الكرة الأرضية.. مناخ حار وعنيف ... تفاصيل
لا أحد يعلم ماذا ستكون تأثيرات التبدّلات المناخية في حياتنا. لا نعجز عن تحديد المعدلات التي ستبلغها درجات الحرارة بسبب ارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو وما سيترتب عليها من تداعيات على المتساقطات في أجزاء مختلفة من العالم فحسب، بل ما زال أمامنا أيضاً الكثير لنتعلمه عن انعكاساتها السلبية على الإنتاجية الزراعية، الضرر الذي قد تلحقه بصحة الإنسان، وتأثيرها في النمو الاقتصادي. لا شك في أن هذه التساؤلات مقلقة حقاً، إلا أن الأكثر إثارة للقلق والخوف السؤال: هل يقود الضرر الناجم عن التغير المناخي أو حتى خطر وقوع ضرر مماثل إلى عالم أكثر عنفاً؟
في كتاب In Black Earth: The Holocaust as History and Warning (الأرض السوداء: المحرقة النازية كتاريخ وتحذير)، يشير تيموثي سنايد إلى أن للمخاوف من التغيرالمناخي مبرراً تاريخياً.
يركز الجزء الأكبر من الكتاب على وصف تدمير ألمانيا الوحشي الدول المجاورة ومؤسساتها السياسية. ويقدّم سنايد «تحذيراً» مقلقاً استناداً إلى دروس المحرقة النازية.
لكن استحضار كل شرور ألمانيا النازية للتحذير من المخاطر المستقبلية يغفل عن الشذوذ الفريد في تفكير هتلر. فكما يقر سنايدر بوضوح، لا تشبه الصين ألمانيا النازية، ويلجأ حكامها إلى العلوم والتكنولوجيا لمعالجة التبدلات المناخية.
رغم ذلك، تبقى النقطة المحورية في عمل سنايد هي التالي: للتبدل المناخي (أو حتى احتمال حدوث تبدل مناخي) القدرة على تغيير السياسات العالمية على نحو بشع. وإن استخلصنا العبر من التاريخ، نلاحظ أن الحكومات والقادة لا يتفاعلون دوماً مع المخاطر بطريقة منطقية.
سورية والشرق الأوسط
لا يُعتبر الخوف من أن يساهم التبدل المناخي في الصراعات جديداً. فقد توقع نيكولاس ستيرن، خبير اقتصادي بارز سابق في البنك الدولي وأحد مستشاري الحكومة البريطانية، في تقريره لعام 2006 بعنوان (اقتصاديات التبدل المناخي) أن (يزيد ارتفاع درجات الحرارة احتمال حدوث تغيرات مفاجئة وواسعة النطاق تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، وتدفق المهاجرين، ونشوب الصراعات). وقد حاول باحثون كثر خلال العقد الماضي توثيق هذا الرابط.
في عام 2011، شارك سولومون هسيانغ، بروفسور في مدرسة غولدمان للسياسة العامة في جامعة كاليفورنيا كان آنذاك في جامعة برنستون، في إعداد تقرير أظهر أن الحروب الأهلية تضاعفت في المناطق المدارية خلال الفترة التي أدى فيها تأثير إل-نينيو إلى درجات حرارة مرتفعة أكثر من المعتاد في مناطق مماثلة.
يُعتبر التقرير أول عمل يبرهن الرابط بين التأثير المناخي العالمي والصراعات. وبعد بضع سنوات، حلل هسيانغ وزملاؤه في جامعتَي بيركلي وستانفورد المنشورات المتزايدة عن المناخ والصراعات، وتوصلوا إلى النتيجة عينها في 60 بحثاً: تزيد درجات الحرارة المرتفعة والتبدلات في أنماط المتساقطات خطر اندلاع الصراعات.
لا تتوافر أدلة على الرابط بين المناخ والصراعات فحسب، بل تُعتبر تأثيراته كبيرة جداً أيضاً، وفق مارشال بورك، بروفسور من ستانفورد شارك هسيانغ في عمله هذا. يضيف: (عندما تكون الحرارة أعلى بدرجة في أفريقيا السوداء، نشهد ارتفاعاً بنسة 20% إلى 30% في الصراعات الأهلية. ولا شك في أن هذه نسبة كبيرة).
من التوضيحات المحتملة المطروحة تأثير تبدلات المناخ في الزراعة. لنتأمل مثلاً في الحرب في سورية. في مطلع شتاء 2007-2006، عانى الهلال الخصيب، الذي يمتد عبر شمال سورية ويزود البلد بالجزء الأكبر من طعامه، جفافاً دام ثلاث سنوات واعتُبر الأشد على الإطلاق.
نتيجة لذلك، انتقل نحو 1.5 مليون شخص إلى مراكز البلد المُدنية. فانضم سكان الريف السابقون هؤلاء إلى أكثر من مليون لاجئ من حرب العراق نحو منتصف العقد الماضي كانوا يعيشون في المناطق المحيطة بالمدن السورية.
فساهمت الأعمال الإجرامية المتفاقمة، البنية التحتية غير الملائمة، الاكتظاظ السكاني، وغياب الرد من الحكومة في نشوء الاضطرابات. وسرعان ما تحولت الانتفاضات في ضواحي المدن البعيدة هذه إلى حرب أهلية بدأت في مطلع عام 2011 وما زالت مستمرة.
تبدلات مخيفة
جعلت التبدلات المناخية الجفاف أكثر شدة، فساهم ما نتج عنه من فشل المحاصيل الواسع النطاق وبالتالي الهجرة الكبيرة في نشوب الصراع، وفق كولين كيلي، عالم مناخ من جامعة كاليفورنيا متخصص في منطقة الشرق الأوسط.
وثّق كيلي وزملاؤه في تقرير أعدوه أخيراً الخلل الذي تلحقه معدلات غازات الدفيئة المتنامية في أنماط الرياح الطبيعية التي تحمل الرطوبة من البحر الأبيض المتوسط خلال موسم الشتاء الماطر.
ويضيف كيلي أن هذا الأمر يشكل جزءاً من تأثير مجفِّف طويل الأمد تشهده المنطقة ويتلاءم مع توقعات نماذج التبدل المناخي. كذلك يؤكد كيلي أنه من المتوقع أن يزداد الجفاف حدة في المناطق شبه الاستوائية حول العالم، مثل الهلال الخصيب.
لكن بعض العلماء السياسيين غير مقتنع بأن هذه التأثيرات المناخية قد تشعل حروباً. يوضح هالفارد بوهوغ من معهد أبحاث السلام في أوسلو في النرويج: (يفوق ما نجهله كل ما نعرفه. إلا أننا واثقون من أن ما من علاقة عامة ومباشرة بين التقلبات المناخية والحروب المنظمة الواسعة النطاق).
رغم ذلك، يقر بوهوغ بأنه (من المنطقي) أن تفاقم التبدلات المناخية أسباب الصراع الأهلي الرئيسة، التي تشمل في رأيه عدم المساواة المتفشي، الفقر المدقع، وسوء الحكم. ويتابع قائلاً: (إن كانت التبدلات المناخية تؤثر في فئات المجتمع بطرق مختلفة أو تقدّم تحديات أكبر وأكثر حدة من أن تتعاطى معها الأنظمة السياسية، تساهم هذه التبدلات عندئذٍ في نشر عدم الاستقرار في المستقبل).
بالإضافة إلى ذلك، من الصعب فصل أهمية الجفاف النسبية كسبب للحرب السورية عن العوامل الأخرى، وفق كيلي. لكن يستدرك مشيراً إلى أن تحديد دور المناخ لا يُعتبر مجرد مسألة أكاديمية، خصوصاً في مناطق متقلبة بقدر الشرق الأوسط. لذلك يسأل: (مَن التالي؟ أي دول ستدفعها التبدلات المناخية إلى الهاوية؟).
الكلفة
تشكّل الأبحاث التي تتناول الروابط بين التبدلات المناخية والصراعات جزءاً من جهد أكبر هدفه تعميق فهمنا عن تأثيرات ارتفاع دراجات الحرارة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات حول العالم. يرمي هذا الجهد إلى تحسين التحليلات السابقة التي اعتمدت غالباً على حسابات بدائية لتأثيرات عُدلت لتناسب مناطق كبيرة. يوضح هسيانغ من بيركلي: «قبل بضع سنوات، ما كنا نملك أدنى فكرة عما علينا توقعه».
في محاولة لجعل التوقعات الاقتصادية أكثر دقة، درس هسيانغ وزملاؤه (بعضهم علماء مناخ والبعض الآخر علماء اجتماع) تأثير الحرارة في إنتاجية العمال والزراعة في دول مختلفة على مر السنين. وفي تقرير نُشر الخريف الماضي في مجلة Nature، تأملت هذه المجموعة تأثير تبدلات الحرارة السنوية في الناتج الاقتصادي في 160 دولة بين عامَي 1960 و2010. ثم عمل الباحثون على دمج هذه البيانات مع نماذج التغيرات المناخية التي طورتها عشرات الفرق حول العالم بغية توقع كيفية تبدل الحرارة مع تفاقم الاحتباس العالمي. وهكذا توصلوا إلى توقع النمو الاقتصادي خلال القرن التالي.
لكن نتائج بحثهم هذا تُعتبر مقلقة. فإن استمر التبدل المناخي على ما هو عليه اليوم، يتوقع العلماء أن ينخفض الناتج الاقتصادي العالمي بنسبة 23% بحلول نهاية القرن، علماً أن هذه الكلفة أعلى مما توقعوه سابقاً. كذلك اكتشف الباحثون أن الناتج الاقتصادي يتراجع على نطاق عالمي مع تخطي معدل دراجات الحرارة السنوي 13 درجة مئوية. أما الأداء العمالي، الإنتاجية، والناتج الزراعي، فتنخفض مع ارتفاع الحرارة. واللافت أن التراجع، بعد تخطي الحرارة 13 درجة مئوية، يُرى في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، بغض النظر عما إذا كان اقتصادها يعتمد على الزراعة أو القطاعات الصناعية غير الزراعية.
إلا أن الاكتشاف المفاجئ حقاً مدى التفاوت في هذه التأثيرات حول العالم. فلما كانت الدول الفقيرة تميل عادةً إلى أن تكون أكثر فقراً، فستشعر بوطأة هذا الضرر. وفيما تعاني اقتصادات الصين، الهند، والجزء الأكبر من أميركا الجنوبية، قد تجني اقتصادات أوروبا الغربية، روسيا، وكندا الفوائد. يوضح هسيانغ: (قد نشهد أكبر عملية إعادة توزيع للثروات من الفقراء إلى الأغنياء في التاريخ. وهذا تراجع لا مثيل له).
تشكل ردود فعل سياسيي العالم وشعوبه تجاه عدم المساواة في توزيع الثروات المتنامي هذا اللغز المحير الأكثر خطورة الذي نواجهه. ويذكرنا سنايد بالأوضاع الخطيرة والمتدهورة التي قد يواجهها العالم، إذا استغل السياسيون والحكّام مخاوف شعوبهم وأفكارهم المتحيزة. يرتبط أحد الدروس البالغة الأهمية التي نستمدها من نظام هتلر بـ)تعارض العلم والسياسة)، على حد تعبير سنايدر. يصيب هذا الباحث حين يوجه إصبع الاتهام إلى مَن ينكرون التبدلات المناخية بدافع العقيدة السياسية. ولكن كان بإمكانه أن يشير أيضاً إلى مَن يحتلون الطرف الآخر من الطيف السياسي ويديرون ظهرهم للتكنولوجيا والعلوم، رافضين خيارات مثل الطاقة النووية والتطورات الجينية في الزراعة، التي تستطيع أن تحد من وطأة التبدلات المناخية. إلا أنه يشدد بدلاً من ذلك على ضرورة أن تستند القرارات السياسية إلى النتائج العلمية الموضوعية.
رغم كل الغموض الذي ما زال يلف مستقبل التبدلات المناخية، يوضح العلم بعض النقاط بشكل جلي. فعلينا أن نتحرك بأقصى سرعة ممكنة لنحوّل بنية الطاقة التحتية كي نحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. ومن الضروري أن نتوصل بحلول منتصف القرن إلى وقفها بالكامل. إلا أن العلم بدأ يشير أخيراً إلى أن الخطوات الجذرية التي قد نتخذها للحد من الانبعاثات قد لا تكون كافية. فقد بدأ الضرر الناجم عن التبدلات المناخية يلحق الأذى بالناس في أجزاء كثيرة من العالم. وسيتفاقم هذا الأذى، إن لم تبدأ الانبعاثات بالانخفاض قريباً. نتيجة لذلك، من الضروري أن نتوصل اليوم إلى طرق للتأقلم. ولا شك في أن الأبحاث الأخيرة التي توضح الكلفة الاجتماعية والاقتصادية مفيدة جداً في هذا المجال. يقول هسيانغ: (سيتبدل المناخ لا محالة. لذلك علينا التوصل إلى طرق للحد من الخسائر).