساء الوحدة»، أيضاً، ولكن : الوحدة التي تعني أن يكون الإنسان وحيداً، وليس متوحداّ مع غيره. فنحن اليوم لم نعُد نعرف من الصداقة الحقيقية إلا الشكل دون الجوهر؛ صداقة فناجين القهوة العابرة في المقاهي الغائمة بالنميمة والحسد ولأنانية . الصداقة التي لا تعرف طريق البيوت ولا طعم الإشتياق الحقيقي، ولا تذرف ولو دمعة واحدة لمصائب الصديق وكبواته.
هناك من يمكن استثناؤه من هذه القاعدة : أي قد نجد نماذج من الصداقة الوثيقة،ولكن لعلها تتفكك مع أول اختبار تفوّق أو إنجاز هام ينجزه صديق دون آخر، أعرف أصدقاء تقرّقوا عندما علق أحدهم «ستائر « جديدة على حائطه، في مفارقة عجيبة تظهر كيف يسدل الستار على عشرة عمر من أجل (برداية)!
الفرق الوحيد بين الصداقة الأبدية، وتلك العابرة، هو أن الذكي لا يسمح للشعور بالتنافُس : والذي يولد مع البشر بشكل طبيعي - بالطُغيان على الشعور بالمحبة والحاجة الى الآخرين، والذي يستبعده المتغطرس الحسود الذي يبتلع ريقُهُ مرتين إذا اصبتَ جديداً، ويحياه-وينأى به الواقعيّ من أصحاب القلب الطيّب، الذين يقدرّون معنى المشاركة.
المرأة التي تنظر لكل النساء على أنهن مشروع خطر على جمالها أو إنجازها، ستكتشف في يوم ما بأنها خطيرة على نفسها بذات المقدار، وستصبح من نساء» الوحدة» الوحيدات تماماً!ولكن أجمل نصيحة لجدي وجدتي رحمهما الله تقول : « مِن عَدّ زلاّت الصديق... جافاه.»