أنا ذاهب اليوم إلى القدس!
الخلاف الذي لم يُحسم يوماً حول حلال أو حرمة زيارة القدس تحت الاحتلال انفجر إثر الفتوى الاخيرة للشيخ القرضاوي التي يحرم فيها على غير الفلسطينيين زيارتها مما حدا بوزير الاوقاف في السلطة الفلسطينية محمود الهباش (29/2/2011) أن يطالبه بالتراجع عنها لأنها خاطئة «تخالف صريح القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة فضلا عن أنها تقدم خدمة مجانية للاحتلال الاسرائيلي الذي يريد عزل المدينة المقدسة عن محيطها العربي والاسلامي ولا يرغب برؤية اي وجود عربي او اسلامي فيها، ويعمل في نفس الوقت على تكثيف الوجود اليهودي لتهويد المدينة المقدسة» وأكد وزير الاوقاف الفلسطيني أن زيارة القدس فريضة شرعية وضرورة سياسية وأنها حق مشروع للجميع، وكرر ما قاله الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبل ذلك في افتتاح مؤتمر القدس الدولي بالدوحة من أن زيارة القدس لا يمكن أن تكون تطبيعاً مع إسرائيل بل هي حالة من التواصل مع القدس واهلها وأن زيارة السجين ليست اعترافاً بالسجان أو تطبيعاً معه، وأن زيارة المسلمين والمسيحيين للقدس تمثل تحديا لسياسات اسرائيل التي تهدف الى عزل المدينة المقدسه وتشكل دعما ماديا ومعنويا للمرابطين فيها حتى لا يشعروا بانهم وحدهم في معركة الدفاع عن عروبتها ومقدساتها الاسلامية والمسيحية.
وهنا ربما يجدي أن أعود الى ما قبل اثني عشر عاماً (بالتحديد في 14/10/1999) حين كتبت تحت نفس العنوان: بعد سويعات من ظهور هذا المقال اكون في القدس التي لم ازرها منذ اثنين وثلاثين عاما، فآخر عهدي بها يوم الثالث من حزيران 1967 بمناسبة اجتماع مجلس نقابة الاطباء الذي كنا نعقده دوريا، مرة في عمان ومرة في القدس... لماذا ازور القدس ولماذا الآن؟ اهي زيارة سياسية أم اجتماعية ام صحية (بمعنى الصحة العامه وليس الشخصية) ام ثقافية؟! اهي مجرد سياحة وحب استطلاع ام رغبة كتمتها عقودا لاحققها الان فجأة وبدون تمهيد؟! أهو شعوري الدفين بان سني العمر تمضي ولا يدري الانسان مداها فلماذا الانتظار اكثر؟ ام هل اريد ان اعرف عن القدس اكثر مما عرفته ويعرفه كل الناس، اوضاعها وظروفها واحتلالها واحوال الصامدين فيها وبقايا تراثها المحاصر من كل الجهات؟!. أم أن المعرفة المباشرة بالرؤية واللمس والمعايشة والمناقشة هو نوع آخر من المعرفة، اغزر واعمق واصدق؟! هل القدس وحدها هي مقصدي ام أنني أحن كذلك لكل ما حولها وما يحيط بها ويتعلق بها من ارض فلسطين تاريخا وجغرافيا؟ ام هم الناس هناك الذين افتقدتهم لما هو اطول من جيل كامل؟ ماذا فعلوا وماذا يفعلون فالذين عرفتهم شبابا غير الذين سألتقيهم اليوم شيوخاً؟ ترى كيف يفكرون ومن المستحيل ان يفكروا مثلنا ومثل باقي البشر فظروفهم غير الظروف وحاضرهم غير الحاضر المالوف ومستقبلهم بالغموض محفوف..؟ ان كل الاسئلة التي اطرحها اليوم على نفسي وقد يطرحها اي انسان عليّ هي اسئلة مشروعة محقة تحمل في طياتها اجوبتها وقد تحمل الاجوبة مزيدا من الاسئلة لا لتخلق مزيداً من الحيرة بل لعلها تفتح امامي آفاقا رحبة من معرفة القدس ومعرفة فلسطين ومعرفة الوطن، صغيره في قلب كبيره... ذات يوم من عام 1968 كنا - المرحوم سليمان الحديدي وانا - نزور الرئيس العراقي الراحل عبد الرحمن عارف كوفد من لجنة انقاذ القدس فطفق يتحدث بحرقة عن فلسطين مستنكرا أن نسميها «الضفة»! وقال في نهاية حديثه: سوف نعود للقدس معا إن شاء الله.. ولم يعد أحد! وأنا اليوم مجرد «زائر»!
وبعد أسبوع (21/10/1999) واصلت الكتابة عن تلك الزيارة تحت عنوان «صابرين»: في بيت لحم..في جامعتها وقرب كنيسة المهد في ظلال التاريخ الذي يقترب من اغلاق الالفية الثانية حيث الاستعدادات على قدم وساق للاحتفال بها، وفي مدرج في الهواء الطلق قضينا ليلة ممتعة مع فن فلسطيني واعد يسحرك بادائه الموسيقي الرائع ويهز وجدانك بالغناء العذب ويبهرك وانت تشهد قدرات بسيطة حققت كل ذلك في اعتى ظروف المعاناة فاستحق اصحابها اسم الصابرين.. الحفل اقامته هيئة الاذاعة البريطانية (العالمية) لتسجيل واحد من عشرة برامج تمثل افضل العروض الموسيقية والغنائية التي انتقتها من جميع دول العالم بعناية بالغة كي تذيعها بمناسبة الاحتفالات بالالفيه، وقد وقع الاختيار على فرقة «صابرين» التي تعتبر الآن طليعة الفرق الفلسطينية في هذا المجال.. وحين عدنا الى القدس في تلك الليلة كانت قبة الصخرة كالبدر الذي يملأ الدنيا بضيائه وكانت الاسوار تغتسل بشلالات الانوار من كل صوب وكانت الاسواق الضيقة القديمة تزخر بالحركة والحياة وتكتظ بالناس من كل جنس ولون، وتذكرت لحظتها الشهيد كمال ناصر في اول خطاب له بعد ابعاده الى الاردن عام 1967 وقد استهله بالقول: لا احلى ولا اجمل، لا اروع ولا اعظم من القدس.
في الشهر التالي (14/11/1999) كتب الصديق الدكتور معن أبو نوار تعقيباً تحت عنوان «يا أخي زيد.. حدثنا.. لا تحرمنا»: لولا انني اعرف الاخ الدكتور زيد حمزه لظننت انه يحلم في مقاله «صابرين» (الرأي الغراء) لكنه زيد، جمع بين برود العلم وعافية العاطفة، بين واقعة الوصف وبهاء الفصاحة، بين وصفاته للقيم والمعاني وكأنها طبية، وبين نبل الحب المجرد من اي غاية غير الحب.. حب القدس. كل ذلك انتابني وانا اقرا «صابرين» وحتى صحوت من غفوتي الحالمة وكدت أصيح حدثنا يا أخي زيد، لا تحرمنا!.. بربك حدثنا، هل وجدت اثرا للامة العربية والامة الاسلامية في القدس أم هل صعقت مثلنا بغياب العرب والمسلمين عنها، بغربتهم عن مصيرها ومستقبلها باهمالهم لحاجاتها ومعاناتها، بصدهم عن الاقبال على رفع احزانها، والاندفاع لاطلاق سراحها وفك اسرها، بربك حدثنا هل ماتت الامة العربية والامة الاسلامية في القدس؟ بربك حدثنا.. هل رأيت القدس وهي ترفع يديها ضارعة الى الله تعالى تستنجده بصيحات استغاثة باكية، ان ينسى كل عربي وكل مسلم ينساها؟.
فكتبت بعد ذلك بأيام (18/11/1999) بعنوان «زوروني».. أما القدس يا أخي معن التي أثارت كتابتي عنها في نفسك شجونا واي شجون فذكّرتْك بالشهداء والمحاربين البواسل من رفاق السلاح، فهي القدس التي قال عنها محمود درويش في (الراي) امس: (انها ليست رمزا دينيا فحسب، هي ماضٍ وحاضر، حجرٌ وبشر، أُلوهةٌ وزمن.. اما القدس حاضرا وواقعا فشعبٌ يعيش تحت الاحتلال)، وهي نفسها التي يثور حولها هذه الايام في بلدنا جدل كذلك الذي دار يوما حول جنس الملائكة، أهُمْ اناث ام ذكور؟ أزيارة القدس حلال ام حرام؟! وبعد يا أخي معن، ازعم أني قرأت الجواب الصادق في عيون الناس البسطاء الذين لم يسألهم المتجادلون رايهم مع انهم هم الذين تزدحم بهم الحياة في شوارع القدس العتيقة كالمؤمنين المتوجهين زرافات ووحدانا للصلاة والعبادة، أو كالباعة الذين يملأون اسواقها ويفترشون طرقاتها يعرضون او يعرضن (فالاختلاط من اجل لقمة العيش لم تصله بعد قوى التفريق والتحريم) بضائع من كل صنف ولون ولعل اطيبها واحلاها تلك الخضار الغضة والثمار اليانعة من بساتين القرى او حواكير البيوت، وكأخرين وآخرين ممن تقول عيونهم قبل السنتهم: يا من لم تفعلوا من اجلنا شيئاً، على الاقل زورونا !
وبعد، فهل سطوري القديمة وبوْحُ معن ابو نوار والعتبُ الساطع في عيون أهل القدس سوف تجدي وسط عجاج الآراء والفتاوى؟