حسين هزاع المجالي إلى روح ( أمي).. وداعٌ مكتوبٌ بالدموع

حسين هزاع المجالي * - في مثل هكذا مناسباتٍ حزينة، يُمرّن الكتّابُ والأدباءُ وأرباب الفصاحة والبيان دموعهم لتحيط بالفقد أو الغياب، أو تصف بعضاً منه على الأقل في ذكرياتٍ لا يكتوي بها غير المكلومين بهذا الإحساس الذي يملأ عليهم حياتهم بين الناس وفي مجالسهم وفي كلّ وقتٍ يحاولون أن يشغلوا به هذا الفراغ الكبير الذي لا يملؤه غير الأحبّة الذين غادروا الديار وسط كلّ هذه الدموع.

لكنني، وأعترف أمام هذا الموت الذي داهمنا، ونحن في قمّة السعادة والألفة والمحبّة، أنني سأكون الأبن الذي يكتبه حزنه وتستثيره ذكرياته دون أيّ حذلقةٍ أو تصنّعٍ في هذا المقام الحزين، في رثاء والدتي : سميحة رفيفان المجالي، الوالدة التي لن تفيها كلماتي المتواضعة، وقد كانت بحجم الشمس في الليلة الباردة، واليد التي ظلّت تكفكف عن المحرومين والضعاف دموعهم أملاً بغدٍ جديد.
أمّي الحبيبة،،

قد تكون شهادتي مجروحةً وأنا أكتب عن الأمّ الغالية الطيّبة، ووقفاتها الإنسانيّة المشهودة، ولكنّي هاهنا أكتب من وحي من ودّعوك، وقد قالوا كلمةً لخّصت كلّ هذا الإحساس، وخففت عنا جزءاً من ألم هذا المصاب الجلل، قالوا: (رحمها الله؛ فقد كانت أماً للضعاف والمساكين)!.

نعم، فمثلك لا يمكن أن يُختزل تاريخه في بضعة أسطر، وإن كانت الذكرى الأربعون تحتّم علينا الكتابة عنك، فإنني أقولها بأنّ كلّ الأيام هي ذكرى وفاء، وإحساسٌ بالفقد، واستذكارٌ لكلّ هذه (الصحبة) التي تعلّمنا فيها منك أصدق الدروس وأعذب الخطاب الإنساني، مثلما تعلّمنا كذلك ألا نحزن أو نستسلم حين تقف في طريقنا المصاعب أو تعترضنا الهموم.

أمي الحبيبة،،

يا كريمة رفيفان.. وشقيقة حابس... يا أمّ أمجد وأيمن وتغريد وزين وحسين وزيد وهيا... وشريكة المشروع الوطنيّ الكبير مع هزّاع.. وعاكف .... ما تزال خطواتك تزيّن الدار وتملأ المكان ،، وها هُم أصحاب السمو الأمراء الهاشميون محمد وطلال وغازي الذين واروا جثمانك الطاهر والحزن يملئهم ،، يترحمون عليك ِ بأبلغِ ما في الرثاء ِ من قول , ويستذكرون طيبة قلبكِ المفعم بالأحساس ،.. وما يزال فيصل، ونواف، وسلطان، وسمير، وكلّ هؤلاء القامات والرايات الوطنيّة الثابتة المخلصة تترحم عليك وقد استمد الجميع منك كلّ هذا العنوان الوطني الكبير الذي هو (الأردن).

في ذكرى أربعينك، يوجعنا الرحيل ويعزينا العطاء... يا سيدة جمَعت ووهبت فكانت عنوان اللقاء لا الفراق ... صحيح أن رحيلك ليس عادياً، بل هو حدث هزّنا وأوجع قلوبنا نحن أبناءك وأحباءك، وكل من عرفك من الناس البسطاء العاديين الذين أحبوك فبكوكِ من قلوبهم... لكنه أبدا لم يكن رحيلا... فعطاؤك ووفاؤك لا يفارق الوطن الذي أحببتِ.... وزرع يديك يضيء دروبا وقلوبا امتلأت حباً وزهواً بوطنٍ ساهمتِ في بنائه ومنحت له أبناء كانوا وما زالوا وسيبقون من أعمدة بنيانه المرصوص، مثلما وقفت خلف عظماء خطوا بالمجد رايات الأردن ، فكنت بحق ممن يقفون خلف كل رجل عظيم..


أيّتها الأمُّ الطاهرة، الفاضلة،

كاملة المناقب والفضائل،

ومنبت الجود والبرّ والإحسان،،

لَكمْ أدمى قلوبَنا الفراق، وحفر في صدورنا الحزنُ أخاديد الألم والغياب وأنت تعلنين عن اكتمال المشوار وانتهاء الرحلة بعد كلِّ هذه (الصُّحبة) التي نتناقل فيها مع أبنائنا وأحفادنا والناس سيرتك العذبة الزكيّة النديّة المليئة بالعطف والمحبّة والإخلاص والذكريات.
أيّتها الأمّ،،

ما يختلج أفئدتنا وما يعتصرنا من أحزان في ذكرى رحيلك الأربعين لا تستطيع الأشعار أن تصفه، إذ تظلّ جمرة الحزن وقادةً أبد الدهر ونحن نستذكر كلّ محطات البيت وأركانه وكلّ هذه الجموع من الناس البسطاء الذين ودّعوك والدموع تغرق وجوههم، وقد كنت لهم ملاذاً من عاديات الدهر ونوائب الزمان.


أيّتها الغالية،،


لتهنأ من هي مثلك قريرة العين، نقية الفؤاد، ولتتعطّر روحك محفوفةً بالنور والبركات؛ فالرسالة ما زالت هي الرسالة، والخصال الحميدة التي زرعتِ ما تزال في نفوسنا باقيةً لا تمّحي، والخطوات التي سعيت بها إلى رعاية الناس وإغاثة الملهوفين تسابقت في يوم وداعك يدعو أصحابها لك بالرحمة الواسعة بعد كلّ هذا الإحسان.

أيّتها الأمّ،،

حين اختارك الله إلى جواره، خرج كلّ المحبين ، ليرسلوا دمعةً وفيّةً لما قدّمت من خيرٍ وعملٍ صالح في خدمة الناس، ووفاءً لهذا الإرث الوطنيّ الذي تختزنه ذاكرةٌ هي أنتِ بكلّ ما في الذاكرة من مشوارٍ مع البدايات والمصاعب والتصميم على النجاح،، ووفاء لما تمثلين من ارث وطني تختزنه الذاكرة الشعبية الذكية والوفية لشخصيات الوطن المنتمين لترابه الطهور، المخلصين لقيادته الهاشمية الشريفة المظفرة.

نعم!

لقد كان رحيلك، كما هي حياتك، أنموذجاً للنخوة والعطاء والتكافل التي تميزت بها أسرتنا الأردنية الكبيرة الواحدة، وكان وداعك بياناً حقيقياً في الحب والوفاء لكِ ولكل من تمثلين من أمهات هذا الوطن الطيّب الحبيب.


لك الرحمة، ولتنعم روحك الطاهرة بالراحة والسكينة في جنات الخلد، إن شاء الله .

* وزير الداخلية الاردني الاسبق ومدير الامن العام الاردني الاسبق