الضحية والمتهم

لو حدثت معجزة سياسية ، بتحقيق حل عادل للقضية الفلسطينية ،لن يستطيع أذكى كمبيوتر أن يحسب رقم التعويضات التي يستحقها الشعب الفلسطيني ، وتكبده خلال عشرات السنين ، بسبب الاحتلال الاسرائيلي لأرضه خسائر مادية ومعاناة انسانية لا تقدر بثمن ،» شهداء وجرحى وتشرد وعذابات اللجوء، والمجازر الوحشية» ،وآخرها النتائج الكارثية للعدوان على قطاع غزة في الصيف الماضي ، لكن من المفارقات المضحكة أن الفلسطينيين يتحولون الى متهم والمجرم الى ضحية ، وهو ما عكسه القرار الظالم الذي اتخذته محكمة اميركية قبل أيام، وانتصرت فيه لعشر أسر أميركية، بإصدار حكم يطالب منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بدفع» 218» مليون دولار ، كتعويضات عن هجمات وقعت في القدس بين عامي» 2002 و2004» خلال الانتفاضة الثانية ،وقتل خلالها « 33» شخصا وأصيب « 450 «،وقد يزيد المبلغ المطلوب الى ثلاثة أضعاف «655» مليون ، بموجب القانون الامريكي لمكافحة الارهاب الصادر عام 1992. واتهام المنظمة سببه دفعها رواتب وتعويضات لشهداء فلسطينيين وعائلاتهم ، ممن قاموا بتنفيذ عمليات فدائية.
وهذه المرة الثانية خلال عدة أشهر، التي ينحاز فيها القضاء الاميركي عمليا الى الموقف الاسرائيلي ، حيث أدانت محكمة نيويورك في ايلول الماضي» البنك العربي» ، بزعم تمويل حركتي حماس والجهاد الاسلامي ،وقضت المحكمة بتعويضات قيمتها مليار دولار يدفعها البنك لأسر الاميركيين ، الذين قتلوا أو جرحوا في هجمات للحركتين داخل اسرائيل وفي الاراضي.
والقصة حسب ادعاء المشتكين، أن البنك العربي قام بتحويل سبعين مليون دولار، بين عامي «2000 و2004» لمنظمة سعودية ولجمعيات خيرية، زعموا أنها مرتبطة بحماس ولنحو 11 شخصا متهمين بما يسمى الارهاب،وهي قصة تبدو مفبركة حسب الدفوعات التي قدمها البنك في طعنه بالحكم.
وفي الوقت الذي دخلت فيه القضية الفلسطينية، في مرحلة جمود سياسي منذ بضع سنوات، بعد فشل المفاوضات التي قادها وزير الخارجية الاميركي جون كيري ،وانشغال العرب بحروبهم الاهلية ، يأتي توقيت الحكم الاميركي، ليشغل الفلسطينيين بقضية جانبية، حيث يتحول الضحية الى متهم ، وستضطر السلطة ومنظمة التحرير، الى استئناف الحكم ، وهي معركة قانونية تبدو صعبة وطويلة، تتزامن – وذلك لا يبدو صدفة- مع استعدادات السلطة الفلسطينية، لعرض ملف جرائم الحرب الاسرائيلية في قطاع غزة وخلال الفترة السابقة على محكمة الجنايات الدولية، وبالفعل شكلت المحكمة مؤخرا فريق تحقيق في جرائم الحرب ، وهو ما أصاب الحكومة الاسرائيلية بالذعر، خشية تعرضها وجنودها للادانة ، ما دعا نتنياهو لمطالبة واشنطن بالتدخل ، لإلغاء قرار مباشرة التحقيق في تلك الجرائم.
ويتزامن الحكم أيضا مع تشديد الضغوط الاسرائيلية على السلطة، من خلال وقف تحويل أموال الضرائب الفلسطينية وقرصنتها منذ شهرين، الامر الذي يهدد بانهيار السلطة، حيث لا تستطيع دفع رواتب موظفيها ، فضلا عن تكثيف عمليات الاستيطان وتهويد المقدسات والاراضي الفلسطينية، لفرض أمر واقع يمنع قيام دولة فلسطينية !
وهو هدف تتفق عليه غالبية الاحزاب والنخب الاسرائيلية ، بل ان بعضها يعتبر إقامة دولة فلسطينية « انتحارا لاسرائيل « ،حتى لو بدا على السطح بعض التباينات في مواقفها ،فمن لا يعلن صراحة رفضه القبول بقيام الدولة ، يرد ضمنا في أجندته السياسية ،من خلال الشروط التعجيزية لأي تسوية سياسية ،فأي دولة فلسطينية مفترضة في نظر هؤلاء ،يجب ان تتكون من «كانتونات» مقطعة الاوصال منزوعة السيادة والسلاح،وخلال موسم الانتخابات التي ستجرى الشهر الحالي ،تكثر المزايدات بين الاحزاب الاسرائيلية، وجميعها تستهدف الحقوق الوطنية الفلسطينية.
وكما ان الادارة الاميركية تقدم الدعم لاسرائيل ،جاء قرار المحكمة هدية لليمين الاسرائيلي ، لاستغلال واساءة استخدام النظام القضائي الاميركي ، بشكل يبرر تطرف الحكومة الاسرائيلية وتعطيل «حل الدولتين « ، وعلى النقيض من حالة الاحباط الفلسطينية، بدا الموقف الاسرائيلي مبتهجا بقرار المحكمة ، وعبر عنه رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الخارجية ليبرمان ،بوصفهما الحكم بالنصر المعنوي لاسرائيل ،وما يسمى»ضحايا الارهاب» وتحميل السلطة المنهكة سياسيا وماليا مسؤوليات وأعباء جديدة !