لم ترَ الشمس منذ 16 عاماً... فرح فتاة لبنانية أذهلت كلّ من رآها

 تمشي في كلّ صباحٍ من سريرها حافية القدمين، باتجاه نافذة غرفتها الوحيدة. تقفلها مسرعةً قبل أن تباهتها الشمس بزيارةٍ مفاجئة. ولا تلبث أن تسدل الستارة خائفةً مضطربة، من أن تهزم أشعة ذلك الكوكب الناري انعكاس الزجاج. ليالي الصيف كانت بالنسبة اليها المؤنس الوحيد. عند حلول المساء تفتح النافذة. تتأمل المكان كالوطواط، قبل أن تغفو في سبات. إنها فرح، فتاةٌ لبنانية أذهلت كلّ من رآها بجمالها الغريب. بيضاء كبياض الثلج. عيناها رماديتان تميلان الى الأزرق. خصل شعرها العاجيّة تميل الى عالم السحر. ستّ عشرة سنة، صار عمرها اليوم. ولا تزال تنصت الى أصداء الأولاد وهم يلعبون في الخارج، وتعي جيّداً أن الخروج اليهم قد يكلّفها حياتها، فتعود أدراجها خائفة، كلّما اقتربت من العتبة.

منذ صغرها، قالت أمّها لها إنّ الشمس كالنار. تشتعل بها اذا ما تعرّضت لها. وأن عليها ارتداء الثياب الطويلة التي تخفي طراوة جلدها الأبيض بشكلٍ دائم، لئلا تحترق. وأن القبّعة البيضاء الكبيرة، درعٌ دائمة تحمي شعرها الناعم من الخطر. تأقلمت الصغيرة مع واقعها، وحفظته عن ظهر قلب، وكأنه بات نمط عيشٍ طبيعيّ. وكانت السنوات تمضي، وهي تحاول ادراك سرّ وضعها النادر. حتّى علمت يوماً أن ما تشكو منه يدعى "ألبينيسم". هو مرض وراثي غير شائع، لا علاج له، يتميّز بنقص جزئي او كلّي في مادة الميلانين الموجودة في الجلد والعيون وبصلة الشعر. والميلانين هي المادّة الملوّنة الكفيلة في اضفاء اللون على بشرة الانسان. هكذا تعرّفه الاختصاصية في الأمراض الجلدية والاستاذة المحاضرة في جامعة البلمند الدكتورة ريتا سمور مدوّر التي أرشدت "النهار" الى حالة فرح، قبل أن تغوص في سرد تجارب وحالات لبنانية شبيهة، مصابة بالألبينيسم، رغم ندرتها وقلّة انتشارها.

آخر الحالات التي عاينتها كان شاباً عشرينياً جاء يشكو بقعةً ظهرت جليّة فوق معصم يده. تقول: "لاحظت اصابته بمرض الألبينيسم. وبعد فحصه تبيّن أنه يعاني سرطاناً في الجلد. كان يدرك مدى دقّة وضعه الصحيّ لكنه لم يكترث ولم يتخذ اجراءات وقائيّة صارمة حيال التعرّض لأشعة الشمس، ما سبّب له السرطان". وحول الاجراءات الوقائيّة التي كان لا بدّ له من اتباعها، تشير الى ضرورة تجنّب التعرّض لأشعة الشمس ما فوق البنفسجيّة وارتداء الملابس الطويلة والقبعات الدائرية الكفيلة بتغطية تفاصيل الجسم طوال اليوم، إضافةً الى النظارات التي من المفضل ان تكون ملوّنة، هذا فضلاً عن استخدام كريمات الوقاية من أشعة الشمس بشكلٍ يوميّ.

مرض وراثي
يصنّف مرض الألبينيسم في خانة المرض الوراثي، حيث يحمله الأهل وينقلونه في جيناتهم دون أن تظهر عليهم عوارضه. ويعتبر زواج القربى أحد مسبباته الأساسية، بحسب ما تشير مدوّر، معتبرةً أن أبرز المشكلات الصحية التي يعانيها مرضاه اضافةً الى الجلدية منها، هي مشكلات جديّة في نظرهم ومعاناتهم من حولٍ في العيون. فيما تختلف درجاته، بين اولئك الذين يفتقر جسمهم كليّاً الى مادة الميلانين الملوّنة لجلدهم، ومن يتمتّعون به بنسبٍ ضئيلة، وهذا ما يرسم الفوارق التي قد ترسم جليّةً في شكل مرضاه الخارجيّ، كأن تظهر ملامح أحدهم أكثر بيضويّة من غيره.

صعوبة الاندماج الاجتماعي
الى جانب المشكلات الصحيّة، مشكلات نفسيّة كبيرة قد تعتري مرضى الألبينيسم نظراً لاختلافهم في الشكل، وعدم امكانيّة تأقلمهم بسهولة تامّة مع محيطهم الاجتماعي، أو عدم قدرة المجتمع على التعامل وإياهم كأنهم عنصر سوي. هذا ما يؤدي بهم الى الانعزال الاجتماعي والتقوقع والانغلاق، وصعوبة الاندماج الاجتماعي والخوف من نظرة الآخرين اليهم. يحصل ذلك خصوصاً في البلدان النامية التي تجهل حقيقة هذا المرض وأبعاده. من هذا المنطلق تشرح مدوّر كيفية التعامل مع هذه الحالات في البلدان المتحضّرة، حيث يرسل الطفل الى طبيب علم الوراثة الذي من مهامه اعلام الأهل بتفاصيل حالة ابنهم الصحية وكيفية التعامل معها خصوصاً في ما يتعلّق بضرورة عدم التعرّض للأشعة ما فوق البنفسجيّة.

 

"تتراود العديد من النظريات الخاطئة في أذهان الناس، الذين يعتقدون ان إمكان عيش مرضى الألبينيسم وبقائهم على قيد الحياة لسنوات طويلة، مسألة غير ممكنة. الى اي مدى يمكن أن يحظى هؤلاء بحياةٍ عادية؟"، تجيب أن "الأهمية تكمن في اتباعهم سبل الوقاية الضرورية وعدم الاستخفاف بالتعرّض لأشعة الشمس التي تحرقهم سريعاً بدلاً من المساهمة في اسمرار بشرتهم. كما يتوجّب عليهم استخدام كريمات الحماية الضرورية من الأشعة ما فوق البنفسجيّة، وزيارة طبيبي الجلد والعيون مرّة واحدة في السنة وبشكلٍ دوريّ. هكذا يحظون بحياةٍ طبيعيّة وينجحون في درء خطر الإصابة بسرطان الجلد، حيث يعتبرون الأكثر عرضةً للاصابة به".

الألبينيسم أكثر انتشاراً في أفريقيا
فيما تبقى الأرقام التي تحصي عدد مرضى الألبينيسم في لبنان غير دقيقة، تشير آخر الدراسات الإحصائية التي قارنت نسب انتشاره حول العالم، الى ارتفاع نسبة انتشاره في البلدان الافريقية مقارنةً بالبلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأميركيّة. وتبيّن أن 1 من اصل 5000 شخص يصاب بالمهق لدى بعض المجموعات الاثنية جنوب الصحراء الكبرى الأفريقيّة، فيما عدد المصابين لا يتخطّى 1 من اصل 20000 شخص في كلّ من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. كما ظهر جليّاً أن التغيرات الانتقائية على الألبينو في قارة افريقيا أقوى منها في اوروبا والولايات المتحدة. وقد شهدت أرقاماً مرتفعة وصلت الى 1 في الألف في جنوب أفريقيا، وتبين أن الذين يعانون هذا المرض يتميّزون بسن انجابية مبكرة. وفي دراسة تفصيليّة تناولت الفئة العمرية لمرضى الألبينيسم في نيجيريا احدى البلدان الأفريقية، تبيّن أن 89% منهم تراوح أعمارهم بين 0 و30 عاماً، في حين أظهرت دراسة أخرى منفصلة أن 77% منهم هم تحت سنّ الـ20 سنة.

تعوّل فرح على محاربة واقعها المرضي بالقبّعة العريضة وأكمام القميص الطويلة. تتمنّى لو أنها تستطيع مواجهة الشمس بنظرة أمل، لكنها تعي ان حربها أمام الكوكب الناري خاسرة لا محالة. عندما تنظر الى المرآة تجد نفسها جميلة رغم اختلافها. تقول لها أمها إنها مميّزة كبيضاء الثلج الأسطوريّة. وكأنها خرجت من كتاب القصص الى العالم الحقيقي، لتكتب قصّتها المشوّقة... انها الفتاة التي لم ترَ نور الشمس منذ 16 عاماً.