استبداد الوقت
بينما كان الأميركيون يحيون ذكرى جنودهم القتلى في "يوم الذكرى" قبل أيام، اجتمع زعيمان أوروبيان في الغابات الشرقية من فرنسا لإحياء ذكرى بعض أحلك الأيام في تاريخ أمتيهما. وبينما تحيط بهما أكوام من العظام الفرنسية والألمانية المصندقة في الفجوات العسكرية المخيفة في نصب "داومونت أوسواري"، تعانق الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل وهما يتذكران ما يزيد على 300.000 جندي الذين كانوا قد ذبحوا في معركة فردان الطويلة والمؤلمة، التي استمرت 10 أشهر في الحرب العالمية الأولى. وقد انتهت تلك المعركة التي كانت تهدف إلى "جعل الفرنسيين ينزفون دماً أبيض" بدفن كلا الجانبين تحت جبل من الموت الفظيع العالي جداً، بحيث أن ذكرى فردان وحدها يمكن أن تعطي أي متشكك عنيد في الاتحاد الأوروبي وقفة لدراسة الكلفة الحقيقية لجولة أخرى من العداء الفرنسي الألماني في أوروبا منقسمة حديثاً.
بينما يقف إلى جانب نظيرته الألمانية، دعا هولاند إلى حماية الاتحاد الأوروبي، محذراً من أن "الزمن الذي يلزم لتدميره سيكون أقل كثيراً من الزمن الطويل الذي استغرقه بناؤه". وثمة الكثير من الصحة في هذه العبارة. وفي الحقيقة، يعكس تحذير هولاند ببعض الطرق البناء الأساسي لعالمنا. فإذا كان التحلل، أو عدم النظام، في حالة ازدياد مستمر، فسوف يحتاج الأمر دائماً عملاً للبناء أكثر مما يلزم للتدمير. وبالنسبة للساسة، يمكن أن يكون هذا الاستبداد للوقت مخيفاً تماماً. فمعاهدات السلام والاتفاقيات التجارية والمؤسسات التجارية التي قصدت فرض النظام قد تأخذ عقوداً للبناء، لكن الزمن في الفترات التي تشهد توتراً بالغاً يصبح مضغوطاً في داخل مقطعين بنهايتين حادتين بما يكفي لخنق وتهديم حتى أكثر الروايات السياسية المحبوكة بحذر.
يجب على أوروبا أن تدرك هذا جيداً. فمنذ تأسيس "مجموعة الفحم والفولاذ الأوروبية" في العام 1951 إلى معاهدة ماستريخت في العام 1993، جرت صياغة قصة الاندماج الأوروبي على مدار عقود عدة؛ حيث كانت فرنسا وألمانيا في المركز منها. ومع ذلك، استغرق الأمر ثمانية أعوام وحسب من الركود الاقتصادي وخيبة الأمل السياسية للفصائل الأوروبية -الاتجاه السائد والهامش السياسي- للتشكيك في شرعية الاتحاد والشروع في التساؤل عن استحقاقات الاندماج الأعمق الآن، بحيث أصبحت المصالح الوطنية تواجه الخطر مرة أخرى. لقد ولت تلك الأيام الحميدة واللطيفة حيث كان اليوروقراطيون يتنافسون على معرفة أصل جبنة "فيتا". وانتقل النقاش الآن حول ما إذا كانت حالات ضعف الاتحاد الأوروبي تستحق أن تحظى بالرحمة المالية، وحول ما إذا كانت الحاجة تدعو إلى وجوب تشكيل تكتلات عملة جديدة، وما إذا كان يتوجب على الدول مغادرة الاتحاد الأوروبي كلها معاً. ويستطيع القادة الأوروبيون استحضار ذكريات ماضٍ دموي لمحاولة تعليق الزمن ومنع تفكك اتحادهم، لكنهم أيضاً يحاربون أيضاً ضد الفوضى التي تهدد باجتياح مقاصدهم المثالية.
حقائق عالمية
يفرض الزمن معياراً مزدوجاً على البناء السياسي والتدمير، لكن هذه المشكلة لا تختص بأوروبا وحسب. ففي مكان أبعد إلى الشرق، هناك زعيم يجلس في موسكو وينظر بقلق إلى حبيبات الرمل التي تنزلق من الساعة الرملية. وكان الرئيس الروسي قد اعتلى سدة الرئاسة قبل 17 عاماً بمهمة إعادة المجد الروسي في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي. وقد عمل بصرامة لكبح جماح الأوليغاركيين في البلد ولسحق تمرد شيشاني ولإعادة بناء شبكة من الأعمال والسادة السياسيين في روسيا ومحيطها، والاستفادة من موارد البلد من الثروة من أجل تحديث الجيش وإعداد روسيا لمواجهة التحديات الأكبر في العقود المقبلة.
وقد أعاد بوتين بناء الدولة الأمنية، لكنه فشل بشكل حاسم في جهوده لعزل وتنويع الاقتصاد الروسي. وتأتي نصف الموازنة الاتحادية، و70 في المائة من عائدات التصدير، وربع إجمالي الناتج المحلي للبلد، من صادرات الطاقة في روسيا. ومع أن الإنتاج الروسي الحالي ما يزال منافساً على الرغم من أسعار النفط العالمية المنخفضة، فسوف تواجه روسيا أوقاتاً أكثر صعوبة بكثير وهي تخاطر بمستقبلها في الاعتماد على الصخر الزيتي وغير ذلك من التطوير المكلف في القطب الشمالي وشرقي سيبيريا. ويواجه العديد من هذه المشاريع أصلاً إعاقات كبيرة بسبب العقوبات المفروضة على روسيا، مما يسبب كلفة مدخلات أعلى بكثير، ويتطلب تقدماً تكنولوجياً وأسعار نفط فوق 100 دولار للبرميل حتى تكون مجدية اقتصادياً.
من أجل خلق الظروف اللازمة لجذب الاستثمار ولتنويع الاقتصاد، تحتاج روسيا إلى الوقت -خاصة بالنظر إلى انكماش فضائها العمالي وحالة عدم الاستقرار الساخنة محلياً وفي آسيا الوسطى. ومع أن موسكو تفتقر إلى ترف الوقت أو التركيز، فإنها تظل مع ذلك مركزة على كل محاولة حقيقية أو متصورة، تبذلها الولايات المتحدة وحلفاؤها للانقضاض عليها. وكلما تكثفت التهديدت المحلية والدولية، ازداد تناقض الأولويات الاقتصادية والأمنية الروسية، وازداد الوقت الذي ستحتاجه روسيا لتحقيق الاستقرار.
كما أن الصين تحت القصف هي الأخرى. وبالنسبة لبلد يحب خططه الخماسية، فإن للصين سجلا بائسا جداً عندما يتعلق الأمر بالوفاء بالمواعيد النهائية. وبدءاً بأعوام الثمانينيات، تضخم اقتصاد الصين بموجب نموذج اقتصادي ممل من التوفير المستمر للعمالة الرخيصة للمصانع الساحلية، من أجل ضخ سلع منخفضة التكلفة للتصدير. وساعدت كميات ضخمة من الاستثمار المدعوم من الدولة في قطاع الإنشاءات في استدامة مستويات عالية من النمو، لكنها خلقت أيضاً عدم فعالية على طول الطريق. وقد فهم كبار كوادر الحزب في الصين منذ وقت طويل أن العوائد المتلاشية لهذا النموذج من رأس المال المكثف المعتمد على التصدير يمكن أن يخلق انقسامات مجتمعية وسياسية حادة، ما لم تمتد التنمية إلى الداخل لخلق طبقة استهلاكية أكبر وأكثر استدامة. لكن بكين فوجئت تماماً بالأزمة المالية العالمية التي لم تكن مستعدة لها. وأفضى الاختناق الاقتصادي المفاجئ إلى وقف جهود الصين لإعادة موازنة الاقتصاد بشكل حاد، وترك الصين في حالة مربكة ومؤلمة من الترنح. وأدى معدل استهلاك منزلي ضعيف عند 34 في المائة فقط من إجمالي الناتج المحلي، وحيث كان معظم ثروتها ما يزال متركزاً في المنطقة الساحلية الجنوبية الشرقية، أدى إلى وضع مواطني البلد البالغ تعدادهم 1.36 مليار نسمة بعيداً خلف أقرانهم فيما يتصل بتمدد الثروة الأصيلة وتسخير المواطنين لدفع النمو الشرعي من الداخل. (بالمقارنة، يبلغ الاستهلاك المحلي في الولايات المتحدة ما نسبته 70 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. أما في اليابان فيبلغ 61 في المائة، ويبلغ 50 في المائة في كوريا الجنوبية، وحتى 59 في المائة في الهند).
لا يستطيع النظام السياسي النهوض بكلفة الانتظار حتى تواكب الاقتصاديات في ظل هذه الظروف. وقد نقل الرئيس الصيني تشي جين بينغ الصين من نموذج دينغ سو بينغ الأكثر الأكثر لامركزية لصنع القرار بناء على الإجماع، ليعيده وراء إلى النموذج السلطوي المتركز على الشخص. وفي ضوء تصاعد التحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تمس الحاجة إلى مزيد من العمل لاجتثاث الاستياء وللحفاظ على شرعية الحزب الشيوعي الصيني. وخلال الأعوام الـ67 الماضية، سار الحزب بصعوبة من الراديكالية الخاصة بالثورة الثقافية إلى انفجار أسواق رأس المال. وعندما وجد البلد موازنته في نهاية المطاف، لم يكن هناك أي ضمان بأن الحزب ما يزال يسيطر على الصين. وتعد عملية إعادة هيكلة جوهرية للاقتصاد ضرورية لاستدامة الحزب على المدى الطويل، لكنها ستهدد بشكل كبير شرعية الحزب على المدى القصير. وكما يقول المثل الصيني القديم "أوقية من الوقت تعادل أوقية من الذهب، لكن أوقية من الذهب لا تستطيع شراء أوقية من الوقت". وفي مقابل كل الثروة التي جمعتها الصين على مدى هذه العقود الثلاثة الماضية، فإن الحزب الشيوعي لا يستطيع شراء أميال الوقت التي يحتاجها لإنجاز إجراء إعادة التوازن العظيم هذا قطعة واحدة.
شراء الوقت
تخوض أوروبا والصين وروسيا، وحتى المملكة السعودية وغيرها من الاقتصادات المكشوفة بشكل حاسم، سباقاً مع الزمن لإصلاح اقتصاداتها من أجل استدامتها السياسية الخاصة. وبالنسبة لهذه الدول، يبدو أن الولايات المتحدة وأنها ترفل بالوقت والفضاء. وقد تكون السياسة الأميركية مستقطبة بشكل كبير، وربما يواجه البلد طائفة من التحديات المجتمعية والاقتصادية التي تجب معالجتها بينما يدير مسؤوليات لا يمكن تجنبها في الخارج، لكن الولايات المتحدة تواجه بكل ما في الكلمة من معنى أزمة وجودية مماثلة لتلك التي يواجهها نظراؤها. وستظل الولايات المتحدة قوة عظمى عالمية في المستقبل المنظور، وهو وضع وفرته لها الجغرافيا والموارد الطبيعية والهيمنة العسكرية والقوة التكنولوجية والمقدرة المالية. ولكن، هل تستطيع القوى الجيوسياسية أن تضع الولايات المتحدة عند خطر الشعور بالرضا؟ يستطيع المرء أن يحاجج في أن المزايا الجيوسياسية التي تتمتع بها الولايات المتحدة قد ولدت لدى النفسية الأميركية ثقة مفرطة في النفس، ومستوى مفرط من التفاؤل يقود إلى إحساس غير مقيد بالريادة، وإلى خلق "أرواح حيوانية"، كما قد يقول جون ماينارد كينيس -أي العناصر نفسها التي زودت مجتمعها الرأسمالي بالوقود.
لكن التفاؤل المفرط يمكن أن يكون أيضاً سيفاً ذا حدين. ويقول لنا التحيز الإدراكي إن كل شيء يتكشف في النهاية قد يشجع على خوض مغامرة في الفضاء الاقتصادي، لكنه ينطوي أيضاً على خطر إدخال الخمول على غرائز الاستدامة عند المرء. ولدى البلدان التي تحفل بتواريخ أطول بكثير عدد من حالات الفشل المسجلة، والتي يمكن منها استنتاج دروس قيمة فيما هي تكافح من أجل التغلب على قيودها الخاصة. وكلما كان التاريخ أقسى وأشد -كما تشهد لذلك محاولات روسيا والصين وحتى أوروبا للتخلص من مثالياتها- مست الحاجة إلى مزيد من المكر والتضحية لتمديد الوقت وتجنب الانهيار. وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة يجب أن تطلق صافرة الإنذار أو أن تكون خائفة على مستقبلها. فعبد كل شيء، ما تزال الولايات المتحدة تتمتع بوفرة زمنية مقارنة بباقي العالم، وأمامها عقود من الهيمنة. ولكن، لا بد من دعوة الولايات المتحدة إلى ضرورة إدراك سراب السيطرة. وكان (العالم الإغريقي في التاريخ العلمي) ثوسيسايدس قال إن الأقوياء يفعلون ما يريدون والضعفاء يعانون ما يتوجب عليهم أن يعانوه. والولايات المتحدة قوية حتماً. ولكن ما عساها أن تفعل أكثر بتلك القوة؟ عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على حد تنافسي في المساحة، فإن عليها الحصول على أقصى شيء من حلفائها في الخارج، ودفع تطوير التكنولوجيات الممزقة بينما تدير حالات التوقف المجتمعية المصاحبة، وإضفاء الاستقرار على التمويلات لضمان التفوق طويل الأمد للدولار، وما يزال هناك الكثير جداً لعمله.