ضوء صغير على "ظل" الترجمة..!

مرت أمس مناسبة "اليوم العالمي للترجمة"، الذي يحتفل به العالم -باستثناء جزئه العربي كما يبدو- في 30 أيلول (سبتمبر) من كل عام. وانسلت المناسبة هنا كعابر غريب ما له قريب ولا مضيف، من دون أن يلحظها حتى المترجمون أنفسهم. ويعني ذلك، إما أن عمل المترجم لا يُقدر كثيراً، بخلاف المهن الأخرى، أو أن الترجمة حاضرة بقوة إلى درجة تجعلها أمراً "مفروغاً منه" بحيث لا يستدعي انتباه أحد.
يبدو ذلك منطوياً على مفارقة؛ أن يكون الشيء حاضراً إلى درجة "الغياب"، بسبب اعتياد حضوره حد عدم الانتباه إليه. لكن هذا هو واقع الترجمة. إننا إذا كنا نتحدث اليوم عن شجارات بوتين وأوباما حول سورية، أو ما يخططه العالم لحياتنا ومستقبل أبنائنا، أو عن اكتشاف الماء على المريخ، فإننا نستطيع ذلك فقط لأننا نعرف عن هذه الأشياء بواسطة مترجم. ونتحدث عن مسرح شكسبير، أو روايات ماركيز أو شعر نيرودا، لأننا عرفناهم عبر مترجم. ونعرف عن مُثُل أفلاطون أو الشك الديكارتي، أو نظرية داروين أو نسبية آينشتاين، أو قوانين الفيزياء والكيمياء، لأن مترجمين نقلوا إلينا كل ذلك. ونحن حاضرون في العالم بقدر ما يترجم الآخرون عنا. ولا يستمتع معظمنا بمشاهدة فيلم أجنبي ويفهمه، إلا بمساعدة مترجم. وباختصار: الترجمة حاضرة بكثافة في كل شيء من كل شيء، إلى الاعتياد المطلق.
المشتغلون بالترجمة، والذين يستفيد عملهم من عمل المترجمين ولا يستقيم كاملاً من دونه، يدركون معنى الترجمة. ويعرف المتابعون أن الترجمة الجيدة أصعب أحياناً من التأليف. وكما قال لي صديق كاتب وعارف قبل أيام، فإن الكاتب يكتب أفكاره هو، لكن المترجم يشتغل بأفكار الآخرين التي عليه أن يفهمها، ويعيد إنتاجها لتصل واضحة وكما هي إلى جمهور جديد. وفي هذا الجهد، قد يخفق المترجم ويُقوِّل الناس ما لا يقولون، فيبيع على الناس سلعة زائفة؛ وقد ينجح فيهديهم معرفة ثمينة ما كانت لتتسنى لهم من دونه. وحتى تكون الترجمة من النوع الثاني، فإنها كثيراً ما تكون نضالاً حقيقياً ومعذِّباً -وكذلك متعةً لا تكاد تدانيها متعة.
أول الوقوف أمام نص بهدف ترجمته يشبه النظر إلى جبل كبير ينبغي نحته ونقله من مكانه، ذرة ذرة. وفي كثير من الأحيان، يستغلق المعنى فيكون مثل الحجر العنيد المتشبث بالأرض ولا يريد أن يتزحزح. لكن هذا العناد بالتحديد هو الذي يختبر صبر المترجم ومثابرته، وقدرته على ابتكار الأدوات والحيل لزحزحة النص.
منتهى المتعة، عندما ينتقل "الجبل" إلى كيان مفهوم مكتمل جميل وذي معنى باللغة الجديدة؛ عندما يضع المترجم النص القديم على الرف ويتنفس الصعداء، وهو يحمل بين يديه الكائن الجديد الوليد القادم إلى العالم. ولا تقل مصارعة النص أحياناً عن عمل جراح الأعصاب الدقيقة، حيث يمكن أن يُسلم الخطأ كل النظام للفوضى. ومع ذلك، نادراً ما ينال المترجمون المجتهدون شيئاً يشبه الاعتراف الذي يحظى به المهنيون الآخرون -ولو أن معظم الآخرين يكونون قد درسوا مناهج اشتغل عليها مترجمون!
الترجمة عمل يمزج الموهبة والاستعداد الفطري بالكثير جداً من العمل الدنيوي. إنه محاولة لإقامة صلة بين لغتين مختلفتين. ومن متطلبات التعامل مع مختلف مستويات النص، ترجمة: سعة الثقافة والقراءة، ثم القراءة، والقراءة المتواصلة؛ وصناعة إلفة مع المفاهيم والأفكار المجردة والمتحققة، والمعرفة عن الأشخاص والأماكن والأحداث، وجمع مخزونات لا تني تتعاظم من المفردات والبدائل والاستراتيجيات ومهارة التفكيك والتركيب، لتكون الأفكار بعد الترجمة هيَ هيَ. ولو كان المترجم شخصاً يعرف لغة أجنبية فقط، لكان كل من يعرف لغة ثانية مترجماً. لكن الأمر ليس كذلك. وقد عرفت علماءً بلغوا أقصى درجات العلم في لغة أجنبية وأدبياتها، لكنهم يلجأون إلى "مترجم" لمساعدتهم في إعادة كتابة بعض النصوص.
عن "اليوم العالمي للترجمة"، يقول أحد المصادر: "هذه فرصة للتعبير عن الفخر بمهنة تصبح أكثر أساسية باطراد في عصر متواصل الذهاب إلى العولمة". ثم يقول عن المترجمين: "وما يزال أكثرهم -في كثير من الأحيان- في الظل". لعلَّ هذه المقالة الصغيرة تلقي شعاعاً صغيراً من الضوء على ذلك "الظل"، ولو أني أعرف تماماً كم هي شهادتي مجروحة!