أطفال يجذبون النساء لإجراء الفحوصات المبكرة لسرطان الثدي

اعتلت ملامح الارتباك والقلق وجه الطفل محمود (13عاما)، عندما شاهد إعلانات وردية تملأ شوارع في عمان، والتي تشجع الأمهات على إجراء الفحص المبكر لسرطان الثدي، ما جعله يفكر مليا بمعاناتهم النفسية والاجتماعية، فيما لو اكتشفوا إصابة والدتهم بالمرض في مراحله المتأخرة.
وبات محمود وشقيقته الصغرى رهام (9 أعوام) يفكران بنسج خيوط "سيناريو" وحوار، لإقناع والدتهما الأربعينية بإجراء الفحص مبكرا، فلم يجدا أنسب من تلوين لوحة كرتونية باللون الزهري، ولصق صورهم العائلية السعيدة بصحبة الأهل والأصدقاء.
وخط محمود بريشته عبارة، اقتبسها من الإعلانات التوعوية، التي ينشرها البرنامج الوطني لسرطان الثدي: "خليكي معنا.. افحصي".
ولم تدرك شقيقة محمود الصغرى رهام، ماهية المرض القابل للشفاء، في حال اكتشافه مبكرا، لكنها تحب والدتها كثيرا، فقالت لأخيها: "ما رح أخلّي السرطان ياخد ماما مني.. عشان هيك بدي احكيلها لازم تفحص، وأطمئن على صحتها، وكلنا معها بنكون".
وحين عادت والدتهما الموظفة سمر إلى المنزل مرهقة، وقع نظرها على اللوحة الزهرية معلقة على باب غرفة نومها، وأبحرت في تفاصيلها، ما جعلها تتأثر كثيراً من كلماتها وصورها، فحضنت ولديها وقبلتهما بحرارة، على الرغم من الخوف والقلق اللذين اعتراها من فكرة تنفيذ فكرة الفحص، لكنها قررت من أجل صحتها وسعادة أطفالها وزوجها، أن تخضع نفسها لفحص مبكر لسرطان الثدي.
وبعد عدة أيام من إجراء الفحص السريري، وصورة "الماموغرام" في أحد المستشفيات الخاصة، تلقت أسرة محمود ورهام خبرا أفرحهم جميعا بأن والدتهم سمر "بصحة جيدة ولا كتل سرطانية في ثدييها".
والحال أن الفحص لم يتجاوز سوى دقائق في المستشفى لكن النتائج الجيدة للفحص أدخل البهجة إلى قلب الطفلين محمود ورهام، وقررا أن ينقلا تجربتهما الإيجابية الى عمتهما وخالتهما بعد أن شعرا بنشوة الانتصار بإقناع والدتهما بإجراء الفحص المبكر لسرطان الثدي كونه يمثل "مفتاح النجاة ويعطي خيارات أكثر للعلاج".
خليكي بحياتي وافحصي
بعبارات دافئة ومؤثرة، يوجه الأطفال، طيلة الحملة التوعوية الوطنية للحث على الكشف المبكر عن السرطان التي انطلقت الشهر الماضي، رسائل لأفراد عائلاتهم من النساء منها: "إلى جدتي: أنت الدلال، حكاياتك سأرويها لأولادي... خليكي بحياتي"، و"إلى خالتي أنت صديقتي، أسراري وأحلامي في مأمن لديك ... خليكي بحياتي"، و"إلى عمتي أنت الفرح، بهجتي تكتمل بحياتك... خليكي بحياتي".
ولم يغفل البرنامج الوطني دور المعلمة، إذ وجه لها رسالة من طالباتها تقول لها: "معلمتي أنت العطاء، نجاحي هو ثمرة عطائك... خليكي بحياتي".
"خالتي حبيبتي افحصي.. فأنت صديقتي وموطن أسراري، بحبك انت وماما.. يا ريت تفحصي، بنحب نطمئن عليكي يا أغلى خالة على قلوبنا".. كان لهذه الكلمات وقع مؤثر جداً على الخمسينية أسماء عندما أخبرتها بنت شقيقتها إيمان (15 عاما) عن أهمية الفحص المبكر للسرطان.
وكانت إيمان حاولت جاهدة بكل الأساليب الإقناعية العاطفية والعقلية التأثير على خالتها حياة، لكن الأخيرة ظلت تعيش في دائرة الخوف والتردد، معتقدة أنها خارج دائرة النساء الأكثر عرضة للإصابة بسرطان الثدي، لعدم وجود أي تاريخ عائلي للمرض لديها، ولم تلاحظ في صدرها أي كتلة غريبة أو تغييرا في حجمه.
ومع ذلك، وعدت الخالة حياة بإجراء الفحص بعد مراجعة طبيبتها اختصاصية النسائية والتوليد للحصول على معلومات شاملة ووافية عن المرض، وأن تتدرب على إجراء الفحص المنزلي، وإذا تبين وجود كتلة فإنها ستتوجه لإجراء الفحص السريري ومن ثم صورة "الماموغرام".
ونظرا لتأثير الأطفال على محيطهم الأسري، ارتأى البرنامج الوطني لسرطان الثدي التابع لمؤسسة الحسين للسرطان إطلاق الحملة لهذا العام بعنوان "خليكي بحياتي ..افحصي"، وهو ليس موجها للأم فقط، بل شمل كل السيدات في محيط الطفل.
على صعيد آخر تمارس بعض الناجيات من سرطان الثدي دورا مؤثرا، من خلال "مجموعة سند للناجيات من سرطان الثدي"، ومنهن سهام مرقة التي تقوم بدعم المصابات بشكل مستمر.
وفي هذا الصدد تقول مرقة لـ"الغد": "في هذا الشهر تحديداً يتم تكثيف العمل والتجهيز لمناسبات يذهب ريعها للسيدات غير القادرات ماديا على إجراء الفحص".
وتعتبر أن شعار الحملة لهذا العام" مؤثر جدا"،ً فالمرأة عندما تصاب أول مرة بالمرض، لا يخطر في تفكيرها سوى مستقبل أبنائها، لذلك فإن الابن عندما يطلب من والدته إجراء الفحص فمن الصعب جداً أن ترفض طلبه.
وتوجه مرقة رسالة الى كل النساء بضرورة الفحص المبكر لاكتشاف الإصابة في مهدها لكون ذلك ينقذ حياتهن، وبالتالي تكون إمكانية الشفاء شبه مضمونة، وبنسبة تزيد على 95%.
غير أن الحال كان مختلفا بالنسبة للمدرسة هند، التي تفاجأت بأغرب طلب منها في حياتها المهنية على حد قولها، عندما طلب منها طالب في الصف الخامس الأساسي أن تجري فحصا طبيا للكشف عن سرطان الثدي.
اعتلت الدهشة وجه المعلمة هند، وفوجئت كثيراً بخروج مثل هذه النصائح من طفل بهذا العمر، مستغربة، حسب قولها، عن سبب اختياره لها تحديداً.
وأشارت المعلمة هند، إلى أن طالبها الذكي والمتفوق أكاديميا، تنبه إلى إعلانات سمعها عن شعار الحملة عبر الإذاعات الأردنية أثناء قيام والده بإيصاله للمدرسة صباحا، وعنوانها: "خليكي بحياتي ...افحصي".
وعندما سأل والده عن هذا الشعار أخبره أن هذا شعار يشجع السيدات للكشف عن سرطان الثدي، وهو موجه للنساء اللواتي تحبهم وتريد أن يبقوا في حياتك"، فكانت معلمته من أوائل من خطرن على ذهنه فورا، إلى جانب والدته وجدته.
وتقول هند لـ"الغد": "سررت كثيرا بعفويته وحبه الصادق لي، ما جعلني لا أتردد لحظة بتلبية طلبه، خصوصا وأنني قدوته في الحياة"، مضيفة: "لن أخسر شيئا، سأقوم بالفحص المبكر لسرطان الثدي بالرغم من خوفي الكبير، إلا أن هذا الطفل لفت نظري إلى قضية صحية مهمة جدا تمس حياتي، وأحب ان أكون صادقة مع نفسي ومع طالبي".
استطلاع اجتماعي

وتوصل الاستطلاع إلى أن 95 % من السيدات يستجبن لأطفالهن في حال طلبوا منهن إجراء الفحص، بينما تخوفت خمس سيدات من إجرائه، وما قد يترتب عليه في حياتهن الأسرية من انعكاسات سلبية في حال اكتشاف الإصابة.
ويتراوح عدد أطفال أسر المبحوثات من 1 - 6 أطفال، تتراوح أعمارهم ما بين 8 - 15 عاما، باعتبارهم الفئة المؤثرة التي تشجع الأمهات على إجراء الفحص.
وحول الأسباب التي تدفع السيدات لإجراء الفحص، وبخاصة خلال حملة سرطان الثدي، في حال كانت الدعوة من أطفالهن، تبين أن هناك من السيدات من اعتبرن أن حياة أي أم وصحتها متعلقة بأبنائها، وفي حال كانت هي بصحة جيدة فإن ذلك بالتأكيد سينعكس على نفسية أبنائها.
كما اعتبر بعضهن أن مجرد اهتمام أبنائهم بصحتهن ودعوتهن لإجراء الفحص المبكر، يعد سببا كافيا لمبادلة الأبناء هذا الاهتمام وإجراء الفحص، والاطمئنان على أنفسهن، وبالتالي طمأنة الأطفال.
بينما اعتبرت سيدات أن دورهن كأمهات يحتم عليهن أن يكن قدوة حسنة لفلذات أكبادهن والاستجابة لهم، خصوصاً وأن طلبهم ينطوي على مصلحة عامة، وأما عدم الاستجابة قد يترك عندهم انطباعاً سلبياً بعدم وجود مصداقية، خصوصاً وأن الصدق أهم قيمة يجب أن تغرس في نفس الطفل منذ نعومة أظفاره.
كما ركز بعضهن على أن حبهن لأطفالهن يدفعهن لعدم رفض طلباتهم، والاستجابة لهم حتى لو كن لا يرغبن بإجراء الفحص، بالإضافة إلى حاجتهن لمؤثر قوي مثل الابن للإقدام على هذه الخطوة المهمة والضرورية لحياة أي أم.
ورغم ذلك، فإن المتخوفات من نتائج الفحص وانعكاساته على حياتهن الاجتماعية والنفسية ونسبتهن 5 %، قلن إن "وصولهن لمرحلة متقدمة من المرض من دون معرفتهن، وعيشهن حياة طبيعية، أهون من اكتشافه في البداية والعيش في خوف وانتظار المجهول".
وأشار بعضهن إلى أن خوفهن من "الوصمة المجتمعية" التي قد تلاحقهن إذا ثبتت إصابتهن، يمنعهن كذلك من إجراء الفحص، وهو ما يتطلب الاستمرار بحملات التوعية والتثقيف، من خلال وسائل الاعلام المختلفة، خصوصاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ومن خلال تحليل إجابات الأمهات، تبين أن الأطفال يشكلون قوة ضاغطة ومشجعة لأمهاتهن، بحسب ما توصل إليه الاستطلاع الذي كانت نتائجه تتماشى ومضمون الحملة التي أطلقها المركز الوطني للسرطان في هذا العام.
وفي ذلك، يقول مدير الأمراض غير السارية في وزارة الصحة الدكتور أيوب سيايدة إن هناك "ارتفاعا في أعداد المصابات"، مبررا ذلك بأنه "طبيعي مع الارتفاع في أعداد السكان، إضافة إلى الوعي بأهمية الفحص واكتشاف المرض مبكرا".
وأشاد بالدور الذي يقوم به المركز الوطني بالتعاون مع وزارة الصحة لتشجيع المرأة على الفحص الذاتي بداية، بالإضافة الى انتشار أجهزة "الماموغرام" بشكل أكبر، لافتا الى أن عملهم لا يقتصر على هذا الشهر من العام، إنما يتم العمل على محاربة المرض طوال العام بشتى الوسائل.
بدورها، بينت مديرة البرنامج الأردني لسرطان الثدي نسرين قطامش أن السبب الرئيس في اختيار الاطفال، لأنهم أكبر فئة مؤثرة على الأم، مبينةً أن أعمار الأطفال المعنيين بتنبيه الأمهات يتراوح بين 5- 14 عاما.
وكان شعار الحملة لهذا العام هو "خليكي بحياتي...افحصي"، التابع للبرنامج، وبدعم من مؤسسة الحسين للسرطان/ مركز الحسين للسرطان، ووزارة الصحة وشركة أدوية الحكمة، مؤكدة على أهمية الفحص المبكر، كما يمكن للنساء الحصول على مزيد من المعلومات من خلال الاتصال بالخط المجاني (080022246)
وينصح بإجراء فحص أشعة "الماموغرام" للسيدات من عمر 40-52 عاما، مرة واحدة سنويا، وفوق عمر 53 مرة كل عامين.
الخوف يعرقل الكشف المبكر
شهدت الحملة الماضية والتي كان شعارها "الخوف يعرقل الكشف المبكر عن سرطان الثدي"، إنجازات كثيرة، تمثلت في البداية بالبنية التحتية، حيث تم إنشاء 7 وحدات "ماموغرام" في مناطق متعددة، إضافة إلى تحسين وتفعيل عمل 24 وحدة قائمة في كافة القطاعات، وتم العمل على تفعيل وحدتين أخريين متنقلتين.
وفي مجال التوعية المجتمعية والتثقيف الصحي، أجرى البرنامج محاضرات تثقيفية حول المرض، إضافة إلى زيادة أعداد الزيارات المنزلية، والفحص السريري المجاني.
ومن ضمن الإنجازات الأخرى، استطاع البرنامج، من خلال التشبيك وكسب التأييد، إدراج فحوصات الكشف المبكر ضمن الفحوصات المشمولة بالتأمين الصحي للسيدات المؤمنات في القطاع العام.
وفي ذلك، اعتبر الاختصاصي النفسي د. محمد حباشنة أن اختيار هذا الشعار "موفق جداً، كونه مؤثرا على الأم"، مبيناً أن "العقل البشري يبحث عن الأشخاص الذين يحتلون موقع الأهمية دائما".
ووفق الحباشنة "بالنسبة للأم، يكون الابن هو الوحيد الذي يمكن أن تقدم له حبا غير مشروط، وبالتالي فإن النصيحة من الابن تطرق الجهاز العقلي المنطقي والعاطفي للأم".
ويذهب الى أن "طلب الطفل أن تبقى الأم في حياته، هو أهم طلب قد تتلقاه، كونه الرقم واحد في التشكيل الدماغي لها، والأولوية الأولى".
ويرى حباشنة أن الشعار ليس موجها للابن بقدر ما هو موجه للأم، فوجوده في منتصف الدعوة الارشادية يجعله وسيطا عقليا مؤثرا للدعاية الإرشادية الموجهة للأم.